الأسطورة الديغولية وراء تحرك شيراك باتجاه العرب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
تأليف: إريك آيشمان وكريستوف بولتانسكي
عرض ومناقشة: محمد مخلوف
يسعى المؤلفان هنا إلى كشف أسرار تطور صلة الرئيس الفرنسي جاك شيراك بياسر عرفات وانقلابها من القطيعة، لا بل من النفور، إلى التقارب الذي جعلهما يلتقيان أكثر من 30 مرة في مسلسل من الاتصالات ذات الأهمية الكبرى، وهما يربطان ذلك بالتحول في سياسة شيراك باتجاه العرب، هذا التحول الذي يرجعانه إلى ما يسميانه بـ "الأسطورة الديغولية".
في 17 مايو 1995 وعند الساعة الحادية عشرة صباحا كان جاك شيراك ينطلق إلى البوابة الرئيسية في قصر الاليزيه حيث كان ينتظره فرانسوا ميتران. كان شيراك قد حصل على نسبة 5 ,52 بالمئة من أصوات الناخبين في الدورة الانتخابية الرئاسية الثانية ليصبح الرئيس الخامس للجمهورية الفرنسية الخامسة التي أسسها الجنرال شارل ديغول عام 1958. لم يكن أحد يتوقع فوز شيراك بالرئاسة قبل ستة أشهر فقط من الانتخابات إذ كانت استطلاعات الرأي كلها تضعه في مرتبة متخلفة بين المرشحين.
كان على الرئيس شيراك أن يعدّل الكثير من آرائه وأشكال سلوكه منذ بداية مسيرة حياته الجديدة خاصة في الميدان الدبلوماسي المرتبط جوهريا برئيس الجمهورية. وقد سعى "ألان جوبيه" الذي كان وزيرا للخارجية خلال فترة 1993-1995 في حكومة "ادوار بالادور" وأصبح رئيسا للوزراء مع وصول شيراك إلى الرئاسة، كي ينتهج الرئيس ـشيراك- سلوكا جديدا بحيث يتخلّى عن الشبكات وعن الأفراد الذين كانوا يزعمون أنهم يتحركون باسمه ويبدأ العمل حصرا مع "محترفين" أي مع دبلوماسيين.
من المعروف عن شيراك أنه كان قبل انتخابه رئيسا للجمهورية يحذر كثيرا من العاملين في وزارة الخارجية. لكن تغيرا واضحا قد استجد بعد وصوله إلى الاليزيه إذ أصبح "دبلوماسيو" وزارة الخارجية في العديد من المناصب ابتداء من الأمين العام الجديد للرئاسة دومينيك دوفيلبان المولود في الرباط والديجولي الأصيل الذي تعرّف على شيراك عام 1980 بواسطة أحد أفراد مجموعة "الموالين للعرب"، أي كميل كابانا الذي تولّى ذات يوم منصبا وزاريا وغدا رئيسا سابقا لمعهد العالم العربي في باريس.
ومن العادات الجديد التي ترسّخت في قصر الاليزيه بعد وصول جاك شيراك أنه يلتقي يوميا بالذين يعملون معه، هذا على عكس فاليري جسكار ديستان وفرانسوا ميتران اللذين كانا قد تعودا أن لا يعملا إلا بواسطة المذكرات المكتوبة ولا يريان أبدا المستشارين الذين يعملون معهما.
هذا فضلا عن أن شيراك لم يكن يخفي ـ تقريبا ـ أي شيء عن مساعديه المقرّبين بل كان يشاركهم أفكاره من أجل صلاته واتصالاته برؤساء الدول الأجانب. وينقل المؤلفان عن أحد مستشاريه قوله: "يقول الرئيس: لدي فكرة، فما رأيكم فيها؟ وقد تجيبه إنها حماقة حقيقية. نعم بهذه الألفاظ. إنه ينتظر دائما أن تقول له بشكل صريح ما تفكر به".
سياسة فرنسا العربية
كان فرانسوا ميتران رجلا دقيقا في تصرفاته. وقبل أيام فقط من نقل السلطات الرئاسية إلى خليفته جاك شيراك قام هو نفسه بتنظيم موجودات مكتبه في الاليزيه وقرر إرسال الأثاث إلى المنزل الخاص الذي سيقطنه، كما طلب أن يعاد إلى المكتب الأثاث الذي كان الجنرال ديجول قد استخدمه. ويروي المؤلفان أن الكاتب "دونيس فيليناك" دخل على شيراك في اليوم التالي لاستلام مهام منصبه في الاليزيه، وقال للرئيس: "على هذا المكتب كان يعمل الجنرال ديغول؟
ـ نعم... بالفعل.
ـ ألا يجعلك هذا تحس بأي شيء؟
ـ كلا...".
مع ذلك يؤكد المؤلفان أن "الأسطورة الديغولية" هي المفتاح الذي يسمح بتفسير التحول الموالي للعرب الذي سيدفع شيراك الدبلوماسية الفرنسية لانتهاجه. ذلك أن الجنرال يشكل "قيمة أكيدة ثابتة" لليمين الفرنسي ويمكن لكلماته أن تثير دائما عواطف الجماهير. هكذا كانت "سياسة فرنسا العربية" التي خطّ ديجول ملامحها الأولى هي
التي تبنّاها جاك شيراك كي تكون المحور الأساسي للسياسة الخارجية الفرنسية. وكان الرئيس الفرنسي قد صرّح في خطاب له ألقاه في جامعة القاهرة خلال شهر أبريل 1996 ما نصه: "ينبغي أن تكون سياسة فرنسا العربية بعدا أساسيا في سياستها الخارجية. وإنني أتمنى أن أعطيها اندفاعة جديدة تكون مخلصة للتوجهات التي أراد مؤسسها الجنرال ديجول تحديدها لها.
وقام شيراك ضمن هذا السياق بالتذكير بجملة كان الجنرال قد قالها عام 1958 وجاء فيها: "إن كل شيء يدعونا للظهور من جديد في القاهرة ودمشق وعمّان وبغداد والخرطوم، كأصدقاء ومتعاونين، كما لا يزال يُنظر لنا في بيروت". هكذا أراد جاك شيراك إذن أن يجعل سياسة فرنسا العربية في ظل حكمه بمثابة استمرار لما كان الجنرال قد أرسى أسسه.
لكن برزت مباشرة مشكلة مفادها أن "فكرة الجنرال" لم تكن تتناظر مع الواقع التاريخي. إذ أنه "لم يضع أبدا قدمه" كرئيس لفرنسا في القاهرة أو دمشق أو عمان أو بغداد أو الخرطوم بل كانت علاقاته السياسية معها مشوبة بالتحفظ."كان كل شيء قد بدأ مع حرب التحرير الجزائرية"، يؤكد المؤلفان كي يشيرا مباشرة إلى أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، رمز القومية العربية، دعم بقوة جبهة التحرير الوطني الجزائرية،
وكان العدو الأكبر لإسرائيل. وعلى قاعدة المبدأ القائل أن "عدوعدوي هو صديقي" قامت علاقات وثيقة بين فرنسا وإسرائيل خلال سنوات الخمسينات وصلت إلى حد "الشراكة الإستراتيجية" وتجسّدت بـ "مبيعات" ضخمة من الأسلحة ونقل التكنولوجيات النووية وأيضا، وأساسا، في الحملة الثلاثية الفرنسية ـ البريطانية ـ الإسرائيلية على مصر في حرب السويس 1956.
يقول "جان لاكوتور"، كاتب سيرة الجنرال ديجول: "كان الضباط الإسرائيليون والتقنيون الكبار يستطيعون الدخول إلى جميع المصالح والإدارات التي كان يتم فيها إعداد الخطط الدفاعية الفرنسية، وخاصة في مجالات الاستخبارات والبحث النووي". وكانت الدول العربية كلها قد قطعت علاقاتها مع فرنسا، تضامنا مع جبهة التحرير الجزائرية ما عدا لبنان.
