.. ولكن، هل الإرهاب جاء بسبب العراق.. فقط ؟!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
مشاري الذايدي
شد انتباهي هذه الايام تقويم ورد في تقرير منسوب للمخابرات الامريكية، خلاصته أن التدخل الامريكي في العراق ضاعف من خطر الارهاب الاصولي ولم يحجمه، وان هناك مشكلة "تكاثر سرطاني" للفكر الاصولي الارهابي يتجاوز ادارة بن لادن المباشرة (الذي قيل لنا انه مات اصلا، وشبع موتا بالتيفوئيد) .
التقرير الذي نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" ، السبت الماضي، أوضح ان بعضا من نتائج التقويم تؤكد التوقعات التي وردت في تقرير للمجلس الوطني للمخابرات في يناير 2003 قالت حينها إن أي حرب في العراق قد تزيد من دعم الإسلام السياسي في العالم.
هذا التقرير، كما هو واضح ، يركز على بعد واحد من ابعاد الحرب في العراق، وهو البعد المتعلق بمحاربة الارهاب، ولكنه ـ كما طالعتنا الاخبار ـ لم يشر الى الابعاد الاخرى للحرب، وهي ابعاد مثيرة ومتعددة، مثل الشرق الاوسط الجديد، وعملية السلام، وازالة الانظمة "المارقة" حسب اللغة الامريكية.. وعلى كل حال فلسنا هنا في سياق تقويم شامل للتدخل الامريكي في العراق، داخليا وخارجيا، حديثنا هنا مختص بمدى العلاقة بين ضعف او قوة الارهاب الاصولي، على ضوء حرب العراق.
مما لا شك فيه أن الساحة العراقية، بعد سقوط نظام صدام الديكتاتوري، وبعد شعور الجارين السوري والايراني، بخطورة ما يجري، وأن السكين قد تصل الى رقابهم ، معطوفا كل ذلك على "حملة ايمانية" اصلا قام بها النظام في سنواته الاخيرة ، ومع سخونة المشاعر الاصولية العسكرية وتحفزها للعمل، منذ بداية الغزوة السبتمبرية في 2001 ومن ثم اسقاط نظام طالبان.. مع هذا كله بات المسرح العراقي مسرحا جاذبا لكل طيور الاصولية لكي تحط على اشجار العراق المحترقة.. حتى تكاثرت الاسراب وسدت افق الحل في سماء العراق.
هنا سؤال : هل وجود قوات "كافرة" أمريكية يعتبر سببا وحيدا لايجاد القاعدة وتنشيطها ؟! في نظري ان الاجابة مركبة وليست بسيطة، وهي ان القاعدة وكل التيارات الاصولية ذات الخيار العسكري "انتهزت" الفرصة "النموذجية" في وجود حالة "غزو صليبي" صريح لأرض من أراضي المسلمين. فاعتصرت الاسفنجة العراقية الى آخر قطرة فيها، فمن ينازع من الجماهير المسلمة، "بما" فيها شعبان عبد الرحيم ، الآن في "قباحة" امريكا ؟!
إذن هذا عامل جذب ممتاز يمكن استثماره، فعدو القاعدة في العراق هنا هو الشيطان الاكبر.
الجاذب الثاني، هو القول: هذه ارض الرافدين، ارض الرشيد والمأمون والمعتصم واحمد بن حنبل وابي حنيفة .. فهل تصبح ملكا لعملاء الامريكان او "الرافضة" او حتى العلمانيين السنة ؟!
هنا تضيق دائرة الجذب، لكنها تظل واسعة، فيهوي في شباك الدعاية القاعدية كثيرون ممن اسرتهم مخدرات التاريخ المجيد "الكامل" المطلوب تكرير نموذجه.
والجاذب الثالث، هو التركيز على تماس العراق مع بلاد الشام، وبالتالي فلسطين السليبة والقدس الشريف، فالمسجد الاقصى هذه المرة على مرمى حجر، فقط "ننجز" المهمة في العراق، ثم ننحدر الى فلسطين، في استعادة خفية لنموذج نور الدين زنكي وتلميذه صلاح الدين، زنكي الذي كان الزرقاوي شديد الاعجاب به كثيرا.
لكن كل هذه العناصر الجاذبة في النموذج العراقي، والتي جعلت ارض السواد اكبر مسرح مغر للشباب المتحمسين من السعودية الى الاردن الى سوريا الى السوادن الى اليمن الى ليبيا الى مصر، تقريبا الى كل العالم الاسلامي، وحتى غير الاسلامي، بالنسبة لمسلمي الخارج .. كل هذه العناصر، على أهميتها وراهنيتها الطرية، ليست هي جوهر محرك التيارات الاصولية، فقدس الاقداس، ومهمة المهام، وقضية القضايا، بالنسبة لكل التيارات الاصولية، حتى الشيعية منها، هي تحقيق النموذج الاصولي في الحكم والسياسة وادارة الحياة العامة، وهي غاية غير خافية ولا مستورة.
وحينما يحصل جدل بين بعض الاسلاميين حول ساحة من الساحات القتالية، والطلب بالتركيز على مهمة أخرى من مهمات التيار الاسلامي، غير مهمة القتال، مثل الدعوة والتربية والتصفية واعداد الجيل المؤمن، حينما تحصل مثل هذه الخلافات فإنها تكون خلافات على سطوح المسألة، ولا تنفذ الى جوهر الفكرة، وهنا استذكر الجدل العريض الطويل الذي خاضه احد نجوم ومشاهير الصحويين السعوديين اوائل التسعينات، وكاد ان يعتدى عليه من قبل بعض شباب "الجهاد" في جدة او مكة حينها بسبب ذلك، وهو الدكتور سفر الحوالي، فقد رد الاخير على "أمير" الافغان العراب وعرابهم الفلسطيني عبد الله عزام، الذي اخذ على عاتقه الترويج للقضية الافغانية، باسلوبه الخطابي الجذاب، والذي استمعت اليه شخصيا اكثر من مرة في مدينة الرياض، وأصغيت الى حديثه المدهش عن كرامات الافغان .. وما إلى ذلك.
كانت نقطة الاحتكاك المنهجي لحظتها بين الحوالي وعزام، حين اصدر عبد الله عزام كتابه "الدفاع عن اراضي المسلمين أهم فروض الاعيان"، وهو كتاب معبر في عنوانه، لكن الحوالي رفض ذلك، معتبرا ذلك غلوا من عزام، وان أهم فروض الاعيان هو نشر التوحيد ومفاهيمه، وليس الدفاع عن الارض فقط. وقال الحوالي عندئذ "نحن نعلم من دين الله سبحانه وتعالى أن أهم فروض الأعيان هو عبادة الله وحده والإخلاص لله وحده سبحانه وتعالى، ومن أجل ذلك نجاهد لتكون كلمة الله هي العليا، ما هي القضية قضية أرض ، ما هي قضية تراب، ما هي قضية أوطان، ما هي دفاع عن أراضي، دفاع عن أوطان، من أجل التوحيد".
العارفون بالمشهد الحركي والصحوي والدعوي حينها في السعودية، يدركون ان سبب انتقاد الحوالي لتهافت "الشباب" على افغانستان كان نابعا من خوفه من تفريغ القاعدة الدعوية التي تعمل فيها التيارات الاسلامية في السعودية، ومعلوم ان المشهد الحركي وقتها كان مقسما بين عدة تيارات، من اضعفها انتشارا التيار الجهادي . وحسب احد المتذكرين لتلك الحقبة من داخلها، فإنه يقول لي :"هناك حسبة كانت معروفة وغير معلنة، وهي ان مهمة الاستئناس الأولي للناس او هدايتهم كانت من شأن جماعات التبليغ المعروفة ببعدها عن المسائل السياسية والخلافية المنفرة، واما الشباب الذين لا حرص لهم على طلب العلم او الشؤون الدعوية، اي الحركية، فهؤلاء يذهبون الى التيارات الجهادية، واما الشباب المنظم او العادي او الذكي فيتوزع ما بين طلب العلم والدعوة، او بلغة اخرى ما بين التنظير والحركة".
موقف الحوالي ذلك جوبه بمعارضات من اهمها، في نظري، معارضة رمز تنظيري كبير من رموز الجماعات الاصولية العسكرية، وهو عبد القادر عبد العزيز، او سيد امام عبد العزيز، كما هو اسمه الاصلي، وهو اصولي مصري اختص بالتنظير الفقهي والنظري لجماعات الجهاد واشتهر بكتابه الكبير "العمدة في اعداد العدة"، وكان مما رد به على الحوالي أن قال :"نحن كمسلمين متعبدون بالتمكين في الأرض (..) وهذا لا يتم إلا بذهاب سلطان الكافرين ودولتهم، وعلو سلطان المسلمين وإقامة دولتهم في الأرض"، كما في مذكرة الرد على سفر الحوالي التي كتبها في 1990 .
وهنا نرى كيف يؤكد، وهو يدافع عن شرعية فكرة الدفاع عن الارض، على الغاية النهائية وهي: التمكين في الارض من اجل إذهاب سلطان الكافرين ودولتهم. والكافرون هنا يعني بهم كل من حكم القوانين الوضعية او الدولة الحديثة، كما قال ذلك هو صراحة في اخر مذكرة كتبها مثلما جاء في تقديم المذكرة في موقع منبر التوحيد والجهاد التابع للاصولي الاخر الاردني ابي محمد المقدسي في 11/ أكتوبر / 2001 قبل يوم من سجنه في الأمن السياسي في اليمن، آخر محطاته، قبل تسليمه لمصر في 28/ فبراير / 2004.
قال عبد القادر في رسالته الاخيرة هذه :"القوانين الوضعية دين جديد من شرعها أو عمل بها فقد كفر". وقال ايضا :"الديمقراطية دين جديد من اتبعها أو دعا إليها فقد كفر".
وهذا الهدف النهائي، في طلب الدولة الاصولية ورفض فكرة الوطن والمواطنة، هو ايضا ما باح به منظرو القاعدة في العراق مثل مفتي جماعة الزرقاوي ومسؤول لجنتها الاعلامية العراق، الاردني ابو انس الشامي (قتل في غرب بغداد بغارة امريكية في سبتمبر 2004) حيث رفض في رسالة كتبها بتاريخ 20 يونيو 2004 مصطلح المقاومة "الوطنية" لأن ذلك جمع بين النقيضين، الاسلام والوطنية.
صفوة القول إذن: التقرير الامريكي المخابراتي مصيب في توصيفه لأثر الحرب العراقية في تضخيم الظاهرة الارهابية وإكسابها مزيدا من الزخم. ولكن حذار من القراءة المتعجلة لهذا التقرير، والتي من المتوقع صدورها من البعض، بالقول: أرأيتم ؟! الارهاب ردة فعل، ليس إلا، على الطغيان الامريكي.
حذار، لأن الامر ليس كذلك، في العمق، وربما كان كذلك على السطح، لكن الحقيقة تقول لنا إن اعتى الامراض هي امراض العمق، وليست خدوش السطح، فهل نبصر قليلا ..؟!