جريدة الجرائد

أخلاقيات مهنة الكتابة العربية .. إلى أين ؟

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

د. سيّار الجميل
مؤرخ عراقي


نتيجة دخول العالم عصر السرعة والتشيؤات المتاحة وخزائن المعلومات والثورة الالكترونية ، فقد بدأت مجتمعاتنا قاطبة تفتقد جملة هائلة من تقاليدها ، وغدت الثقافة العربية تتيه في عالم موبوء بالتشظيات السياسية والفوضى القيمية والإعلاميات السطحية والتربويات الرثة ، حتى بات الجيل الجديد يضيع بين واقع مليء بالتناقضات وبين استقطاب لهذا أو ذاك ! بل وخرجت الكتابات العربية عن أصولها الحقيقية .. ولا اقصد شكليات النثر والأداء حسب ، بل مضامين التعبير وأساليب النشر ، ويكاد تضيع كتابات ممتازة لكّتاب رائعين في خضم فوضى التعبير ، وخصوصا ما يعّبر عن أوهام وأشياء لا وجود لها ولا يمكن تصديقها ، فكيف يمكن تحقيقها ! إننا العرب نعيش حقّا أزمة فكر وتفكير وأزمة أخلاق لقدرات ضائعة في عالم يكتب فيه أي شيء من دون جدوى .. والمشكلة أن ليس هناك من قراء حقيقيين ولا من نقاد متضّلعين يمكنهم أن يقدّروا الكتّاب حق قدرهم ويقدمون أفكارهم وتقويماتهم كي تستفيد منها كل الأجيال .
إن الجهل بما هو حاصل ، وفراغ الثقافة العامة وان يكتب المرء أكثر من أن يقرأ .. وما تفّشى من تعصّبات وتشنجات وابتعاد عن التنوير ستجني كلها على مستقبل أجيال تختلف عن أجيال سبقتهم ويصبحون من نوع آخر .. إنني لا أعارض أن تختلف الأجيال وتتباين في مستوياتها وأفكارها ، ولكنني اعترض على حالات سيئة جدا من الغلو واستعراض البذاءات وترديد الشعارات وتوزيع الشتائم والسباب من دون أي وازع أخلاقي يحكم العلاقة بين المثقفين والكتّاب والإعلاميين الذين لا يمكنهم أبدا ممارسة أساليب ضارة واتخاذ مواقف خطيرة بعيدا عن أية تجارب وعن أية مشاركات أو أي تقّبل لآراء مختلفة ..
لقد دهشت حقا لمقالات تصدر عن كتّاب وإعلاميين .. تمّثل درجة عالية في الرداءة ، ويشتكي بعض كبار الكتّاب المحترفين من أساليب بعض الشباب الجدد الذين لا يمكنهم إقامة الدليل والحجة ، اذ يلجأوون الى الشتائم والقذف وكيل الاتهامات .. إن ما عرضه قبل أيام احد الأصدقاء من الكتّاب المصريين المعروفين ، وهو يعاني من أساليب غير أخلاقية يمارسها البعض في الكتابة والطعن ضده من اجل ابتزاز لاغراض شخصية أو من اجل مواقف سياسية أو من اجل دعاوى حزبية .. وكل هذا وذاك يستدعي أكثر من وقفة قبل أن تتحول هذه " الحالات " إلى ظاهرة تسحق ما تبقّى من قيم وأخلاقيات !!
