11 سبتمبر لحظة عابرة وليست فاصلة في تاريخ العالم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
جميل مطر
ينتابني الشعور أحياناً بأنني ربما تسرعت مرة أو أكثر فكتبت أن 11/9 كان، وسيظل، نقطة تحول تاريخية في العلاقات الدولية عموماً، وفي علاقة منطقتنا بالغرب والعالم خصوصاً. ثم يعود شعور مختلف بأنني ربما تعاملت مع 11/9 بالقدر الذي تعاملت به مع قضايا دولية عابرة، بينما كانت تستحق قلقاً واهتماماً أكثر مما أوليتها إياه، ومع ذلك لا ألوم نفسي أو اتهمها بالتقصير أو الانحياز إلى جانب آخر في هذه القضية وبخاصة بعد أن أتيحت لي خلال الأيام القليلة الماضية متابعة ما كتبه الآخرون في هذه المناسبة وما رصدوه من تغيرات أو تحولات وقعت خلال الأعوام الخمسة الماضية.
يجب أن نعترف بداية أن خمس سنوات ليست بالمساحة الزمنية الكافية للوصول إلى حكم نهائي بالنسبة للمدى الذي ذهبت إليه أحداث 11/9 في "تغيير العالم"، ويجب أن نعترف في الوقت نفسه أننا، أكثر من غيرنا من الشعوب، كنا موضوعاً رئيسياً في هذا التغيير، وقد نختلف في ما بيننا حول ما إذا كنا ضحايا هذا التغيير أم المستفيدون منه، فالانقسام في العالم العربي، والإسلامي أيضاً، حول هذا الأمر ما زال ساخناً.
استطعت أن أجمع من ثنايا النقاش الدائر منذ أكثر من شهر، وبعضه كان حامياً، عشر نقاط يطرحها المفكرون في الولايات المتحدة وأوروبا كنماذج على أن 11/9 كان لحظة فاصلة وليست عابرة وأن التاريخ سيتوقف عندها لينهي فصلاً، ويبدأ فصلاً جديداً. وأود بداية أن أقرر أن معايير التمييز بين ما هو فاصل وما هو عابر لم تكن دائماً واضحة، وأظن ما يجمع بين "الفاصليين"، أي الذين يعتبرون 11/9 لحظة فاصلة، أنهم وضعوا 11/9 في سياق قصير الأجل يلعب فيه الانطباع والانفعال دوراً مهماً، بينما وضعها "العابريون" في سياق تاريخي أطول أمداً تتأثر أحكامه بدواعي حكمة التاريخ وصبره.
تكرر كثيراً نص في عبارة نطق بها الرئيس بوش عقب توليه منصبه رئيساً للولايات المتحدة، جاء فيه أنه يؤمن "بأن دور القوات المسلحة الأميركية هو أن تحارب وتكسب الحرب، وعندئذ ستمنع وقوع الحرب". كانت رؤية بوش في هذه العبارة لدور المؤسسة العسكرية الأميركية واضحة، وهي أن القـوات المسلحة الأميركية يجب أن تكون قوية إلى الدرجة التي تمنع الآخرين من إشعال الحروب. تلك كانت الوظيفة الوحيدة للقوات الأميركية إلى أن قام الرئيس بوش بتكليفها بوظيفة جديدة سبق أن حاولت تنفيذها في الفيليبين منذ قرن أو أكثر من دون نجاح، وهي "بناء الأمة ونشر الديموقراطية وإعادة الإعمار". هنا اختلطت الأمور بشدة، فالجيش المؤهل للحروب العابرة القارات والمحيطات صار مكلفاً بحفظ الأمن في شوارع مدن في أفغانستان والعراق وحماية المنشآت العامة وكبار المسؤولين السياسيين المحليين في عواصم متعددة. صار أيضاً مسؤولاً عن تنفيذ رأي ابتدعه بكفاءة نـادرة أو دناءة متناهية مستشار أو أكثر من المدنيين المسؤولين عن القوات المسلحة الأميركية، وهو إثارة الفوضى الإدارية والسياسية والمذهبية فتختلط الأوراق وتتصادم الأفكار والعقائد وتنشأ الميليشيات المسلحة وتتقاتل، فتنفرط الأمة وتفقد المستقبل حين يسقط علماؤها وحكماؤها قتلى أو يجبرون على الهجرة. وما كان هذا ليحدث - في العراق مثلاً - لو لم تكن القوات المسلحة الأميركية تحمي هذه "الفوضى الخلاقة".
لم يختلف الكثيرون، في داخل الولايات المتحدة أو خارجها، حول اعتقاد الرئيس بوش الشخصي في جدوى الديموقراطية ومثلها العليا، أو حول نيته التي رافقته إلى البيت الأبيض نشر هذه الديموقراطية في العالم، باعتبارها الوسيلة الأكفأ لنشر ثقافة السوق والاستهلاك ولمنع عودة الأفكار المتطرفة كالشيوعية أو انتشار التشدد الديني. ثم وقعت أحداث 11/9، فتضاعف إيمان الرئيس بوش بضرورة نشر الديموقراطية، ولو باستخدام القوة العسكرية وكل الوسائل المتاحة الأخرى، ومنح هذه المهمة التبشيرية الأولوية على ما عداها، وهو ما حدث حرفياً. إذ جاء تنفيذ المهمة التبشيرية (أي نشر الديموقراطية في الخارج) على حساب أمور أخرى منها على سبيل المثال الديموقراطية في داخل الولايات المتحدة. فقد صدر قانون "الوطني" الذي قيد عدداً من حريات المواطنين الأميركيين وتوالت بعد ذلك القوانين واللوائح الإدارية التي تدخلت وبكل جسارة في خصوصيات الإنسان الأميركي. يقال عن هذا التطور، أو التدهور، أن "الغزو الارتدادي" أصاب بأقصى درجة من الضرر أحد أهم أسس النظام الدستوري الأميركي، ويقال أيضاً إن المهمة "النبيلة" التي كانت تقوم بها القوات المسلحة الأميركية في العراق لنشر الديموقراطية فيه، كانت تقابلها مهمة "دنيئة" تقوم بها "القيادات المدنية" للقوات الأميركية لتحجيم الديموقراطية الأميركية وتعظيم قوة السلطة التنفيذية وبخاصة الرئاسية على حساب السلطات الأخرى.
نستطيع الآن، ومن دون تردد كثير، أن نحكم بأن الغزوات التبشيرية لنشر الديموقراطية، بما فيها ارتداداتها، أثمرت ثماراً شديدة العطب وأساءت إلى شجرة الديموقراطية التي كانت دائماً وارفة وواعدة وأصابتها بضرر يصعب إصلاحه بسرعة وبتكلفة إنسانية بسيطة.
لقد دأب بوش ورفاقه على انتقاد الرئيس السابق بيل كلينتون بسبب تركيزه الشديد على الداخل الأميركي وإهماله مصالح أميركا في الخارج. رغم أن سلفه، بوش الاب، كان يركز على الخارج إلى حد شن حرب في الخليج ضد العراق وإلى حد أبعد مدى حين أعلن عن قيام نظام عالمي جديد. كان بوش الاب يتوسع في النشاط الخارجي قبـل أن تكون لديه أو المحيطين به الرؤية الكاملة أو الشاملة لدور أميركا في عالم ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. كانت لدى هذه البطانة إرهاصات رؤية ولم يقتنع بها بوش الأب، واحتفظت هذه البطانة برؤيتها طوال ولايتي كلينتون في الحكم إلى أن أتت إليها الفرصة بفوز بوش الصغير لتطبيقها من خلال رئاسته للدولة. وأظن أنها قضت شهوراً في مناصبها في انتظار لحظة عاشوا يحلمون بها طوال عقدين لتكون اللحظة الفاصلة في تطور النظام الدولي وموقع أميركا منه وفيه، ومستقبل العلاقة بين العالم وأميركا.. "المعلم والقائد"، "أميركا المولودة من جديد".
كانت خطط التركيز على الخارج جاهزة وأخذوها معهم إلى البنتاغون وإلى البيت الأبيض، وفي صدارتها مشروع حرب النجوم محدثاً، ومشروع مطاردة الإسلام وتحدثت عنه مارغريت تاتشر في الثمانينات ثم تطور تحت اسم مخطط "صدام الحضارات" الذي وقعت صياغته في مراكزهم البحثية. ولذلك كان 11/9 فرصة ذهبية، وإن كارثية، لإطلاق سراح المارد الأميركي الذي جمد حركته كلينتون وجماعته، ومن قبله قيدها بوش الاب. وانطلق المارد وتعددت الارتدادات السلبية، وأهمها الفشل الذريع في التعامل مع كارثة إعصار كاترينا الذي دمر مدينة نيو أورليانز ومساحات واسعة من ولايتي لويزيانا والمسيسبي، وما زال هذا الارتداد تحديداً، أي الفشل، يهز النظام الأميركي ويشكك في قدراته على مواجهة الأزمات الداخلية، وبخاصة حين التحق بحلقات أخرى مثل العجز في الديموقراطية الأميركية وحريات المواطنين وإجراءات التعذيب وارتفاع أسعار الوقود وزيادة العجز في الموازنة والعجز التجاري وتدني كفاءة الإدارة ثم عاد ليلتحق جميعها بالفشل الخارجي في كوسوفو وأفغانستان والعراق وإخفاق جهود التبشير كافة بالديموقراطية في الخارج وانحسار سياسات الاقتصاد الحر في أقاليم متعددة، بينها أميركا اللاتينية وانهيار سمعة أميركا وشعبيتها في العالم وبخاصة بين شعوب الدول الأوروبية الحليفة، ثم وقع الفشل في جنوب لبنان فكان له وقع الكارثة الكاشفة لعلل متعددة في البناء السياسي والأيديولوجي للإدارة الراهنة، والكاشفة بشكل خاص لمدى الخلل والشذوذ، إن صح التعبير، المتجذرين في العلاقة الإسرائيلية الأميركية، وهي العلاقة التي يقول عنها هنري سيغمان، عضو مجلس الشؤون الخارجية الأميركي، إنها فقدت فائدتها لكلا الطرفين بسبب اتهام إسرائيل بأنها شنت الحرب على لبنان بالوكالة عن الولايات المتحدة، وهو الاتهام الذي يهدد بقاء إسرائيل في الإقليم.
لم يعد سلوكاً معيباً اتهام الإدارة الأميركية بالكذب، وبالفعل فإذا كان هناك ما يتفق عليه أصدقاء الإدارة الراهنة وخصومها فهو أن "شيمة هذا النظام الكذب". ولم يكن وزير الخزانة في ولاية الرئيس بوش الأولى بول أونيل مبالغاً حين سجل في كتابه أن الرئيس بوش جاء إلى الحكم وفي نيته غزو العراق، وأنه كان ينتظر لإصدار قرار الغزو المعلومات المزيفة أو الخاطئة التي قدمتها وكالة الاستخبارات الأميركية وحين وقعت الواقعة أجبرها على أن تتحمل وحدها مسؤولية فشل غزو العراق وارتداداته على أميركا والداخل. ويرتبط بالكذب هذا الإصرار الغريب من أجهزة الحكم والإدارة على التحدي الصارخ للقانون الدولي والاتفاقات الدولية المتعددة التي وقعت عليها الولايات المتحدة، أو التزمت بالتوقيع عليها. أقل ما يمكن أن يقال إن بعض المسؤولين في الإدارة الأميركية سلك منذ 11/9 سلوك ازدراء الحريات العامة وأمانة الكلمة والمسؤولية وكرامة الدول الأخرى والثقافات المعاصرة، وما كانت الحملة ضد "الفاشية الإسلامية" وإصرار الرئيس بوش على "تقنين" مخالفات أميركا للقانون الدولي واتفاقات الأسرى وجرائم الحرب إلا قطرات من سيل يعكس ميولاً متجذرة في أفكار العقل الأيديولوجي المسير لإدارة الرئيس بوش. ولا أظن أن الأمور استقرت للتيار "الخارج عن التاريخ الأميركي" والمناهض لأسس الديموقراطية الأميركية. ولن يكون الجنرال كولين باول، حسب وصف كاتبة أميركية معروفة، آخر الذين غرر بهم المحافظون الجدد، وبعد قليل، انتفضوا أو تمردوا.
11- 9 كان لحظة عابرة، ولكنها لحظة تفوَق فيها التطرف الديني والسياسي الكامن في ثنايا التاريخ السياسي الأميركي. فحاول أن يعوّض بالعنف والظلم معاً ما فاته خلال قرنين أو أكثر من عمر الولايات المتحدة.