ديالكتيك نصرالله وإشكاليّات الخطاب اللبناني ومشكلاته
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
نصير الأسعد
في قراءة "استراتيجية" لخطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله في "مهرجان الانتصار" أول من أمس، يتبيّن أن هذا الخطاب ينطوي على بعض الجديد، وفي الوقت نفسه على عدد من التناقضات.
بداية، لا مفرّ من ملاحظة أن البنية الرئيسية للخطاب، وإن كانت تخللتها إشارات إلى الوضع العربي والإقليمي ومواقف في هذا المجال، إنما كانت في الإجمال بنية تركزت على العناوين اللبنانية، أي أن الخطاب كان "لبنانياً" بالدرجة الأولى ومسكوناً بقضايا "لبنانية". أما الإشارات إلى الوضع العربي ـ الإقليمي فجاءت على ما يبدو في إطار تسجيل الانتماء إلى تحالفات عربية وإقليمية، لا سيما التحالف مع سوريا ونظامها ومع إيران ونظامها.
الخطاب "اللبناني": المقاومة وسلاحها بالعلاقة مع الدولة "الحسنى"
في هذا الخطاب "اللبناني" إذاً، برزت نقطة مهمة تتعلق بمقاربة نصرالله لمسألة المقاومة وسلاحها. وفي هذه المقاربة، وإذ دعا إلى معالجة "الأسباب" وليس البحث في "النتائج"، قال نصرالله "عندما نبني الدولة القوية القادرة سنجد حلاً مشرّفاً للمقاومة وسلاحها". وأضاف "تعالوا نبني الدولة القوية القادرة التي تحمي وستجدون أن حل مسألة المقاومة لا تحتاج إلى طاولة حوار".
ومع أن نصرالله تحدث عن مزارع شبعا وعن الأسرى في السجون الإسرائيلية، فإنه لم يقل على سبيل المثال أن لا بحث في المقاومة وسلاحها قبل تحرير مزارع شبعا واستعادة الأسرى. ولم يقل مثلاً إن المقاومة باقية بسلاحها إلى "نهاية" الصراع العربي ـ الإسرائيلي إلخ. ربط موضوع المقاومة وسلاحها بمسألة لبنانية هي بناء الدولة القوية المقاومة القادرة العادلة، إلى ما هناك من أسماء حسنى أضفاها على الدولة.
مقاربة مؤسسة على انتهاء الدور الإقليمي؟
هذا جديد، أو على الأقل هو جديد بدرجة وضوحه. لكن الله يشاء ألا يكمل السيد نصرالله المقاربة إلى النهاية. كيف؟
يحق لمن يقرأ الخطاب بتمعّن أن يقدّر أن "وصول" نصرالله إلى هذه المقاربة لمسألة السلاح التي تربط مصيره بالدولة القوية، إنما هو ـ أي الوصول إلى هذه المقاربة ـ نتيجة لظروف موضوعية تفيد أن الدور الإقليمي لمقاومة "حزب الله" انتهى وأن حرب تموز أدت إلى انتهائه. ذلك أن النتيجة السياسية الأهم للحرب، وهي النتيجة الوحيدة التي لا غبار عليها، والمجسّدة في القرار 1701، تعني "عزل" الأبعاد الإقليمية.
طبعاً لم يكلف الأمين العام لحزب الله نفسه التوقف عند هذه النتيجة السياسية، ولم يشرح موافقة الحزب عليها. اكتفى في هذا المجال بإشارات متناقضة. قال إن الـ1701 ليس مقدساً. ثم قال إن المقاومة لن تخرقه. وعاد في مكان آخر ليحذّر من أن صبر المقاومة لن يكون طويلاً في حال استمرت الخروق الإسرائيلية للقرار الدولي.
