اليمن: صالح بعد صالح
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
د. محمد الرميحي
بعد اعلان النتائج المتوقعة في الانتخابات الرئاسية اليمنية في الأسبوع الماضي يعود السؤال من جديد عن سقف الجمهوريات العربية في التجديد والتغيير من داخلها وبشكل سلمي، ويبدو أن العرب قد استهووا تبديل المصطلحات حتى أصبح الشاذ هو السائد. الفكرة الأصلية في الحكم الجمهوري هو تبادل السلطة السلمي في زمن محدد، وقد قننته القوانين الحديثة في كثير من الدول بشكل يكون له سقف زمني لا يحق للشخص مهما أوتي من قدرات وحقق من منجزات أن يتجاوزه. ولذلك حكمة، لأن الفكرة العامة في "الجمهورية" هي التبدل والتداول، اذ ينتج المجتمع قيادات جديدة تقوم بمحاولة حل المشكلات المتجددة، ولأن البشر بطبيعتهم يميلون الى الارتكان للمألوف فلا تصبح رؤية التجديد الا خبثاً وسوء طوية.
هذا المفهوم التجديدي، استنسخ ليس في اليمن وحدها ولكن في مفهوم وممارسة الجمهورية العربية الحديثة التي لا تتردد في أن تقدم كرسي الحكم في بلادنا الى "شخص" بعينه طوال حياته، وقد تورثه الى خلفه من ذريته بعد وفاته، كل ذلك بانتخابات "شرعية" وصناديق انتخاب "شفافة" وتحت اسم "الجمهورية" !
على حسبة الأرقام التي أعلنت في الانتخابات اليمنية الأخيرة، فان قطب المعارضة الأبرز فيصل بن شملان قد حصل على ستة عشر في المئة من الأصوات العامة، وأن الرئيس علي عبد الله صالح قد حصل على ثمانين في المئة من الأصوات وأكثر، وهي أرقام لا تقبل الشك، فقد كانت متوقعة.
الا انه بحسبة بسيطة يحتاج أي معارض جدي في اليمن الى ثلاث دورات، هذا بافتراض أن يحقق نسبة أصوات مضاعفة كل مرة، كي يصل الى الثمانية والأربعين في المئة من الأصوات ليقترب جدياً من المنافسة، ويحصل الرئيس في الوقت نفسه على ثلاث دورات، أمد الله في عمره، أي واحد وعشرين عاماً. حسابياً من المتوقع أن يحصل احتمال تداول سياسي في قمة الحكم اليمني، بعد ثمانية وأربعين عاماً من الحكم الجمهوري الفردي، وهو في هذه الحال يعني عام 2027 أبقاكم الله جميعاً !
للانصاف، فان الرئيس علي عبد الله صالح قد أعلن منذ أكثر من عام أنه غير راغب في التجديد، ودعا الجماهير اليمنية أن تقرر ما تريد ومن تريد للرئاسة، الا أن تلك الجماهير كما نعلم جميعاً قد أبت الا أن تطالب وبإلحاح عودة الرئيس عن قراره "غير الديموقراطي" لأنه من يحق له أن يقرر من يحكم هو الشعب اليمني، ومن يقرر كفاءة الادارة هو الشعب نفسه ولا غيره.
كان الرهان على من سينال ثقة الشعب في هذه الانتخابات، هل هو الرئيس أم مرشح آخر، وخسر من راهن على غير الرئيس. الا أن الأمر له وجهة نظر أخرى، ديبلوماسي يمني التقيت به في أوروبا قبل أسابيع، ناقش المسألة من زاوية أخرى قد تغيب عن البعض، قال ان الجيد والجديد في الانتخابات الرئاسة اليمنية المقبلة (قبل أن تقع) هي أنها تنافسية، وهناك أكثر من مرشح يطوف على الناس ويحضر اللقاءات الانتخابية الجماهيرية، وينتقد القائم من السياسيات، وهي ظاهرة صحية بكل معنى من المعاني في فضائنا العربي المقفر من هذه المظاهر، وقد وافقته على أن الظاهرة صحية، الا أن الخلاف عما تقود اليه، هل الى تنافس حقيقي، أم الى تكريس عزل شريحة من الشعب وربما تشاؤمهم من التغير الحقيقي الذي له معنى؟
صديقي اليمني الواقعي له حق اذا قارن ما يحدث في اليمن بمناطق "جمهورية" أخرى من عالمنا العربي، حيث لا مرشح بديلا، ولا نقاش عاما، بل هو شخص واحد، من كثرة ما لصقت عيون الناس بصورته لا ترى له بديلاً آخر، حدث ويحدث هذا في أكثر من عاصمة عربية، حتى جرى العرف العربي أن يحتار الناس في البديل ويتمنوا "طول عمر الرئيس"!
اليمن بلاد لا يسهل حكمها، وبقاء الرئيس علي عبد الله صالح طوال هذه الفترة الزمنية التي قاربت ثلث قرن في الحكم، يحسب له لا عليه، فاليمن بلاد فقيرة نسبياً فيها الصراع القبلي والمناطقي على أشده، بلاد جبلية شاهقة وسهول عريضة، يختفي فيها ان أردت حتى الشيطان! وهي لأعوام خلت، بلاد متخلفة بالمعنى الحقيقي للتخلف، ومنقسمة على نفسها، فهي تنافي بمعطياتها الاستقرار الذي حققه علي عبد الله صالح.
فالانجاز اليمني في الزمن الذي انقضى ليس سهلاً أو ميسوراً، ولا بد من أن الرئيس علي عبد الله صالح له من القدرات الشخصية والذكاء ما قدر به أن يمخر عباب البحر السياسي اليمني المتقلب بقدرة مشهودة. فالشعب اليمني كبير العدد متعدد الحاجات، موارده الاقتصادية من جهة أخرى محدودة. ورغم تمتعه بموارد بشرية نسبية مؤهلة فان هيكله الاقتصادي ضعيف ومستوى معيشة الناس منخفض، وقد استقطبت معظم موارده الصرف على السلاح، مع اشاعات بالفساد. وعلى الصعيد العربي لعب اليمن على تواضع امكانياته الدور الأهم في الصيحات العربية المتوالية، فهو أول من رشح كادراً من أبنائه عندما وجد أن العرب غير مستقرين على أمين عام للجامعة العربية، مما دعا الى سرعة تسمية الأمين العام الحالي عمرو موسى، واليمن هو أول من يدعو الى قمة عربية في الملمات العربية.
الا أن سياسته العربية مازالت تشوبها ظلال من "اليسارية القومية" فات وقتها، وربما هي انعكاس عميق لتسيس طويل المدى في قطاع واسع من الجمهور اليمني، تلك السياسة وان بدأت رابحة على الصعيد الكلامي الشعبي، فهي خاسرة على صعيد الأمن الوطني اليمني المتوسط وطويل المدى، وخطرة على فرص التنمية أيضاً، فهي تحرم اليمن من تدفقات تنموية عربية مستحقة للشعب اليمني، طالما أن اليمن تشجع التعنت عن بعد، على أساس ألا ضير عليها من ذلك كونها بعيدة جغرافياً، الا أن هذه السياسة تقود الى حرمان اليمن في نهاية المقام بسبب الانفاق العربي على السلاح والأمن، ويفقد العرب، ومن بينهم اليمن، فرص استثمار انساني طويل المدى.
الولاية الجديدة لعلي عبدالله صالح في بلاد السهل والجبل ليست هينة أو بسيطة، وعلى الخطوات التي سوف يتخذها سيُبنى استقرار أو عدم استقرار اليمن. فالديموقراطيات الحديثة تعاف الوجوه المكررة، حتى لو انتخبتها، وفي المثال البريطاني الحالي والسابق عبرة، فالسيد توني بلير يواجه صعوبات جمة في الحكم، رغم استمرار ولايته الدستورية القانونية، كما واجهت السيدة مارغريت تاتشر صعوبات وهي في قمة النجاح ولديها غالبية في مجلس العموم، الا انها تعاف أيضاً عدم الوفاء بالوعود. وتقرر الدساتير الجمهورية الحديثة سقفاً لفترة زمنية لا يتجاوزها "الزعيم" في سدة الحكم، مهما أبلى من نجاحات سياسية، فهناك، كما يقول المثل الانكليزي، الكثير من الذين لا يستغنى عنهم في المقابر! وسيدخل علي عبد الله صالح لو قرر الآن أن يحدد سقف زمني للرئيس لا يتجاوزه.
اليمن كجزء من البلاد العربية الجمهورية مختلف جزئياً، الا أن الشعور الانساني موحد. فهناك استحقاقات على علي عبد الله صالح مقبلة وصارمة. منها على سبيل المثال لا الحصر "تدوير النخبة اليمنية"، فهناك جيل كامل متعلم يتطلع الى المشاركة في "السلطة والثروة" وهناك مناطق بأكملها تحتاج الى جهود تنموية حقيقية، وهناك سياسات عربية تستحق أكثر من الخدمة اللفظية بالعمل الحقيقي، وهناك نقص في فرص التعليم والتطبيب والاسكان البنى التحتية، لم يعد الشعب اليمني بغافل عنها أو غير مدرك لأهميتها. لا يعتقد أحد في ظل التواصل العالمي القائم انها خافية على متخذ القرار في صنعاء.
الشعارات تغيرت والأهداف تحولت، ورجال الأمس ليسوا بالضرورة على بينة بمتطلبات اليوم والغد، ورغم أهمية الشعارات فان الناس تريد في نهاية اليوم أن تأكل خبزاً.
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف