الدار البيضاء ... عاصمة المال والتجارة والفنادق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الرباط - رضا الأعرجي، الراي
من بلدة صغيرة لا تتعدى مساحتها 44 هكتارا عام 1900، تحولت الدار البيضاء الى مدينة كبيرة مترامية الأطراف، والى ثاني أكبر المدن في أفريقيا، بعد القاهرة، ومن 600 نسمة هو عدد سكانها في 1830، تموج اليوم بحركة ستة ملايين، وربما أكثر من ذلك بكثير، بعدما باتت أهم مدن المغرب واحدى علاماته بامتياز، وأهم مراكزه للتجارة والصناعة والمال، بل عاصمته الاقتصادية الكبرى.
في عام 1942، وضع فيلم "كازابلانكا"، الذي دخل به من همفري بوغارت وانغريد بيرغمان تاريخ السينما، الدار البيضاء على كل لسان، على الرغم من أن المخرج مايكل كورتيس لم يكلف نفسه عناء الانتقال من هوليود الى المدينة التي ورد وصفها في الفيلم على أنها "مكان مرمي في الصحراء"، واكتفى بتصوير جزء صغير منه في طنجة شمال المغرب.
ومثلما تزخر الدار البيضاء بالفنادق الرفيعة المستوى (160 فندقاً مصنفاً) التي أهلتها لأن تصبح الباب السياحي للمغرب، تتمركز في الدار البيضاء الصناعات المتطورة التي جعلتها معقل النشاط الاقتصادي وبؤرة أنشطة القطاع الثالث التي تشكل أساس الوظيفة القيادية من بنوك ومؤسسات للتأمين وشركات للتصدير والاستيراد، فثمة 60 في المئة من العدد الاجمالي للشركات على صعيد المحلي و83 في المئة من الصناعات الكيماوية وأكثر من 70 في المئة من الصناعات الكهربائية والالكترونية وحوالي 50 في المئة من الصناعات الغذائية، تستهلك ما نسبته 30 في المئة من الطاقة الكهربائية للبلاد.
من أنفا الى كازابلانكا
ان تولد الدار البيضاء في فجر القرن العشرين، لا يعني أنها مدينة من دون تاريخ، فاذا تجاوزنا ما قيل عن "انسان سيدي عبد الرحمن"، حيث عثر بالقرب من ضريح هذا "الولي الصالح" عام 1955 على جمجمة قدر العلماء عمرها بآلاف السنين، سنجد "أنفا" الاسم القديم للمدينة حاضرا في أحداث القرن الثامن الميلادي، والمرجح أن تأسيسها تزامن مع المملكة البرغواطية التي لعبت دوراً مهماً في العلاقات المغربية - الأوروبية، خصوصاً مع أسبانيا والبرتغال، ولا أدل على قوتها ومنعتها من وقوفها في وجه السلطان المرابطي يوسف بن تاشفين، وصمودها لفترة نيفت على الخمسة أعوام ما بين 1063 و 1068. وبعد القرن الرابع عشر، ابان العصر المريني، لعب أسطولها البحري دوراً بارزاً في المواجهات مع ملوك شبه الجزيرة الايبرية.
وكان الرد هو عمليات عسكرية انتقامية شنها الأسطول البحري البرتغالي عام 1468 على "أنفا" بنية الاستحواذ على هذا الموقع التجاري والاستراتيجي، وبعد اخلائها من سكانها الذين اتجهوا صوب مدينة الرباط، عملت فيها المدفعية البرتغالية تخريباً حتى أحالتها الى أنقاض، ثم دخلها البرتغاليون واستقروا بها مع مطلع 1515 قبل أن يطردوا نهائياً عام 1755.
وأثناء ذلك حصل التجار الأسبان على ترخيص للاقامة في المدينة، ومن هناك ينحدر أصل كلمة "كازابلانكا" التي حلت محل "كازابغانكا" الاسم الذي أعطاه البرتغاليون لها وهو ما ترجمه المغاربة لا حقاً بـ "الدار البيضاء". ولم يتوان الفرنسيون والانكليز لدى بحثهم عن المواد الأولية في النزول بها مثلهم في ذلك مثل الأسبان.
ومازالت المدينة تحتفظ بالذكريات البطولية للمقاومة ضد الوجود البرتغالي مثلما تحتفظ
بشريط الأحداث الذي بدأ يوم 5 أغسطس 1907 ولم يتوقف الا في 18 أكتوبر 1956، ففي ذلك اليوم قنبلت البواخر والمدرعات الفرنسية الدار البيضاء، فهدمت الكثير من منازلها ومساجدها وحوانيتها، وقتلت المئات من سكانها، دون تمييز بين الجنود النظاميين وبين السكان المدنيين الذين فوجئوا بالقذائف تنزل عليهم وهم على أسرة النوم.
ومع النصف الثاني للقرن الثامن عشر جدد بناءها السلطان العلوي محمد بن عبد الله بأسوارها وأبوابها وسقالتها التي ما زالت محتفظة بمعالمها وبالمدافع التي جهزت بها للدفاع عن ثغرها المنفتح بشساعة على الأطلسي. وتعتبر هذه الفترة من حيث أهميتها بمثابة البداية لتأكيد مكانتها بين المدن المغربية. ففي منتصف القرن التاسع عشر، وبسبب تزايد الطلب الأوروبي على الصوف والجلود والحبوب والزيوت والعسل، تطورت المدينة التي كانت مساحتها لا تزيد على 44 هكتاراً، ما أدى الى تنمية حركة التصدير، واستقرار خطوط منتظمة للملاحة البحرية بين المغرب وأوروبا.
وسيؤدي بناء الميناء الجديد عام 1914 الى النمو الهائل للمدينة ليعزز بذلك طابعها التجاري والسير بها نحو التصنيع. وما زال هذا الميناء العنصر المحرك للدار البيضاء، العاصمة الصناعية والتجارية والمالية للمغرب.
كنوز التقاليد ومباهج العصرنة
في مطلع 1912، شيد المهندسون المعماريون مدينة نموذجية، مدينة عصرية فاتنة سيجعل منها نموها السريع حاضرة المغرب العربي الكبرى التي تبهر الأنظار بجمالية هندستها المعمارية، وقد شكلت استثناء مقارنة بالمدن المغربية الأخرى كمراكش والصويرة والرباط وغيرها، هذا الاستثناء الذي يتجلى في جمعها بين تشكيلات هندسية متنوعة منها ما هو قريب من الطابع الأندلسي وأخرى أوروبية.
هندسة العمارة هنا عبارة عن دقة وتناسق في الأشكال، فالبيانات شاهقة في غير افراط، وبعض الأحياء تبقي على منازل بطابق واحد وفيلات محاطة بالخضرة اليانعة، أما المساحات الخضراء المعشوشبة التي تخترق غلظة الاسمنت فتؤكد رغبة لا تقاوم في تحقيق التكامل والانسجام، وباختصار، فان التوسع الذي عرفته هذه المدينة التي يتجاوز طولها العشرين كيلومترا لم يمنعها من الحفاظ على الفن المعماري المغربي العريق، كما لم يفقدها ملامحها الأصيلة.
ان الدار البيضاء مدينتان: قديمة وجديدة، بل هي نمط خاص من المدن بفضل اغناء كنوز التقاليد المغربية بمباهج العصرنة والتكنولوجية الحديثة، ومن هنا تستمد خصوصيتها، فمع أنها ليست متحفاً للآثار لكنها ما زالت تحافظ على الأصيل من ماضيها، فوراء السور المحصن تقبع المدينة القديمة بكل تجلياتها ومكوناتها الأثرية الحاملة بين حيطانها آلاف الروايات والأحداث والمواقف التاريخية المنبثقة عن حضارة أصيلة ومتجذرة.
والى جوار المتاجر العصرية، تتعدد محلات الصناعة التقليدية وهي تعرض بنظام بديع الزرابي (السجاد) الرباطية والمنتوجات الجلدية والخشبية القادمة من مراكش والصويرة ومطرزات فاس وأواني الخزف التي تشتهر بها مدينة أسفي. غير أن الحديث طغى على القديم وقلل من حيزه وان لم ينل من شأنه الأثري والتاريخي، ذلك أن عماراتها الشاهقة وشوارعها الواسعة وحجم مصانعها هي أبرز ملامح الجسد الكبير لهذه المدينة الضخمة.
لقد أعيد ترميم الأماكن التقليدية. أصبح حي الحبوس (الأوقاف) المشيد في بداية القرن يبدو وكأنه يحكي عن الأزل. أزقة ضيقة بساحات مظللة جميلة محاطة بأقواس تنفتح على أسواقه العديدة، وسلعه من كل الأنواع والألوان، وحركة صناعه بجلابيبهم المميزة. وفي هذا الحي شيد مقر الباشوية الاداري، مبنى أنيق متعدد ألوان الزليج بسقوف من خشب الأرز. وغير بعيد عنه توجد كنيسة "نوتردام دولورد"، وهي نحث أثري رائع من الأسمنت المقوى يعود الى الخمسينات، تضيئه واجهات زجاجية ضخمة.
وحيث يكون الزائر عند شارع محمد الخامس وزنقة الأمير مولاي عبد الله والأزقة المجاورة التي لا تنقطع حركتها ليل نهار، انما يكون في قلب الدار البيضاء، مدينة البورصة والتجارة والأعمال والفنادق الفخمة والمطاعم الفاخرة التي تغص بأشهى الأطباق، فضلاً عن عشرات المقاهي وقاعات السينما والمسرح وغيرها من أماكن اللهو والترفيه. وقريباً، عند ساحة محمد الخامس حيث القبة البديعة ذات الشكل الكروي التي يخترقها ممر باطني من الأسفل مؤدياً الى كل الاتجاهات، توجد "حديقة الجامعة العربية" التي عمر أشجارها حوالي المئة عام.
مدينة المستقبل
لقد تعملقت الدار البيضاء حتى أمست، كما هي اليوم، تضم ثماني عمالات (محافظات) وسبعة مجالس اقليمية وخمس وثلاثين جماعة محلية ومجموعة حضرية. وشكل طغيان الصناعة بهذه المدينة مصدراً لتلوث بيئتها الطبيعية وتهديد صحة سكانها.
وترجع هذه الاختلالات الى عدم وجود تصاميم متوسطة وبعيدة المدى تؤهل المدينة للتطورات التي عرفتها على أكثر من مستوى. فمنذ عام 1918، خضع وسط الدار البيضاء، وهو ما سمي حين ذاك بأحياء خارج السور، لتصميم "بروست" من أجل تشييد محور عمراني يستوعب 500 ألف نسمة لا غير، غير أن التوسعات الكبيرة اللاحقة أفرزت أحياء غير منسجمة البناء، وأخرى عشوائية تفتقر للمساحات الخضراء والى مرافق الخدمات، وشوارع غير قابلة للتوسع أو الامتداد.
ويكاد الوجه التقليدي للمدينة يفقد طابعه المميز، فالكثير من المعالم الأثرية القائمة في الشوارع الرئيسية مثل سور "باب دار بايدا" الموجود بشارع الحسن الثاني، بدأ يندثر، والبعض الآخر بات عرضة للتآكل، كما هو حال الأسوار والأقواس الموجودة ببعض الأحياء، كالأحباس وبوشنتوف وسيدي معروف الأول وغيرها.