ويشير المؤلفان إلى أن الجنرال ديغول كان قد أيّد حملة السويس وأن ميشال دوبريه، رئيس وزرائه القادم، قد وصل به الحد إلى أن يقول لعبد الناصر أنه "دكتاتور" وأن الإطاحة به "عمل يصب في الصالح العام". كذلك يؤكد المؤلفان أن الجنرال ديغول الذي كان قد خدم كضابط في لبنان وسوريا ما بين 1929 و1931 "لم يكن يؤيد أي تعاون مع العرب"، وينقلان عنه قوله عام 1956: "من هم العرب؟ العرب هم شعب لم ينجح، منذ زمن بعيد، في بناء دولة (...).
ثم هل رأيتم أي معلم اشاده العرب؟ لا يوجد في أي مكان. إنهم لا يستطيعون عمل أي شيء وحدهم". وبالمقابل كان ديجول يبدي إعجابه بـ "بديفيد بن غوريون، الذي استقبله عام 1960 ثم عام 1961 وشرب معه "نخب إسرائيل". كذلك تدفقت الأسلحة الفرنسية على إسرائيل بواقع 72 طائرة ميراج عام 1961
وشكّلت 50 طائرة أخرى موضوع عقد موقع عام 1966. ورغم الإعلان عن حظر على بيع الأسلحة الإسرائيلية فإن طائرات الميراج وصلت ك"قطع غيار" والطرّادات البحرية اتجهت إلى إسرائيل في ظل "عدم انتباه محسوب" من قبل السلطات الفرنسية.كان الجنرال ديغول يريد أن يجعل من فرنسا قوة دولية من الدرجة الأولى عبر طرح نفسه ناطقاً باسم أولئك الذين لا يريدون التبعية لأميركا ولا الهيمنة السوفييتية.
هكذا أخرج فرنسا من البنى العسكرية للحلف الأطلسي ودعا إلى قيام "كيبيك الحرة" في كندا ـ الجزء الفرنسي منها. ولم يكن العالم العربي يحتل في البداية سوى أهمية ثانوية بالنسبة له، وكان استئناف العلاقات الدبلوماسية وتنشيطها بطيئا بعد توقيع اتفاقيات "ايفيان" الخاصة باستقلال الجزائر. وينقل المؤلفان عن الجنرال كتابته في مذكرة له: "لقد تصرفت الدول العربية في الشرق بشكل سيئ جدا حيالنا. وبمقدار ما سنطلب استئناف العلاقات سوف ندرس المسألة حالة إثر حالة".
لكن الحسابات الاقتصادية لم تكن غائبة عن اهتمام الجنرال الذي كان يريد فتح أسواق أمام الصناعة الفرنسية وتأمين التزود بالبترول. هكذا انتقلت فرنسا ما بين عام 1967 وعام 1970 من المرتبة 53 إلى المرتبة الثالثة بين الدول المصدّرة للعراق. لكن الحذر بقي قائما لدى الجنرال إذ عندما طلبت مصر الاستفادة من التكنولوجيا النووية الفرنسية كي تكون في وضع متكافئ مقابل إسرائيل "رفض ذلك بكل جلاء".
وكان المنعطف هو بالتحديد ذلك المؤتمر الصحافي الشهير الذي عقده الجنرال يوم 27 نوفمبر 1967 حول حرب 5 يونيو من تلك السنة حيث أكّد في الواقع تمنياته أن "تستأنف مع الشعوب العربية في الشرق سياسة الصداقة والتعاون نفسها التي كانت فرنسا قد انتهجتها طيلة قرون في تلك المنطقة من العالم". واعتبر أن "العقل والمشاعر يجعلان من هذه السياسة اليوم أحد القواعد الأساسية لسياستنا الخارجية". لكن إذا كان الجنرال قد استمر خلال العامين التاليين لعقد مؤتمره الصحفي في انتقاد السياسة الإسرائيلية، فإنه "لم يبعث أية إشارة خاصة للأنظمة العربية".
في الواقع أن التوجه "الموالي للعرب" في الدبلوماسية الفرنسية وجد ازدهاره في ظل رئاسة جورج بومبيدو التي شهدت توقيع عدة عقود كبيرة من بينها بيع 110 طائرات ميراج لليبيا. وقد وجد مثل هذا التوجه تجسيدا كبيرا له مع تعيين ميشال جوبير وزيرا للخارجية الفرنسية والذي لم يتردد في القول تعليقا على عبور الجيش المصري لقناة السويس في بداية حرب أكتوبر 1973: "هل وضع المرء لقدمه من جديد فوق أرضه اعتداء؟".
وفي المحصلة بدت سياسة فرنسا العربية الجديدة وكأنها ترمي إلى إضفاء الشرعية على التطلع الفرنسي لاحتلال مكانة القوة الوسيطة بين القوتين العظميين آنذاك، أي الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي (السابق)، بل وإلى حد ما التطلع إلى "زعامة" الأمم التي ترفض الانحياز لهذه القوة العظمى أو تلك. وهذا ما جرى التعبير عنه بالقول أن فرنسا تسعى إلى "إعادة بناء صورتها كأمة ذات سيادة ومستقلة وجاهزة ومنفتحة على الآخرين".
ويشكل الخطاب الذي ألقاه جاك شيراك بتاريخ 8 أبريل 1996 في جامعة القاهرة خطوة "تأسيسية" في تأكيده لـ "التزام فرنسا من جديد حيال هذه المنطقة من العالم وإظهار التضامن الخاص الذي نقيمه معها. وهذا يعني انتهاج سياسة اليد الممدودة والتعبير عن إرادة الاندراج في النهج الديجولي". كما قال الرئيس الفرنسي وأضاف: "سياسة فرنسا الخارجية تكمن في الاستمرارية، والعرب يعرفون أنه بإمكانهم الاعتماد على فرنسا المخاصة لبعض المبادئ البسيطة. ما نريد إظهاره هو قدرتنا المحافظة على الإرث الديجولي".
وقد حدد شيراك الأهداف التي يمكن لها أن تشرّف الدبلوماسية في دعم حق الفلسطينيين بأن تكون لهم دولة قابلة للحياة وتشجيع السلام في الشرق الأوسط ومساعدة البلاد العربية. لكن مثل هذه الأهداف لا يسهّل الواقع تحقيقها، كما يرى مؤلفا هذا الكتاب كي يؤكدا أنه "من أجل أن يحافظ شيراك على توجهه الديجولي سيكون عليه أن يذهب في التوجهات إلى حد التطرف وأن يحوّل الصداقة حيال القادة العرب إلى محاباة وأن يدفع نقد إسرائيل إلى ما يقارب القطيعة وأن يتمايز عن الأمريكيين إلى درجة التحدي".
شيراك والفلسطينيون
تميزت علاقة جاك شيراك بياسر عرفات بوجود مرحلتين: ما قبل، وما بعد. كانت المرحلة الأولى طويلة ومشوبة بالحذر، إن لم يكن بالنفور تقريبا. ثم مرحلة ثانية، قصيرة نسبيا، تميّزت بدعم شيراك وإخلاصه الكبير الذي لا شائبة فيه للقائد الفلسطيني حتى عزلته ووفاته.
فمتى حدث ذلك التغيير؟
يجيب مؤلفا هذا الكتاب: "من الصعب تحديد تاريخ دقيق للنقطة التي حدث المنعطف فيها. فشيراك لا يغيّر رأيه بشكل فجائي، ولم تقم هناك بين الرجلين عواطف مشبوبة مفاجئة- ضربة صاعقة. إن التغيير حدث بهدوء وتدريجيا". ثم يشيران إلى أن المحيطين بالرئيس شيراك يعيدون انقلاب توجه شيراك إلى اتفاقيات أوسلو 1993
حيث "انتقل ياسر عرفات فجأة من الظل إلى دائرة الضوء ومن الكبريت إلى البخور"، ثم إن المجموعة الدولية كلها بدأت اهتمامها الكبير بياسر عرفات آنذاك، وبالتالي لم يكن شيراك يريد أن يبقى بعيدا عن حدث له بعد عالي ف"أراد أن يصعد إلى القطار" الذي رآه ينطلق من أوسلو وحيث بدت مسيرة السلام في الشرق الأوسط بمثابة التحول الدولي الكبير بعد سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي.
أراد الفرنسيون آنذاك أن يساهموا في تلك "الورشة الكبيرة" بعد أن كان جرى استثناؤهم من المرحلة البدائية من مسيرة السلام التي أطلقتها الولايات المتحدة في شهر سبتمبر من عام 1991" غداة نهاية حرب الخليج الأولى. وفي نهاية شهر أغسطس 1993 تلقّت ليلى شهيد التي كانت قد أصبحت ممثلة فلسطين في باريس منذ فترة وجيزة بدلا من إبراهيم الصوص،
اتصالا هاتفيا من ياسر عبه ربه من تونس قال لها فيه أنه سيصل إلى باريس ومعه رسالة "مهمة جدا" يريد إبلاغها شخصيا لألان جوبيه، وزير الخارجية الفرنسي آنذاك. كان جوبيه غائبا فقام سيرج بوادفيه، أمين عام الوزارة، باستقبال عبد ربه وليلى شهيد. وعندا قال الموفد الفلسطيني: "لقد أبرمنا اتفاقا سريا مع إسرائيل".
انتفض سيرج بوادوفيه من مقعده، فهو الذي كان يتابع منذ أكثر من عشرين عاما العلاقات الفرنسية ـ العربية. أضاف ياسر عبدربه: "نعم، إننا نتفاوض منذ ثمانية شهور في أوسلو بالنرويج، وقد حررنا بيان مبادئ يسمح بتسوية عدد من الأمور خلال فترة انتقالية. وقد أراد ياسر عرفات أن يكون صديقه فرانسوا ميتران من بين الأوائل الذين يتم اطلاعهم على الأمر ـ كان فرانسوا ميتران رئيسا للجمهورية مع وجود حكومة يمينية برئاسة ادوار بالادور".
ويشير المؤلفان إلى أن الرئيس الفرنسي ـميتران- قام مباشرة بإرسال برقية للرئيس الأميركي بيل كلنتون يهنئه فيها على ذلك الإنجاز العظيم. لكن كلنتون، وعندما قرأ ما أرسله له ميتران "اعتقد أن نظيره الفرنسي قد فقد عقله". ذلك أنه في تلك اللحظة لم يكن على علم بالتقدم الذي تمّ إحرازه في مفاوضات أوسلو،
إذ أن شيمون بيريز كان لا يزال في طريقه للقاء وارن كريستوفر، وزير الخارجية الأمريكي الذي كان في كاليفورنيا، وعندما وصل الاثنان في البيت الأبيض، كان أمين عام وزارة الخارجية الفرنسية على علم بالأمر منذ عشرة ساعات. ولذلك طلب كلنتون، الذي لم يعرف بالخبر إلا بعد ساعات من الرئيس الفرنسي، أن يتم احتفال التوقيع على اتفاقية أوسلو في واشنطن.
كان شيراك بعيدا آنذاك من أمكنة صياغة القرارات وعن أسرار الدول، إذ لم يكن سوى رئيس بلدية باريس. وقد سمع بخبر اتفاقية اوسلو مع الجميع وبواسطة برقية عاجلة وزعتها وكالة الأنباء الفرنسية، قدّمها له أحد موظفي إدارة العلاقات الدولية في البلدية. وكان أول رد فعل لشيراك هو قوله لذلك الموظف: "هل تعتقد أن هذا مهمه؟".
وقد أتته الإجابة على لسان "بيير لولوش" مستشاره الدبلوماسي اليهودي، الذي أكّد بحماس: "نعم، هذا هام جدا"يكن شيراك يرى في البداية أنه سيكون لاتفاق اوسلو أي مدى تاريخي مهم، لاسيما وأن أصدقاءه اللبنانيين، وخاصة رفيق الحريري، والسوريين، كانوا يُظهرون أكبر قدر من الحذر حيال مثل تلك المسيرة.
وفي الوقت نفسه استمر رئيس بلدية باريس، جاك شيراك، بإصراره على عدم التقرب من ياسر عرفات. وكان قد كرر مرارا لبعض المحيطين به الذين كانوا يحثّونه من أجل اللقاء برئيس منظمة التحرير الفلسطينية قوله: "إنني لا ألتقي بالإرهابيين. وهذا الرجل مارق". هذا فضلا عن أنه كان "صديق ميتران".
عفريت وقمقم لكن بعد توقيع اتفاقية أوسلو قال له مستشاروه: "إنك الوحيد الذي لم ير عرفات". وبتاريخ 21 أكتوبر 1993، أي بعد شهر من توقيع اتفاقية اوسلو قام ميتران باستقبال عرفات في باريس بـ "صفة رئيسية هي أنه ممثل الوحدة الجديدة المتمثلة في غزة وأريحا"،
أي ما يقارب صفة رئيس دولة. وانفتحت كل الأبواب أمام ياسر عرفات في باريس حيث حلّ ضيفا على الاليزيه ونزل في فندق "كريون" الذي ينزل فيه عادة رؤساء الدول، واستقبله آلان بالادور رئيس الوزراء في قصر ماتينيون وآلان جوبيه في وزارة الخارجية وفيليب سيغان رئيس في قصر لاساي، مقر الجمعية الوطنية الفرنسية، وأخيرا في بلدية باريس.
ويشير مؤلفا هذا الكتاب إلى أن جميع مساعدي رئيس بلدية باريس كانوا ينتظرون وينظرون عبر الزجاج وصوله "مثل أطفال يترقبون انبثاق عفريت من القمقم". وينقلان عن أحدهم قوله: "إنها لحظة تبقى ذكراها دائمة" تلك التي بدا فيها ياسر عرفات بكوفيته ولباسه الكاكي برفقة وفده. وكان أول ما قاله شيراك هو سؤاله: "أين فيصل الحسيني؟" الذي وصل متأخرا لأسباب تتعلق بخطأ في تنظيم الموكب كما قالت ليلى شهيد وحيث عبّر ياسر عرفات عن غضبه بدقات قدمه المتواترة على الأرض.
كان اللقاء باردا، ولم يول شيراك انتباها كبيرا لضيفه، إلى درجة أنه تساءل في آخر اللقاء قائلا: "هل سيستطيع التماسك حتى النهاية؟ أليس محتملا أن يتم التخلص منه من قبل أحد المتطرفين في معسكره؟". ويتساءل المؤلفان بدورهما إذا لم يكن شيراك يفضل أن يكون فيصل الحسيني مكان عرفات. أما ياسر عرفات فقد أظهر في نهاية اللقاء إعجابه بالديغولية،
بل وأبرز من أجل التقاط الصور التذكارية أنه "يحمل صليب اللورين" الذي يرمز للديغولية وأكّد على ذمّة المؤلفين، أنه "هدية" كان الجنرال قد قدمها له شخصيا، ووصفه بالقول: "كان أحد أفضل أصدقائي". وينقل المؤلفان عن شيراك قوله في أحد الاجتماعات: "الديغولية رائعة، إذ أن عرفات نفسه يحمل صليب اللورين"بعد عامين من لقاء بلدية باريس، كان شيراك قد أصبح رئيسا للجمهورية الفرنسية، وتبنّى عندها موقفا مغايرا تماما.
ويرى المؤلفان أنه على خلفية واقع عدم قدرته في التأثير على القادة الإسرائيليين أدرك مدى أهمية الروابط القديمة التي كانت تربط بين فرنسا والفلسطينيين. وفي قمة شرم الشيخ تحديدا بتاريخ 13 مارس 1996، قرر شيراك المراهنة على ياسر عرفات الذي أصبح "الحافز الرئيسي لدبلوماسيته في المنطقة". وكان عرفات قد قال لشيراك: "أنت الدكتور شيراك".
وحصيلة الموقف الجديد هي أنه: "ما بين عام 1995 وحتى وفاة عرفات عام 2004 استقبله شيراك 30 مرّة. وكانت اللقاءات حارّة دائما حول مأدبة غداء أو عشاء وفي أجواء تسودها إرادة تنسيق المواقف. ولم تكن محادثاتهما تقتصر حول إسرائيل أو فلسطين وإنما أيضا حول مصر والجزائر والعالم العربي-الإيراني.
وكان كل منهما يستمع إلى الآخر بإصغاء كبير". كما يكتب مؤلفا هذا الكتاب كي يشرحا بعد ذلك أن الرئيس الفرنسي لم يغير آراءه على قاعدة المصلحة فحسب، وإنما لكونه اكتشف في عرفات رجلا سياسيا دؤوبا ويعرف كيف يواجه المواقف الصعبة و"يمشي على الخيط المشدود"، وقائدا عمليا لا يتخلّى أبدا عن قناعاته كما يعرف كيف "يتأقلم مع اللون السائد في لحظة معينة".
ورجلاً يفضل العمل على التأمل وهو مأخوذ بالسلطة خالطا بين مصيره ومصير شعبه، وهو بهذه الصفات كلها بدا لشيراك "صورته الأخرى تقريبا، لو كان أكثر طولا بعدة سنتمترات وبلا لحية". وينقل المؤلفان عن ليلى شهيد قولها: "في البداية ينفر الجميع من عرفات، لكن عندما يتعلمون كيف يتعرفون عليه يبدؤون باحترامه".
ماذا دهاكم؟
في 22 أكتوبر 1996 كان شيراك يقوم بزيارة إلى إسرائيل، وقد رافقه رجال الشرطة الإسرائيليين في صبيحة ذلك اليوم إلى القدس القديمة. ومعروف عن شيراك أنه يحب الاختلاط بالجماهير ويقبل طفلاً أو يربت على كتف عجوز أو يصافح الجميع. وقد اختار يومذاك أن يجتاز أحياء المدينة التي احتلها الإسرائيليون عام 1976 ثم ضمّوها سيرا على الأقدام.
وكان حصار رجال الأمن الإسرائيليين ضاغطا جدا بحيث أحاطوا به من كل جانب ومنعوه من مصافحة أحد. أراد شيراك أن ينبههم أولا بلطف إلى حمايتهم المزعجة وقال: "ليست هناك مشكلة أمنية، لا تقلقوا على حياتي. فإذا مت فسوف أذهب مباشرة إلى السماء"، وأضاف موجها حديثه للصحفيين: "أنا آسف لشروط العمل هذه".
عند مرور الموكب لاحظت ليلى شهيد أن التجار العرب يغلقون أبواب متاجرهم حتى نصفها فسألت أحدهم: "- لماذا تغلقون؟"، فأجاب: "الجيش الإسرائيلي يرغمنا على ذلك"، فأردفت: "- سوف تطيعون أوامره؟". ثم ذهبت لتخبر كميل كابانا، رئيس معهد العربي آنذاك الذي كان يرافق شيراك، بالحديث فقال كابانا كلمة ما للرئيس "في أذنه".
عندها التفت شيراك ولاحظ متجرا مغلقا جزئيا فما كان منه إلا أن أطل على صاحبه برأسه وقال له: "صباح الخير". فوقف التاجر حالا وصرخ: "عاش شيراك". وردد وراءه عديدون مجاورون له، وتعالى التصفيق، وأطلق السكان الفلسطينيون من بعيد بالفرنسية "صباح الخير" و"أهلا وسهلا". وعلى الجميع أجاب شيراك "ميرسي".
وعندما أسيئت معاملة أحد حرّاسه الشخصيين انفجر غاضبا وقال: "ماذا دهاكم؟". ولم يتردد رئيس الدولة الفرنسي في أن يرفع قبضته باتجاه ضابط إسرائيلي كان قد دفع بقوة إعلامياً شاباً من إذاعة فرنسا الدولية، وردد باللغة الإنجليزية الجملة التي سمعها العالم كله عبر شاشات التلفزة وقال فيها: "هل تريدونني أن أرجع إلى طائرتي وأعود إلى فرنسا؟".
وقد بدا يومها أنه "شيراك العرب" فعلا.