جريدة الجرائد

عندما يطرح بوش الدولة الفلسطينية بديلا عن القضية الفلسطينية..!

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك



بلال الحسن


كان "الشرق الأوسط الكبير" حسب التسمية الأميركية، هو الموضوع الرئيسي، وربما الوحيد، للدورة الحالية للجمعية العامة للأمم المتحدة. يمكن القول إن ذلك يتم بسبب الحروب والمواجهات والأزمات التي تعصف بالمنطقة، من فلسطين إلى لبنان والعراق وايران. ولكن من الأدق القول إن هذا الاهتمام العالمي بقضايا "الشرق الأوسط الكبير" إنما يتم بسبب السياسة الأميركية الفريدة من نوعها، تجاه هذه المنطقة، إذ بينما تقدم الولايات المتحدة الأميركية نفسها، على أنها "وصفة" لحل المشاكل، يتأكد يوما بعد يوم أنها الأداة الرئيسية لتفجير المشاكل، ففي كل منطقة يتم الحديث عنها هناك يد أميركية، خفية أحيانا، وعلنية أحيانا أخرى، تحتل، أو تضغط، أو تنحاز، أو تعرقل.

لقد ألقى الكثيرون من الرؤساء خطبا تركزت في جزء أساسي منها على الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ووردت في هذه الخطب اقتراحات جديدة ملفتة للنظر. الرئيس جاك شيراك دعا إلى ضمانات للسلام، وأشار في خطابه إلى "الصراع الذي لا ينتهي في الشرق الأوسط"، وقال "إن التأجيل الدائم للحل أدى إلى تحول هذا الصراع إلى بؤرة مركزية لعدم الاستقرار الدولي". ومضى يقول "إن الوضع القائم في هذه المنطقة ... لم يعد يطاق، ولأن أزمة الشرق الأوسط تهدد السلام والأمن العالميين، فليس أمام العالم خيار آخر سوى تقديم ضمانات للسلام، والخروج من الطرق التقليدية، واعتماد استراتيجية شاملة يكون مفتاحها الحل الفلسطيني ـ الإسرائيلي في إطار دولتين تعيشان جنبا إلى جنب". وانفرد شيراك بالإشارة إلى ضرورة إنجاز "تسوية عادلة لقضيتي القدس واللاجئين".

كوفي أنان الأمين العام للأمم المتحدة، ألقى خطابه الوداعي والأخير، وضمنه حديثا دقيقا عن الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ولكن مضمون حديثه يطرح مسألة خطيرة، إذ غابت عنه القضية الفلسطينية، وحضرت فقط قضية الأراضي المحتلة منذ العام 1967. قال "ليس هناك أي نزاع آخر يشحن ذلك القدر من العاطفة والرمز القوي بين شعوب خارج نطاق المعركة" كما النزاع العربي ـ الإسرائيلي. وقال "طالما بقي الفلسطينيون تحت الاحتلال يعانون من الإحباط اليومي ومن الإذلال، وطالما هناك إسرائيليون يفجرون في حافلات أو قاعات الرقص، ستظل المشاعر ملتهبة في كل مكان". وأضاف "طالما يظل مجلس الأمن عاجزا عن إنهاء هذا النزاع، والاحتلال الذي طال لمدة أربعين سنة "أي منذ 1967" .. سيستمر تراجع الاحترام للأمم المتحدة".

ثم جاء خطاب الرئيس الأميركي جورج بوش معبرا عن جوهر الأزمة، حيث اليد الأميركية موجودة في كل مكان، تثير الفتن والحروب والمشاكل، بينما لا ترى الولايات المتحدة في ما يجري سوى النتائج الإيجابية و "التغيرات المبهرة". لقد خاطب بوش ست دول عربية بالاسم "إضافة إلى إيران طبعا" ، وكانت كل مخاطبة تتضمن التهديد والوعيد.

وضع الرئيس بوش الإطار العام لنظرية الصراع الذي يتولى هو قيادته، وصور الأمر كما يلي: إن العالم منخرط في صراع ايديولوجي شديد.. بين المتطرفين والمعتدلين. وهو يدعو داخل هذا الصراع إلى "الدفاع عن الحضارة... التحدي العظيم لعصرنا. إنه مهمة حياتنا". وهو يعبر عن تفاؤله بالنجاح الذي يتم تحقيقه ويقول "نحن نشاهد اليوم هذا المستقبل المشرق وقد بدأ يمد جذوره في الشرق الأوسط الكبير. وقد كانت بعض التغيرات في الشرق الأوسط مبهرة". وهو يبتكر هنا بشكل خاص نجاحاته في أفغانستان والعراق، قافزا بالطبع من فوق الدماء والدمار في البلدين. ويلفت النظر في خطاب بوش حديثه عن لبنان وسوريا. ففي لبنان يحمل مسؤولية الحرب لحزب الله ويبرئ إسرائيل حتى من التسبب بالدمار، ويحرض طرفا من اللبنانيين على الآخر قائلا "العالم يساعدكم على التعامل مع المتطرفين الذين يخربون ديمقراطيتكم بتصرفهم كدولة داخل الدولة". أما تجاه سوريا فهو لا يستطيع أن يرى سوى أنها دولة داعمة للإرهاب، وهو يحدد الإرهاب بدعم سوريا لحركة حماس وحزب الله، وعلى سوريا بالنتيجة أن تتخلى عن أي دعم للقوى التي تقف في وجه إسرائيل من أجل "فتح المجال أمام حياة أفضل لكم ولعائلاتكم"، ومن دون أن يذكر احتلال إسرائيل لمنطقة الجولان بكلمة واحدة. إن خطاب بوش هو بامتياز خطاب دعم لإسرائيل ضد العرب جميعا، وهو يبلغ الذروة حين يتحدث مباشرة عن الموضوع الفلسطيني.

يقول بوش "أنا ملتزم بمبدأ الدولتين الديمقراطيتين إسرائيل وفلسطين ..أنا ملتزم بدولة فلسطينية ذات أرض متصلة جغرافيا تعيش بسلام مع دولة إسرائيل "اليهودية". هذا الهدف هو واحد من أكبر أهداف رئاستي". يتمتع هذا الموقف بمظهر إيجابي بالغ، ولكنه يقفز من فوق كل قضايا الخلاف الهامة، يقفز من فوق حدود الدولة، ويتجاهل المستوطنات، ويتجاهل التطرق لقضية القدس، ويتجاهل الحديث عن اللاجئين الفلسطينيين. وفي هذه المسائل كلها هناك موقف أميركي معلن في رسالة رسمية وجهها بوش إلى آرييل شارون، وسميت "وعد بوش"، وتبنى فيها كل مواقف إسرائيل ضد المطالب العربية والفلسطينية، الأمر الذي يجعل من موقفه هذا موقفا مغشوشا تنهار كلماته المنمقة في أول جولة من جولات المفاوضات.

وحين نتوغل أكثر في خطاب بوش، تبرز بوضوح كبير رؤيته الزائفة واللامتوازنة للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. إنه يتحدث عن معاناة الشعب الفلسطيني، وهو يرى أن لهذه المعاناة ثلاثة أسباب "الفساد والعنف والإهانة اليومية من الاحتلال"، أي أن هناك سببين فلسطينيين للمعاناة "الفساد والعنف" ، وسببا إسرائيليا واحدا "الاحتلال" ، لا بل إن هناك مسؤولية فلسطينية أكبر بسبب المقاومة الفلسطينية للاحتلال، وهو يدين هذه المقاومة قائلا "تحمل الشعب الإسرائيلي أفعال الإرهاب الوحشية والخوف المستمر من الهجمات منذ ولادة الدولة".

وبعد هذا التوصيف الزائغ واللامتوازن نصل إلى الحل الذي يقترحه بوش، وهو في النهاية حل عجيب غريب، حل أساسه إصلاح أجهزة الأمن الفلسطينية !! يقول "أمرت وزيرة الخارجية رايس بأن تترأس جهدا دبلوماسيا لإشراك القادة المعتدلين في المنطقة كلها، في مساعدة الفلسطينيين على إصلاح أجهزتهم الأمنية". كيف تستطيع الأجهزة الأمنية اجتراح المعجزة، وإيجاد مدخل لحل الصراع المحتدم منذ مائة عام؟ بأسلوب واحد فقط، هو تنظيم حرب أهلية فلسطينية، وذلك عبر قيام أجهزة الأمن "حين يتم إصلاحها" بشن حرب ضد ما يسمى "البنية التحتية للإرهاب". هذا هو الفهم الأميركي للحل، وهذا ما ستعمل رايس على ترجمته إلى أمر واقع، والمطلوب بعد ذلك أن يتفاءل الفلسطينيون، وأن يتفاءل العرب بالحل الأميركي القادم على الطريق.

لقد بادر العرب إلى تقديم مبادرة إلى مجلس الأمن، تطلب منه إعادة النظر في كيفية العمل لتطبيق قراراته المتعلقة بالصراع العربي ــ الإسرائيلي. تقول المبادرة إن أسلوب عمل مجلس الأمن السابق قد فشل، ولا بد من البحث عن صيغة عمل جديدة. وتقترح المبادرة العربية أن تعود القضية إلى مجلس الأمن "بدلا من الاحتكار الأميركي لها" ، وأن يحدد لحلها سقف زمني "نهاية 2007" ، وأن تكون مرجعية الحل قرارات مجلس الأمن نفسه مع تحديد مسبق لهدف المفاوضات "دولة فلسطينية بحدود 1967" حسب مبادرة قمة بيروت العربية عام 2002. ولكن هذه المبادرة لقيت صدى من الولايات المتحدة الأميركية نفسها، فهي رفضت أن ينعقد مجلس الأمن في جلسة خاصة تحت عنوان "البحث في عملية السلام" ، وفرضت أن تكون الجلسة تحت عنوان "جلسة وزارية خاصة". كذلك رفضت الولايات المتحدة أن يصدر عن هذه الجلسة قرار باسم مجلس الأمن، وأصرت على أن يقتصر الموضوع على بيان رئاسي، ويحتاج البيان الرئاسي طبعا إلى الإجماع، وهو في النهاية غير ملزم لأحد.

وأخيرا نسأل: ما هو سبب هذا الاهتمام الأميركي المتسارع بالموضوع الفلسطيني؟ إن الجواب واضح وضوح الشمس، وهو يتعلق بالعدوان الإسرائيلي على لبنان، وباهتزاز صورة الجيش الإسرائيلي أمام المقاومة الكفؤة لمقاتلي حزب الله. وتقوم الولايات المتحدة بعمل دبلوماسي كبير لامتصاص نتائج هذه الصدمة، من مظاهره استقبال الرئيس محمود عباس والتحدث إليه. لقد التقى محمود عباس مع الرئيس بوش مرتين حين كان رئيسا للوزراء، ولقي الصد منه مرتين، رافضا طلبه بممارسة ضغط على إسرائيل. وها هو يلتقي معه في البيت الأبيض للمرة الثالثة، ليلقى منه الصد نفسه، فالرئيس الأميركي منشغل بإسرائيل ومطالبها، وهو لا يستطيع أن يرى في البلاد العربية سوى حركات إرهابية تقف في وجه إسرائيل.


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف