«حزب الله» بين المصلحة اللبنانية والمشروع الإيراني
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
عبد الرحيم صابر
الآن وقد خمدت نيران المدافع والطائرات والصواريخ، هل يمكننا أن نطالب بمحاسبة كل من كان وراء الدمار في لبنان بما فيهم "حزب الله". لقد نجح "حزب الله" في كسب تأييد غير مشروط من الكثيرين في العالم العربي. فالحزب نجح في التعريف بنفسه على أنه حركة مقاومة وطنية تعمل على زعزعة العدو مدركة تمام الإدراك تفوقه العسكري والدعم غير المشروط من الإدارة الأميركية.
ومن دون شك صمد مقاتلو الحزب أمام التفوق التكنولوجي الهائل للآلة العسكرية الإسرائيلية المدعومة من الولايات المتحدة. لكنهم وبكل موضوعية أبعد عن الانتصار. كيف يمكننا التحدث عن "انتصار" ولبنان دمر بالكامل؟ هل هذا هو ثمن الانتصار؟ الانتصار الحق هو بناء وصيانة الدولة اللبنانية الديموقراطية الحرة والمستقلة وتقوية سلطة القانون، ووضع نهاية للجريمة المستمرة عبر محاسبة قتلة رفيق الحريري وباسل فليحان وسمير قصير وجورج حاوي، والاجماع الوطني على القرارات المصيرية التي تهم البلد. إن في قيام الدولة الديموقراطية ضمانا لوحدة اللبنانيين واستمرارية وسمو سلطة القانون.
إن جهود الدولة هي التي مكنت من تغيير المشروع الفرنسي - الاميركي جذريا بشكل يميل الى حد ما إلى المصلحة اللبنانية. ووحشية الحرب الإسرائيلية على لبنان لم تفلح في خلق الثقوب في وحدة الصف اللبناني ولم تبث الفتنة الطائفية التي نشدها المحافظون الجدد في واشنطن للتغطية على فشلهم في العراق. فالسيدة كوندوليزا رايس والمحافظون الجدد الذين لا يزالون يصرون على إثبات نجاح أطروحتهم بأي ثمن والذين أرادوا أن يتحمل الشعب اللبناني ويعاني القتل والتشريد كثمن لمخاض الشرق الأوسط الجديد، على اختلاف ما قد يعنيه هذا المفهوم بالنسبة إلى الإدارة الأميركية. خرجوا بخفي حنين.
مؤيدو "حزب الله" الجدد، من أطراف العالم العربي، يعلمون بوجود خلافات معه ومع توجهاته ورؤيته السياسية للمشروع اللبناني، لكنهم أضحوا يمارسون حصاراً فكرياً يمنع حتى مجرد التفكير في توجيه أي نوع من أنواع النقد للحزب، على أساس أنه ينبغي توحيد الجبهة خلف المقاومة، في مواجهة العدوان الإسرائيلي - الأميركي. الغريب في الأمر أننا نجد الخطاب نفسه في إسرائيل وعند بعض يهود الشتات، من أمثال المفكر الصهيوني الفرنسي برنار هنري ليفي، الذين يؤمنون بأنه في حالة الحرب - الأزمة يتوجب على كل يهودي "حق" أن يلغي الضمير الإنساني فيه وأن يساند اسرائيل وممارساتها مهما كانت فظيعة ومخالفة للقانون الدولي والإنساني. يمارسون حصاراً فكرياً على كل من يتجرأ على نقد عبثية هذه الحرب أو غيرها والدمار الذي تلحقه بالمدنيين العزل، وسياسة اسرائيل، بحيث يساوون بين منتقد السياسة الإسرائيلية والمعادي للسامية، حتى يسهل التهميش والحصار. هكذا أضحينا في زمن "الحرب الأميركية على الإرهاب"، وزمن دمقرطة "الشرق الأوسط الجديد" - المولود الذي، حسب السيدة رايس، من المفروض أن ينبعث من دمار لبنان - نتأرجح بين تطرفين: تطرف التأييد المطلق لسياسة إسرائيل اللاإنسانية واللاقانونية، وتطرف التأييد المطلق لـ "حزب الله".
وبالنظر إلى الحرب العبثية ضد لبنان، فإسرائيل تقول للعالم إنها تهدف إلى إبعاد خطر "حزب الله" إلى حدود نهر الليطاني، أي أن المسألة كلها مسألة "دفاع عن النفس". لكن إذا كانت إسرائيل لم تتمكن من القضاء على "حزب الله" كما ظنت ومعها، في ذلك، الإدارة الأميركية منذ البداية، وإذا كان "حزب الله"، بكل صواريخه التي وصل بعضها إلى العمق الإسرائيلي، لم يتمكن من حماية المدنيين اللبنانيين من القتل والتشريد، فمن هو الخاسر ومن هو المنتصر في هذه الحرب؟ وكيف يحق لنا أن نؤيد "حزب الله" على مأساة أقحم فيها كل البلد من دون إشراك أحد في الرأي أو اتخاد القرار؟ لقد كان نصرالله واقعياً حين عرف الانتصار بالصمود، لكن على حساب كم من الدمار وكم من الأرواح؟ وهل هو صمود نصرلله شخصياً كطرف مسؤول أم صمود مواطنين لم يستشاروا في الرأي؟ أم صمود شعوب عربية مغلوبة على حالها، وتريد أن تتشبث بخيط أمل على انتصار مزعوم؟
تجاربنا السالفة لم تلقننا أن الرؤية الواضحة والتحليل النقدي ومشاركة المواطن في اتخاد القرار واستعداده وقدرته على التضحية هي السبيل الوحيد نحو الاستعداد كدول وشعوب للمضي قدماً في تحقيق الأهداف، بدل المغامرة بمصائر البلاد والعباد والخطب الجوفاء. فإرادة الشعوب ومشاركتها في اتخاذ القرار هي أجدر بأن تحترم، لكن حين يقع التحول، من دون أي نقد أو تحليل، إلى جماعة من المتذيلين للوعي الذي تصنعه آلة تسلط طائفي ترفع شعارات التحرر الوطني، فإننا نلغي إمكانية بناء الدولة الديموقراطية المستوعبة لكل الأطياف السياسية. فما تقدمه القوى اللاديموقراطية هو في الحقيقة احتيال على إرادة هذه الشعوب وليس احتراماً لها. فشعب لبنان الذي يهدي نصرالله "صموده" له هو بين قتيل وجريح ومشرد. أما الشرف العربي والكرامة العربية فهي أمور لا تهم سوى المتابعين لأحداث الحرب خلف شاشات التلفزيون، لا من يكتوون بنيرانها حقاً.
إن "حزب الله"، الذي رفض أن يمارس حقه كقوة سياسية فقط، وحاول الجمع بين القوة العسكرية والسلطة السياسية، ومحاولة الضغط لنيل الإجماع اللبناني عليه كقوة عسكرية - سياسية، يجد نفسه أمام مفترق طرق وعليه أن يختار الدور الذي سيلعبه بعد أن خمدت النار وبعد أن فشل فعلياً فى حماية اللبنانيين، خصوصاً أن السيد حسن نصرالله يؤكد أن الحزب يتصرف كردة فعل فقط للهجمات الإسرائيلية على لبنان. ينتظر من "حزب الله"، كطرف أساسي في المعادلة اللبنانية، أن يخدم المشروع اللبناني الديموقراطي والمصلحة الوطنية اللبنانية. وعلى المقاومين، كجزء لا يتجزأ من النسيج اللبناني، أن يؤمنوا بسلطة القانون وبدور الدولة اللبنانية في تدبير شؤون مواطنيها. فلبنان، وكما قال أحد زعمائه السياسيين "امام مفترق مصيري"، وعلى "حزب الله" أن يختار بين المصلحة الوطنية مع كل الفرقاء اللبنانيين أو مشروع النظام الإيراني، الذي لم يحرك رئيسه أحمدي نجاد ولو صاروخاً واحداً من طهران إلى تل أبيب على رغم التصريحات النارية التي تنهمر من المسؤولين الإيرانيين منذ اشتعال الأزمة فى غزة. وهي الحال نفسها مع النظام السوري الذي يؤمن، عن حق، أن أي تدخل سورى ينبغى أن يكون "مبنياً على حسابات دقيقة،" وهذا ما يبرر عدم تحرك الجيش السوري لتحرير الجولان التي تحتلها إسرائيل منذ عقود من الزمن. فسورية راهنت ومنذ مدريد على "تلازم المسارات" أولاً مع الجانب الفلسطيني، الأمر الذي رفضه الراحل ياسر عرفات، وها هي لا تزال تراهن على تلازم المسارات مع لبنان. لقد حان الوقت لأن تفتح سورية واسرائيل باب الديبلوماسية المباشرة لتحرير الجولان بدل الولوج عبر التناقضات الطائفية اللبنانية. فلبنان في وضع حرج وهو في أمس الحاجة لإعادة بناء الدولة والمواطن اللبناني.
إن جماعات المقاومة المسلحة، رغم حصولها على تعاطف الكثيرين، إلا أن غالبية المتعاطفين معها لا ينخرطون كأعضاء فعليين في تلك الجماعات. وكمحاولة لإضفاء بعض التوازن على تلك المعادلة يصبح لزاماً على حركات المقاومة المسلحة توفير بديل اقتصادي خدماتي وخيري كما يفعل "حزب الله" في لبنان و "حماس" في الأراضي الفلسطينية. ومن ثم عليها الاعتماد على قوى خارجية لها مصالحها الخاصة كي تتمكن من الحفاظ على نسبة تأييد لها وسط الجماهير، حتى يتأتى لها اللعب بورقة الجماهير كلما اقتضت الحاجة لذلك. لقد حصلت "حركة المقاومة المسلحة" (حماس) على غالبية في المجلس التشريعي الفلسطيني ببرنامج خدماتي محلي وليس ببرنامج تحريري ثوري. وهي الحال نفسها في العلاقة بين "حزب الله" وسكان الجنوب اللبناني من المتعاطفين معه.
إن جماعات المقاومة المسلحة تحارب بالوكالة، ليس فقط عن الشعوب ولكن أساساً عن القوى التي تقدم لها الدعم، وهذه حقيقة مرة. ومن ثم فإنها لا تمثل حركات شعبية حقيقية. وغالباً ما تنتهي الحال بتلك الجماعات كطرف على مائدة المفاوضات تحصل على الحد الأدنى من المطالب أو تمسك بزمام السلطة بالوكالة أيضاً لتعيد إنتاج السيطرة ولكن هذه المرة بثوب جديد. وهي في كل الأحوال تظل مرهونة بمصالح مموليها وداعميها التي لا يمكنها الاستغناء عنهم، الأمر الذي يتجاوز تعبيرها عن مصالح المتعاطفين معها من الشعوب.