ما موقع الـ20 ألف صاروخ؟ وكيف تنفّذ "الاستراتيجية الصاروخية"؟
غير أن نصرالله، وفجأة في قسم آخر من خطابه، طمأن جمهوره ووجه رسائل في اتجاهات متعددة بالقول إن المقاومة استعادت بعد الحرب بنيتها التنظيمية والعسكرية، فأعلن أن "حزب الله" يمتلك الآن أكثر من 20 ألف صاروخ، أي أكثر مما كان لديه في 12 تموز الماضي.
الحديث عن 20 ألف صاروخ من جانب نصرالله أثار "انطباعات" في الوسط السياسي. ثمة من سأل عن كيفية حصول التعزيزات للقدرة الصاروخية بعد الحرب ووصولها إلى الحزب بما أدى إلى تعويض ما خسره في الحرب وزيادة حجم الترسانة الصاروخية الأصلية. وثمة من رأى أن هذا الكلام يدخل في إطار تعبوي، أي أن نصرالله يخاطب "شارعه" بالقول إن الحزب استعاد أحد مقوّمات القوة. وثمة من أعرب عن اعتقاده أن وراء هذا التلويح بـ20 ألف صاروخ، رسالة إلى أميركا وإسرائيل بأن لا تبنيا على فرضية أن الأمور في لبنان انتهت وبأن في وسع الولايات المتحدة التفرّغ لـ"جبهات" أخرى في المنطقة، وبأن "حزب الله" لا يزال حاضراً.
بيد أن هذه "الانطباعات" على أهميتها، لا تختصر "الصورة". ذلك أن السيد لم يخبر اللبنانيين الذين استمعوا إليه عن موقع الـ20 ألف صاروخ في استراتيجية بعد الحرب. بمعنى آخر لم يخبر نصرالله اللبنانيين عن الاستراتيجية التي في إطارها سوف يستخدم الحزب الصواريخ الجديدة، أو التي في إطارها قد يهدّد باستخدامها. وأكثر من ذلك، يمكن القول إن الظروف الموضوعية بعد الحرب وانطلاقاً من القرار 1701، لم تعد تسمح لحزب الله باستراتيجية من هذا القبيل، لأن من شأن استراتيجية مبنية على القوة الصاروخية أن يقود تنفيذها إلى مواجهة مع الجيش اللبناني و"اليونيفيل" المعزّزة المنتشران في الجنوب حتى الحدود الدولية.
إذاً في وقت يعطي نصرالله إشارة "لبنانية" في مقاربته التي تربط انتهاء المقاومة وسلاحها بقيام الدولة القوية، وفيما تبدو هذه المقاربة مؤسسة على واقع أن البعد الإقليمي للمقاومة الإسلامية انتهى، وهذا هو المعنى العميق للكلام عن خسارة "حزب الله" لاستراتيجيته بسبب الحرب، يبدو أن نصرالله يرفض الاعتراف، علناً على الأقل، بهذه النتيجة "الحاسمة" ويقرن عدم اعترافه هذا بتلويحات مثيرة للريبة، في موضوع الصواريخ. وفي انتظار أن يعود نصرالله ويشرح للبنانيين ما قصده وكيفية تشغيل الصواريخ ضمن الظروف القائمة، تبقى هذه المسألة إما مجرّد "بروباغندا" وإما ضبابية مقصودة.
نصرالله يعلن انتصاره.. ويستقوي على الداخل
أما الشق الاستراتيجي الثاني ولعله الأهم في الخطاب "اللبناني" لنصرالله، فيتعلق بالوضع الداخلي.
غني عن القول هنا إن الأمين العام لحزب الله لم يكتفِ بإعلان الانتصار على إسرائيل، مغفلاً في الوقت نفسه مقاربة القرار 1701 كنتيجة سياسية يُعتدّ بها وتشكل معياراً للانتصار السياسي أو عدمه أو حدوده، بل هو سارع إلى الاستقواء بانتصار موضع نقاش علمي وموضوعي، على الداخل اللبناني. بسرعة، نقل "حزب الله" معركته إلى الداخل.
على أن اللافت في خطاب نصرالله، هو أنه في حديثه عن "الدولة القوية القادرة"، تحدث في عموميات وأغدق كلاماً إنشائياً. لكنه عندما "حاول" التحديد تحدث عن نقطتين فقط: حكومة الاتحاد الوطني، وقانون الانتخاب. "الدولة القوية القادرة" تصبح من وجهة نظره والحالة هذه، حكومة وحدة وطنية وقانون انتخاب.
الحدّ الأدنى: تحسين الموقع في السلطة السياسية
لم يأتِ نصرالله في أي من محطات خطابه على ذكر اتفاق الطائف كمرجعية لبناء الدولة. ولا يتم إغفال اتفاق الطائف بشكل متكرّر من جانب "حزب الله" بشكل عفوي، فالإغفال موقف.
لذلك، فإن ما يطرحه نصرالله في هذا المجال، إذ يعتبر نفسه منتصراً و"يلمّ" تحت جناح هذا الانتصار كلّ القوى الموالية للنظام السوري، هو تغيير السلطة السياسية. وبهذا المعنى، ثمة حدّ أدنى في الطرح، هو "تحسين" حصّة "المنتصر" و"المنتصرين" معه في السلطة السياسية، بحيث يتمكنون من تشكيل الثلث المعطّل في مجلس الوزراء.
الحدّ الأقصى: الطائف هدفاً
بيد أن ثمة حداً أقصى لا يزال غير معلن حتى الآن، بالرغم من ملامحه "المتصاعدة". والحد الأقصى، هو إعادة النظر في اتفاق الطائف في وقت لاحق. ذلك أن الإغفال المتمادي لاتفاق الطائف كمرجعية لعملية بناء الدولة في الخطاب السياسي لحزب الله يعكس عدم اعتراف به، مع أنه يضع أسس الدولة القوية بالعيش المشترك والشراكة الوطنية. ويتزامن عدم اعتراف الحزب بالطائف، مع كلام لعدد من قيادييه، بمن فيهم وزراؤه، عن أن المعادلات المحلية والخارجية التي أدّت إلى توليد هذا الاتفاق، قد تغيّرت اليوم. ولذلك، تبدو الجملة التي وردت في خطاب نصرالله أول من أمس في هذا المجال، مهمة وخطيرة. ففي معرض تناوله مسألة "سلاح المقاومة" قال إن "أي حديث عن تسليم السلاح في ظل هذه الدولة وهذه السلطة وهذا النظام، يعني إبقاء لبنان مكشوفاً".
اختلاط المصطلحات والتحالف مع عون
في الاستدلال على أن ثمة حداً أقصى، يجب الإشارة إلى إدراج نصرالله لمصطلحات الدولة والسلطة والنظام في سلّة واحدة. فإذا كان "مفهوماً" أن يطالب بتغيير في السلطة، فمن غير المفهوم تناوله في سياق واحد للدولة والنظام.. فالدولة هي دولة الطائف والنظام السياسي هو الذي حدده الطائف، فلماذا إذاً هذا "الخلط" بين الأصعدة المختلفة؟
وإذا أُخذ في الاعتبار أن التحالف القائم بين "حزب الله" والجنرال ميشال عون، لا يلحظ أي ذكر لاتفاق الطائف كما تجلّى ذلك في ما سمّي "ورقة التفاهم" بين الطرفين، وإذا أُخذ في الاعتبار أيضاً أن قياديين ونواباً في تيار عون ينادون صراحة بإعادة النظر في الطائف، يصبح واضحاً أن هذا الاتفاق "مستهدف".
إما تسوية مع الأكثرية وإما انتظار المواقيت الدستورية
من حق "حزب الله" أن يطالب بتغيير حكومي. ومن حقه أن يتطلع إلى موقع أقوى في السلطة. لكن ليس من حقه فرض ما يقتنع به، وليس من حقه أن يهدد أو أن يلوّح بالقوة.. كما ليس من حقّه إن هو اعتبر نفسه منتصراً أن يحقّق انتصاراً على الداخل.
ومن حقّ فريق الأكثرية أن يرفض تغيير الحكومة، خاصة عندما يكون الهدف المعلن لـ"التغيير الحكومي" هو إسقاط سلطة هذه الأكثرية.
إذاً، أمام تعذّر تغيير الحكومة بالاتفاق، ثمة طريقان. الأول هو أن لعملية تداول السلطة مواقيت دستورية محدّدة، فيمكن للمطالبين بتغيير الحكومة أن يصبروا حتى موعد الانتخابات النيابية المقبلة، أو حتى انتهاء ولاية رئيس الجمهورية الحالي وعندها تستقيل الحكومة. ثمة فرصتان، واحدة بعد عام وثانية بعد ثلاث سنوات. أما إذا كان "حزب الله" يرى الأزمة السياسية في البلد، فالأزمة السياسية تحتاج إلى تسوية، ولا يمكن لأحد أن يقبل سياسة "ما لنا لنا وما لكم لنا ولكم". والتسوية تتعلّق برئاسة الجمهورية أوّلاً على أساس انّ واقعها الحالي غير الدستوري اعتبر في مؤتمر الحوار "السابق" مصدر الأزمة. ولا يمكن أن تكون الأكثرية مدعوة إلى القبول بتغيير الحكومة أي بتسليم السلطة، وفي الوقت نفسه مدعوة إلى القبول بموازين مفروضة فرضاً من خارج عن أي سياق طبيعي وديموقراطي.
والحال أن الإصرار على تغيير الحكومة أو إسقاطها بالفرض، هو مشروع فتنة داخلية. وهذا ما يجب أن يعرفه أولئك الذين يربطون الدولة والسلطة والنظام بخيط واحد.
لا الثنائية الشيعية ـ المارونية ولا العزف على "وتر ماروني" يعوّلان الطائف
اما إعادة النظر بالطائف، فمن المسلّم به أن هذا الأمر مرتبط بالتوافق اللبناني العام، علماً أن الشطر الأكبر من الاجتماع اللبناني يرفض إعادة النظر هذه. لذلك، يخطئ "حزب الله" الحساب إن هو ظن أنه بايحائه بإعادة النظر في الطائف، يعزف على "وتر ماروني"، وسط مطالبات فريق عون مثلاً بإعادة النظر في صلاحيات الرئيس. ويخطئ "حزب الله" الحساب إن بنى على نظرية الثنائية "القوية" الشيعية ـ المارونية لأن الطائف ليس ثنائيات أو ثلاثيات، ولأن الكنيسة المارونية وعلى رأسها البطريرك نصرالله بطرس صفير تنادي بالشراكة الوطنية المتكافئة. ويخطئ "حزب الله" إن هو ساير منطق عون الذي يريد تعويم نفسه مسيحياً بالعزف على وتر ما يدّعيه من استئثار سني بالدولة في ظل الطائف، ذلك إن هذا التشخيص خاطئ لأن الخلل يتصل بواقع الرئيس الحالي للجمهورية وليس بصلاحيات الرئاسة أو بأسس الشراكة حسب الطائف. ويخطئ إن هو رعى منطق أدوات النظام السوري التي تعتبر أن الطائف هو مرادف للوصاية السورية، وأن بديله صيغة جديدة تقوم على ثنائية لا تؤسس مركزاً لبنانياً واحداً.
إذاً، في قراءة استراتيجية لخطاب السيد حسن نصرالله أول من أمس، يتبيّن أن ثمة جديداً يتمثل في "لبننة" الخطاب. لكن "ديالكتيك" نصرالله لم تنجح في تظهير هذا الجديد كما يجب وأغرقته، لا بل أبرزت على نحو حادّ إشكاليات القدرة على "التلبنن" في ظل وعي غير دقيق للنسيج والاجتماع اللبنانيين. ولذلك، يصح وضع الخطاب في مرحلة انتقالية بين "الإقليمي" و"اللبناني" بنيوياً، بين تصعيد وتصعيد في السياسة المباشرة.