جريدة الجرائد

مفاجأة براميرتز للمجتمع الدولي

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك



راغدة درغام

أثناء الاجتماعات الثنائية لقادة ووزراء خارجية الدول المشاركة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، كان موضوع ايران بمثابة "الغوريللا" الضخمة في الغرفة التي يتظاهر الجميع بأنه لا يراها لأنه لا يعرف ماذا سيفعل بها. الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد شن حملة تلطيف لعلاقته مع المؤسسات الفكرية الأميركية وبعث خطاباً عبر منبر الجمعية العامة الى العالم عنوانه عملياً انه لن يصعّد ولن يتراجع وانما سيستخدم موازين اللامواجهة واللاتراجع بالحنكة الايرانية المعهودة لاحراز نقاط لصالحها. وفيما كان أحمدي نجاد يترك وراءه الكثير من المعجبين ممن استهدفهم بحملته يتغنون بذكائه وينبهرون بحذاقته ويتجنبون زجه في الزاوية، كان يتعمد التشديد على مسائل حيوية في علاقته مع "حزب الله" وفي تصوره لدور لبنان في خريطة النفوذ الايراني، الاقليمي والدولي.

فعكس الرئيسين الباكستاني برويز مشرف والأفغاني حميد كارزاي اللذين اعتركا علناً حول مَن منهما يعيد بسياساته تجهيز "طالبان" لاستعادة قوتها ثم توجها الى حليفتهما في البيت الأبيض للعشاء مع الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش، إما للتفاهم أو للاشتكاء، ان الرئيس الايراني "ضحك في عبّه" لأن علاقته بحلفائه لها طابع وثقل من نوع آخر. فأجندة ايران تعتمد على وزنها في التحالف النفطي الذي يضم الصين وروسيا وايران وكذلك فنزويللا. وطهران تشغل حلفاءها الفاعلين الدوليين في أكثر من الملف النووي اذ أنها تريد منهم توفير الحماية الدائمة لحلفائها الاقليميين من أي استحقاق، سيما في اطار التحقيق في الاغتيالات في لبنان وانشاء المحكمة ذات الطابع الدولي من أجل المحاسبة أمام العدالة.

في ما يخص "حزب الله" فهم الذين اجتمعوا مع أحمدي نجاد انه ينظر الى الحرب في لبنان بأنها لصالح ايران ولبنان لأنها هزمت اسطورة التفوق الاسرائيلي. في رأيه ان هذه معادلة يجب الحفاظ عليها بأي شكل كان باعتبار أن لبنان أصبح الآن مصدراً رئيسياً لفكرة قابلية هزم اسرائيل عبر تقزيمها كأسطورة... ويجب تعزيزه بهذه الصفة.

وأثناء مؤتمره الصحافي، كان أحمدي نجاد في منتهى الوضوح في رفضه الالتزام بالقرار 1701 وبالذات الفقرة 15 التي تلزم الدول باحترام حظر تصدير الأسلحة الى أي كيان أو منظمة أو فرد في لبنان، سوى الحكومة الشرعية اللبنانية. أعطي ثلاث فرص وتعمد التملص موارباً وواصفاً الدعم الايراني للأطراف في لبنان بأنه دعم "روحي" حصراً. انما كان ملفتاً تحدثه عن "دورنا على الساحة الدولية" كوسيلة لتحقيق الأهداف وقوله "نحن نتكلم على مستوى دولي ونود ان نحل المشاكل على مستوى دولي".

ما يحدث على المستوى الدولي لا يقتصر على مسألة سلاح "حزب الله" الذي أعلن الشيخ حسن نصرالله اعتزامه الاحتفاظ به وأكد ان لديه حوالي 20 ألفاً من الصواريخ متحدياً قرارات مجلس الأمن التي طالبت ألا يكون في لبنان سوى سلاح جيشه وألا تكون فيه سلطة سوى سلطة الدولة. فهذه الأيام لا ينحصر الحديث الدولي في الاجراءات اللازمة لمنع تكرار الحرب، بل ان هذا الاسبوع بالذات هو اسبوع الحديث عن التحقيق والمحكمة. وايران موجودة بقوة في هذه الأحاديث، عبر بعض أهم حلفائها.

روسيا تقود ملفات ايران ولبنان وسورية في مجلس الأمن الدولي فيما الصين تتولى قيادة ملف السودان علماً بأن الدولتين شريكان سياسيان وحليفان نفطيان في هذه الحقبة من تاريخهما.

ما تطرحه روسيا في المفاوضات الحساسة والمهمة التي تدور وراء الكواليس هو انها لا تريد أي ذكر لتعبير "جرائم ضد الانسانية" في مشروع قانون المحكمة ذات الطابع الدولي التي ستقاضي الذين تثبت عليهم تهمة التورط في اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الراحل رفيق الحريري ورفاقه.