لعل من اخطر مستحدثات العصر التي دخلت حياتنا العربية المعاصرة ـ على غرار بقية الشعوب والمجتمعات ـ انتشار رقائق ولفائف المواقع على شبكة الانترنيت والتي تزداد بشكل مذهل يوما بعد آخر .. ولنا أن نتخّيل ما يمكن أن تؤديه ثورة الاتصالات والمعلومات من خدمات متطورة لحياتنا ومستقبل أجيالنا أذا أحسن استخدامها ، ولكنها ، ويا للأسف ، غدت تستغل استغلالا بشعا لأغراض بعيدة جدا عن أي بناء حضاري . لقد دخل كل من هّب ودّب هذا الميدان ليقول ما يشاء من دون ضوابط ولا أخلاقيات ولا تقاليد ولا أي عقوبات !! إن الكتابات العربية انتقلت في فجاجتها وبلادتها ومغالطاتها من الصحف الصفراء ذات الدرجة الثالثة إلى أن تجدها في عشرات المواقع الالكترونية وهي تبث كل الهراء وتنشر كل الأدران وتفسد كل المواقف وتنخر كل المجتمعات .. ومن المؤسف أن يتربّى أولادنا وشبابنا على هذا الغثاء ، بل ويبدو انه يتأثّر به سريعا بسبب إتاحته للجميع !
صحيح أن الكتابات العربية قد تحررّت من أطواقها القديمة شكليا وموضوعيا ، بل وانتقلت من زمن الإيديولوجيات والانشائيات الفضفاضة والشعارات الوهمية والخطابات الثورية والمخاوف الأمنية والإعلاميات الرسمية والرقابات السلطوية إلى زمن الانفتاح ، ولكن بلا ضوابط أو كوابح حيث الكتابات المتحركة من مكان لآخر ، ولم يعد هناك من يهتم لضوابط العربية النقية ! وليس هناك من اشتراطات قانونية أو ملاحقات أصولية .. باتت الكتابات ملصقات ! وبدا الكّتاب يجدون أعمالهم مستنسخة من دون أي أمانة وحقوق .. وبدا هذا الميدان يعّج بأسماء لا حرفية لها ولا مهنية تجمعها ولا أخلاقيات تمّيزها .. وفتح المجال للجميع أن يقول ما يشاء وبأسماء وهمية من دون أي تعبير حقيقي عن رأيه .. لقد أصبح المقروء مرئيا ميدانا للأمزجة وبث الكراهية والأحقاد ! بل وانتقلت الكتابات السياسية لتساهم في ضرب نسيج مجتمعاتنا بالصميم بإثارة النعرات الطائفية والمذهبية والجهوية والمحلية .. الخ
السؤال الآن : هل ثمة علاجات قانونية تمنع كل هذا الفساد الذي أحدثته الفوضى الالكترونية ؟ هل من استحداث قوانين جديدة للحد من ارتباك فوضى الكتابات وتدميرها المخيف لطرائقنا المهنية وأساليب حياتنا الاجتماعية ؟ هل من نصوص قضائية يمكن اللجوء إليها ، لإبعاد الضرر عن الناس ، وليطالب بحقه كلّ من يتعّرض لاعتداءات سافرة وبذاءات مقصودة بعيدا عن موضوعه ومن قبل أناس يمتهنون الشتائم والسباب ولا يدركون معاني النقد ولا أخلاقيات الانتقاد ولا فرص الحوار ولا أساليب الكتابة ولا مناهج النقد والحوار ؟ هل من إصلاح حقيقي لما طرأ على الثقافة العربية وبالأخص الثقافة السياسية من فساد هذه الأيام ؟؟ إنني أقول : إذا استمرت هذه الحالة نحو الأسوأ فسيقع ضرر بالغ على ذهنيات جيل كامل وكيفية تصرفاتهم مما سيخلق انقسامات مريعة في مجتمعاتنا .. إنني أهيب بالدول العربية أن تتدارس ما يجري في ثقافات أخرى والأخلاقيات والمحددات التي تحكم كل من يمسك قلما بيراعه .. إن ثمة محاكم للتجاوزات ، وثمة أعراف وأصول لا يمكن تجاوزها أبدا .. فمتى يلتفت العرب إلى إصلاح أحوالهم وهم يستخدمون آخر منتجات العصر من دون أي دراية ومن دون أي ضوابط وكلها تسّوق باسم الحريات والديمقراطية ، فكيف تتوفران في ظل فوضى تناقضات هذا العصر ؟؟

www.sayyaraljamil.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف