الطالباني ودول الجوار
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
عبد الباري عطوان
يفاجئنا السيد جلال الطالباني رئيس العراق الجديد ، بين الحين والآخر، بتصريحات ومواقف سياسية، تنطوي علي درجة كبيرة من الاستفزاز لدول الجوار، ربما تؤدي الي نتائج عكسية تماما لم يتنبه لها، ونحن نشير هنا الي تصريحاته التي ادلي بها قبل ايام الي محطة اذاعة امريكية، وحذر فيها تركيا وسورية وايران من المضي قدما في التدخل في الشؤون الداخلية العراقية، وهدد بانه سيرد بالطريقة نفسها، وسيدعم المتمردين في هذه الدول بما يسبب مشاكل لها .
فهذا التهديد، يمكن ان يكون مقبولا ومفهوما، لو انه صدر عن رئيس دولة ذات سيادة، تسيطر علي اراضيها وحدودها، وتحمي امنها الداخلي، وتملك جيشا قويا جرارا، ولكن السيد الطالباني لا يستطيع مغادرة قصره داخل المنطقة الخضراء، لزيارة قصر مسؤول امريكي في المنطقة نفسها، الا بعد اخطار القوات الامريكية مسبقا، وقبل يوم كامل، حتي توفر له الحماية الأمنية المطلوبة.
وربما يفيد التذكير بان السيد نوري المالكي رئيس وزراء العراق الجديد ، لم يُخطر بموعد لقائه مع جورج بوش الرئيس الامريكي الزائر لعاصمة بلاده قبل اربعة اشهر الا قبل ربع ساعة فقط، اما الرئيس الطالباني فلم يعلم اصلا بالزيارة الا بعد مغادرة الرئيس الامريكي اجواء العراق عائدا الي بلاده بسلامة الله.
فاذا كانت حكومة السيد الطالباني لا تستطيع ان تحمي مطار بغداد والطرق المؤدية اليه، وبما يعفي الطيارين من الحركات البهلوانية التي يتبعونها للاقلاع والهبوط، وتوقف المجازر الجماعية التي تحصد ارواح مئة مواطن عراقي بريء يوميا علي الاقل، وتوفر الخدمات الاساسية، او الحد الادني منها، لابناء العراق المنكوب، فكيف يمكن ان تهدد دول الجوار بدعم المتمردين فيها؟ وهل يملك اتخاذ هذا القرار بدون موافقة السيد الامريكي؟
السيد الطالباني مستاء من التدخلات الايرانية والتركية والسورية، في الشأن العراقي الداخلي، وينسي وهو الماركسي السابق حقيقتين اساسيتين، اولاهما انه كان اول من شجع هذه التدخلات واستعان بها، عندما كان معارضا لحكومة بلاده يعيش في المنفي، وما زال حتي هذه اللحظة يحمل جوازات سفر تركية وسورية وايرانية، ولا نعرف ما اذا كان يحمل جواز سفر عراقياً، بل ويطالب بقواعد امريكية دائمة في كردستان، والثانية انه يحرّم علي الدول المجاورة التدخل في شؤون العراق الداخلية بينما ينسي ان في العراق قوات لاكثر من خمس وثلاثين دولة الي جانب قوات الاحتلال الامريكية، تمارس القتل يوميا في حق العراقيين، وتدمر قري ومدنا بأكملها فوق رؤوس اصحابها.
مقاومة الاحتلال الاجنبي حق مشروع، والعراق محتل باعتراف امريكا والامم المتحدة ولجوء بعض رجالات المقاومة لدول الجوار طلبا للمساعدة امر طبيعي ومنطقي ومتوقع، والسيد الطالباني لجأ الي الدول نفسها طلبا للمساعدة رغم انه كان متمردا علي حكومة مركزية دكتاتورية، وليس علي قوات احتلال اجنبي. ولكن المصيبة ان دول الجوار لا تدعم هذه المقاومة، بل تغلق الابواب في وجهها، او بالأحري لا تدعمها بالشكل المطلوب، وان دعمت، فان بعض هذا الدعم يذهب الي ميليشيات طائفية موالية وداعمة للاحتلال، مثلما هو حال الدعم الايراني لميليشيا بدر التابعة للمجلس الاعلي للثورة الاسلامية في العراق.
قطاع عريض من العراقيين يتمني ان تتدخل سورية في الشأن العراقي بالصورة المتوقعة وتدعم المقاومة بربع الطريقة التي دعمت فيها حزب الله في جنوب لبنان. فالصواريخ التي اذلت دبابات الميركافا الاسرائيلية، واوقعت خسائر بشرية ضخمة في اطقمها هي صواريخ جاءت من مستودعات الجيش السوري. والصواريخ التي دمرت البارجة البحرية الاسرائيلية امام الشواطئ اللبنانية هي صواريخ ايرانية.
الامريكان انفسهم توقـــفوا عن اتهام سورية بالتدخل في الشأن العراقي، بعد تعاونها الكبير في هذا الصدد، واغلاقها الحدود في وجه المتطوعين، وباتت كل الاتهامات لسورية مقتصرة علي تدخلها في لبنان ودعم المقاومة الاسلامية في فلســـطين، ولكن يبدو ان الطالباني يذهب الي الحج والناس راجعة .
ولعل تهديدات السيد الطالباني هذه تكون حافزا لسورية، ودول الجوار الاخري، للقيام بدور الجوار الفيتنامي، او الجوار الجنوب الافريقي اللذين اديا الي هزيمة امريكا في هانوي، وانهيار النظام العنصري البغيض في بريتوريا. فطالما انها دول متهمة فلا ضير عليها اذا ما دعمت المقاومة العراقية، واستنزفت الاحتلال الامريكي بشريا وماديا.
علينا ان نتصور وضع القوات الامريكية في العراق لو ان شحنات صواريخ الكاتيوشا، والاخري المضادة للدروع تدفقت علي فصائل المقاومة العراقية، او فتحت كل من تركيا وايران وسورية حدودها امام المتطوعين الذين يريدون الانخراط في صفوف المقاومة.
اوضاع العراق تتدهور ليس بسبب تدخل الدول المجاورة في شؤونه الداخلية، وانما لان مشروع الاحتلال الامريكي وصل الي طريق مسدود، ولم يبق الا الاعتراف رسميا بفشله. فعندما تقول الامم المتحدة ان التعذيب والقتل فاقا ما كانا عليه في زمن الرئيس صدام حسين، وتجمع 16 وكالة استخبارات امريكية علي ان غزو العراق واحتلاله زادا من خطر الارهاب، وخلقا جيلا جديدا من الجهاديين اكثر خطورة من الجيل السابق، فان علي السيد الطالباني وكل الذين تعاونوا مع الاحتلال واجهزته البحث عن ملاذ آمن، وبأسرع وقت ممكن، قبل ان تنقلب الامور كليا ضدهم، ويشكل لهم الشعب العراقي محاكم جرائم حرب لمحاكمتهم بالصورة التي يحاكمون بها حاليا الرئيس العراقي صدام حسين ورفاقه.
المرحلة المقبلة عنوانها مواجهة امريكية ـ ايرانية علي ارضية المفاعل النووي الايراني، وعلينا ان نتوقع تدخلا ايرانيا سوريا اكبر في الشأن العراقي يؤدي الي اشغال القوات الامريكية (140 الف جندي) في حرب استنزاف دموية. فمثلما استخدمت الولايات المتحدة المجاهدين في افغانستان لجعل القيادة السوفييتية تفكر الف مرة قبل توسيع وجودها ومهاجمة باكستان، سيستخدم البلدان وربما بدعم صيني روسي، المجاهدين انفسهم لتوريط امريكا اكثر في المستنقع العراقي، والتفكير مليون مرة قبل غزو سورية او ايران او الاثنتين معا.
السيد الطالباني، والذي من المفترض ان يكون من اكثر السياسيين حنكة، يدرك كل هذه الحقائق، وربما ما هو اكثر منها، ولهذا تبدو تصرفاته وتصريحاته مرتبكة، فلعله ادرك ان النار التي اشعلها في ثوب العراق بدأت تصل الي طرف الثوب الكردستاني في الشمال، وان دول الجوار مستعدة ليس لاطفائها، وانما لصب المزيد من الزيت لتسريع اشتعالها. ومن المفارقة ان تصريحاته الاخيرة تشجعهم علي ذلك.