هذا التعبير جاء علناً على لسان الرئيس الفرنسي جاك شيراك عندما سألته صاحبة هذا المقال ان كان هناك نوع آخر من المحاكمة في حال أُسقطت الحكومة اللبنانية علماً بأن المحكمة التي تتصورها الدائرة القانونية للأمم المتحدة وتعمل عليها الآن تتطلب قطعاً إجماع الحكومة اللبنانية والبرلمان اللبناني عليها. قال شيراك ان اغتيال الحريري ورفاقه والاغتيالات الأخرى ومحاولات الاغتيال والتي بلغت 14 حالة، كلها معاً تشكل "جرائم ضد الانسانية".

هذا التصنيف يفتح الباب على محكمة مختلفة عن تلك التي توضع أسسها الآن، في حال نجاح جهود اسقاط الحكومة أو اغتيال رئيس الحكومة فؤاد السنيورة، كما يخشى كثيرون. فالمحكمة التي تقاضي على "جرائم ضد الانسانية" لا تخضع لموافقة وإجماع الحكومة والبرلمان. وهي قد تكون خطة "باء" في حال نجاح "اغتيال" حكومة لبنان من أجل "اغتيال" المحكمة.

روسيا لا تريد لغة "جرائم ضد الانسانية" وهي في هذا الموقف تمثل الصين داخل مجلس الأمن وتتحدث نيابة عن ايران وسورية و "حزب الله" خارجه. فهذا المحور الثلاثي لا يريد أي نوع من المحكمة الدولية ويعمل بكل الوسائل على منع قيامها. وحسب المصادر المطلعة ان الديبلوماسية الروسية ناشطة في محاولة احباط أي ذكر لـ "الجرائم ضد الانسانية" في أية وثيقة ذات علاقة بالاغتيالات في لبنان.

الأمر الآخر المهم جداً لروسيا والصين هو مسألة صلاحية المحكمة ذات الطابع الدولي. روسيا تقود الجهود الرامية وراء إقامة محكمة ذات ولاية "محصورة" و "محددة" بحيث تقتصر مهماتها حصراً على اغتيال رفيق الحريري كي لا تشمل الـ14 حالة أخرى من الاغتيالات ومحاولات الاغتيال.

تبريرها هو ان لا حاجة لعملية قضائية مفتوحة على شتى الاغتيالات لا يعرف كيف يتم اغلاق الباب عليها. موقفها ان في لبنان محكمة قادرة على اجراء المحاكمات المتعلقة بالـ14 حالة أخرى، وبالتالي يجب ان تنحصر مهمات المحكمة ذات الطابع الدولي باغتيال الحريري.

هذه ناحية فائقة الأهمية في المواقف الروسية لما لها من دلالات سياسية وما يمكن اعتباره في هذا المنعطف محاولة تطويق لتحقيق "اللجنة الدولية المستقلة للتحقيق في العمل الارهابي" الذي أودى بحياة رفيق الحريري ورفاقه، ويترأسها البلجيكي سيرج براميرتز.

ففي تقريره الأخير الذي قدمه مطلع هذا الاسبوع ويعرضه اليوم الجمعة على مجلس الأمن، قال براميرتز ان التحقيق توصل الى "خيوط جديدة" دفعت اللجنة الى اعلان "اهداف استراتيجية" لها للفترة المقبلة تشمل اجراء حوالي 50 استجواباً أو مقابلة اساسية ذات علاقة بـ "الترابط" و "الربط" بين مقترفي الجرائم "على كل المستويات". تحدث عن "الترابط الأفقي والعمودي بين جميع الحالات" الـ14، وعن "تقدم ملموس في الحالات الانفرادية وفي الترابط المحتمل بين مختلف الحالات" في اشارة الى الاغتيالات. وقال ان "عمل اللجنة المتعلق بالـ14 حالة أخرى سيساعد في وضع الهجمات في السياق السائد في ذلك الوقت. وقد بدأ (التحقيق) يؤدي الى روابط وترابط سيما لجهة تحديد الدوافع المشتركة الممكنة" وراء مجمل الاغتيالات. وأضاف ان "تثبيت عمق ومدى وطبيعة هذه الروابط وارتقائها الى مستوى الدلائل هو أولوية للتحقيق في الأشهر المقبلة". وأكد ان لدى التحقيق خيوطاً جديدة في مجال الاتصالات بين الكثير من الأفراد المعنيين بجريمة اغتيال الحريري وبالاغتيالات الأخرى.

تشديد براميرتز في تقريره على ناحية الترابط والروابط يضع موقف روسيا ومن تمثلهم تحت ضوء جديد اذ ستبدو محاولات تقييد المحكمة في جريمة اغتيال الحريري محاولات تدخل غير مباشر في التحقيق من خلال "فصل" الترابط وإعاقته أمام المحكمة، كذلك الأمر في ما يتعلق بالطرح المعني بـ "الجرائم ضد الانسانية" اذ ان هذا التعبير ينطلق بأساسه من الترابط بين شتى الاغتيالات. ولذلك، يعتقد بعض الديبلوماسيين ان صفقة سياسية فقط هي التي قد تسمح لهذه المواقف ان تؤدي الى نتائج. فالاهتمام بهذه المسائل ليس عبارة عن مناورات ديبلوماسية طفيفة وانما هو مسألة رئيسية لأنها تتعلق بأنظمة ولربما بتورط مسؤولين على أعلى المستويات في أكثر من دولة.

والسؤال الذي يرفض سيرج براميرتز الاجابة عليه بغض النظر عن سائله هو: ما هي أعلى مرتبات المتورطين، حسب تحقيقه؟ فالافتراضات تتكاثر وكذلك الاجتهادات. انما ما تعرفه أروقة الأمم المتحدة جيداً هو لغة المقايضات. وعليه، تصب الأسئلة في خانة معطيات المقايضات ويتحدث البعض من منطلق انه ليس في المصلحة السياسية لأي من اللاعبين المهمين جر كبار المسؤولين الى المحاكمة. لكن البعض الآخر يتحدث عن تعاظم الأدلة، سيما في ملف أحد الكبار اللبنانيين، بما لا عودة عنه، ويتحدث عن اضطرار أحد الكبار السوريين الى الاستغناء عن بعض كباره، اذا أراد تجنب المحاكمة.

الأمر الذي يغلب على "المفاوضات" القائمة في شأن المحكمة ذات الطابع الدولي هو ما إذا كان لدى سيرج براميرتز حالياً ما يكفي من الأدلة الملموسة القابلة لبدء الادعاء في المحكمة.

الذين يعرفون براميرتز والتقوا به يقولون انه مقتنع تماماً بأنه سيتمكن من تحضير ملف قضية للادعاء بأدلة لا غبار عليها. لكنه لا يشعر بأنه جاهز الآن. قد يكون جاهزاً ليسمي مقترفي الجرائم مع نهاية السنة وقد يتطلب الأمر وقتاً أطول. سيرج براميرتز لا يعرف بدقة الجواب على هذا السؤال أو انه يتظاهر بأنه لا يعرف لأنه ما زال في خضم جمع المزيد من الأدلة كي يكون الادعاء في أقصى درجات الثقة لاجراء المحاكمة.

النقاش بين أعضاء مجلس الأمن المعني بالعلاقة بين التحقيق والمحكمة يتطرق الى المعادلة التالية: هل يجب تأسيس المحكمة والانتظار الى حين انتهاء التحقيق وجهوزية الادعاء؟ أو هل يجب عدم التعجيل بإقامة المحكمة المكلفة مادياً والاكتفاء بتجهيز ملف الادعاء، ثم الانتظار حتى انشاء المحكة؟

الأكثرية في مجلس الأمن تعتقد ان من الضروري الاتفاق والتوقيع والمصادقة على المحكمة بصورة كاملة كي تكون جاهزة حالما ينتهي التحقيق لنقل المهمات اليها. هناك سيناريو يقول ان انشاء المحكمة الآن هو قرار سياسي ضروري من أجل تعطيل جهود نسفها قبل انشائها، وأن جهوزيتها لا تعني بدأها بالعمل.

الأمر الآخر الذي يتحدث فيه كثيرون في الأمم المتحدة هو قرار سيرج براميرتز مع حلول آخر السنة لجهة مغادرته المنصب في ذلك التاريخ، كما سبق وقال. فإذا انتهى من التحقيق وتمكّن من تقديم تقرير في كانون الأول (ديسمبر) يسمي فيه اسماء المتورطين في الجرائم، يكون السؤال، هل سيقوم براميرتز بالادعاء مما يتطلب منه مغادرة منصبه في المحكمة الجنائية الدولية لفترة مطولة. أما اذا لم ينته التحقيق مع نهاية السنة، فان ما تراقبه الأوساط الدولية هو دلالات القرار الشخصي لسيرج براميرتز اذا غادر مع نهاية السنة من دون انتهاء التحقيق او اذا مدد حتى شهر حزيران (يونيو)، موعد نفاد الولاية الحالية للجنة.

براميرتز قال في تقريره ان الحرب بين "حزب الله" واسرائيل في لبنان هذا الصيف أعاقت عمل التحقيق نتيجة صعوبات لوجستية في التوصل الى شهود. وعلى رغم ذلك "احرز تقدم في جميع مجالات التحقيق"، حسب قوله. اثناء الحرب نقلت الأدلة الجنائية والأدلة الأخرى المهمة للتحقيق الى قبرص - حيث قد تقوم المحكمة - لصيانة الأدلة وحمايتها. اندلاع الحرب مجدداً قد يؤثر سلباً ويؤخر انتهاء التحقيق، انما ليس بالضرورة. فالمرحلة المقبلة مرحلة استنطاق ومقابلات يتمناها براميرتز ان تكون سلسلة. كثير من هذه المقابلات يريد اجراءها في لبنان انما جزء كبير منها يريده في سورية التي وصف تعاونها بأنه "مرض عامة".

ماذا سيحدث في حال اضطرار "براميرتز الى مفاجأة المجتمع الدولي بغير اسلوبه المعهود؟" الاجابة عند براميرتز اولاً، لكنها ايضاً عند ذلك "الغوريللا" في الغرفة التي يتظاهر الجميع بأنه لا يراها وهي الأخت الصغرى "للغوريللا" الضخمة ذات الحلفاء المهمين في أكثر من مكان.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف