«الحصان» الذي أعاد الصومال إلى ملفات السياسة الدولية قد يدفع الى «جهاد» أفريقي يكرر مأساة العراق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
نبيل الصوفي - الحياة
بشجاعة لا تختلف عنها في قرار جورج بوش غزو العراق في 20 آذار (مارس) عام 2003، قرر رئيس الوزراء الإثيوبي ملس زناوي حماية حلفائه الذين أوصلتهم جهود كينية متواصلة ليرأسوا دولة الصومال "افتراضياً". علماً أن كينيا وتليها اليمن، كانتا من أكثر الدول المحيطة اهتماماً بالصومال قبل أن تأتي "المحاكم"، الحصان الرابح الذي أعاد اهتمام العالم بالصومال، الدولة الأفريقية المنهكة من الصراعات والنسيان.
ولعل زناوي كان يرى أن ثمة عاملاً لا بد من الافادة منه وهو أن خصومه من المحاكم الشرعية هم من قبيلة حليفه علي جيدي رئيس الحكومة، ما يعني إمكان التخفيف من تأثير التحالفات القبلية في واقع المعركة. وهو ما كان حتى الآن على الأقل.
غير أن ما حدث لا يتيح لزناوي والمجتمع الدولي الذي سانده (سراً وعلانية)، وحلفائه داخل الصومال، أن يعلنوا أنهم "تنفسوا الصعداء" من "طامة" كان اسمها المحاكم. إذ أن الأخيرة لم تكن إلا إحدى نتائج "المعضلة" الصومالية، كما أنها لم تهدد الدولة الصومالية المنتظرة والمحكومة بمرجعية "أربعة ونصف" القبلية وحسب، بل هددت الصراع والمنتفعين منه، والقوانين التي يتوارثونها ليستمروا وزراء ورؤساء في نيروبي، وبـيـدوا، وفي الوقـت نفسه، هددت تجاراً وأمراء حروب في بقية أنحاء الصومال.
المشكلة الأصلية
ويتحدث حلفاء أثيوبيا في الصومال عن المحاكم وكأنها هي التي أنتجت الحرب الأهلية وقوضت أسس السلام، مستغلة الأخطاء التي ارتكبها تحالف المحاكم مستقطباً الخصوم في الداخل الصومالي والمحيط العربي والإسلامي قبل الأفريقي والدولي.
وارتكب تحالف المحاكم العديد من الأخطاء، ولعل أسوأها التزامه خطاباً "متزمتاً" في منطقة لا تستطيع التعايش مع مثل هذا الخطاب، وفي بلد لم تقم فيه دولة أصلاً ليتم - من ثم - الحديث عن توجهها الأيديولوجي.
غير أن أهم أخطاء التحالف وأخطرها عليه كان ديمومة التهديد بـ "المقاتلين" المسلمين "من كل مكان"، خصوصاً أن معلومات تؤكد، ومنذ نشأة التحالف، علاقة بعض قياداته وأجنحته بتنظيم "القاعدة"، وهي علاقة وصفت تخفيفاً أحياناً بأنها "نائمة".
لقد تحول اتحاد المحاكم الذي دعمه التجار وبعض القبائل، من تحالف يستهدف بسط الاستقرار والأمن (المشروع الأصلي للمحاكم الشرعية منذ تأسيسها) إلى إحدى جبهات المعركة الدولية ضد الإرهاب. ومع أن هذا التحول ساهم في مد المحاكم بأموال وأسلحة من محيط الصومال، فإنه ساعد الحكومة الصومالية وحليفها مليس زناوي على موضعة المحاكم في السياق المشار اليه.
واستقطب تحالف المحاكم وبنجاح منقطع النظير المخاوف من أن يكون هو وفروعه، وسيلة لفتح جرح جديد في جسد الصومال المثخن، ونقل الصومال من "دولة فاشلة"، إلى ميدان للصراع الدولي ضد الإرهاب ومن ثم مع تنظيم القاعدة أو كل من يتبنى توجهه الأيديولوجي، أو بين أقطاب المصالح المشتعلة في المنطقة (أميركا، إيران، السودان، أثيوبيا، اريتريا، فرنسا، إيطاليا).
ومع أن شهود عيان أكدوا لـ "الحياة" أن غلبة أفراد قبائل "الهوية" على تشكيلة المحاكم لم يكن عامل إثارة للقبلية في الشارع الصومالي، وأكدوا أنهم شاهدوا مسؤولين من المحاكم يعاقبون مواطنين ينتمون لقبائل غير قبيلتهم دونما حساسيات، فإن الأمر لم يتعلق بـ "تجاوز الصوماليين" العصبية القبلية بل كان في أهم تجلياته إشارة إلى اقتناع المواطنين بـ "نزاهة" المحاكم، مالياً وإدارياً، وهو أهم رأسمال في مواجهة خصوم على النقيض تماماً. لكن إهدار هذا الرأسمال من جانب قادة التحالف، عبر بالظهور بمظهر "المسلم" الذي يطبق "شكليات تاريخية" في الشوارع ودور السينما، أظهر انعدام جدية التحالف في التصدي لحاجات شعب يتوق الى الاستقرار. وهو ما يؤكد أن قادة التحالف لم يكونوا يمثلون "مشروعاً سياسياً" يمكنه استقطاب الاطمئنان المحلي والمحيط الإقليمي.
مرجعية أربعة ونصف
واستثار تحالف المحاكم المخاوف الكبرى المتعلقة بمصير مرجعية "أربعة ونصف" التي تشكلت وفقها دولة المصالحة الصومالية في آخر مؤتمرات المصالحة في منتجع "عرتا" الجيبوتي العام 2000.
وتقوم هذه المرجعية على اتفاق بين فرقاء الحرب الأهلية بأن الحل الصومالي - الذي يسبق أي انتخابات عامة، يحتكم لمعيار مفاده منح "الدارود"، "الهوية"، "رحنوين" و "الدر"، وهي القبائل الأربع الكبيرة، تمثيلاً متساوياً في كل مؤسسات الدولة الموقتة (البرلمان، والحكومة)، ومنح تحالف ما تبقى من قبائل توصف بـ "القبائل الصغيرة" نصف تمثيل القبيلة الواحدة. والقبيلة الأولى هي قبيلة آخر رؤساء الصومال سياد بري والرئيس الحالي عبدالله يوسف، فيما الثانية هي قبيلة المحاكم وأمراء الحرب ورئيس الحكومة الحالي علي جيدي.
وأظهرت الانتصارات الميدانية التي حققتها المحاكم، إضافة إلى خطابها الأيديولوجي، بعيدة عن مرجعية الأربعة ونصف. وهو ما كان سلاحاً مهماً ضدها، إذ أنها تصرفت - تحت تأثير الانتصارات - من دون اكتراث للمرجعية المشار اليها، الأمر الذي كان له اثر بالغ على مدى تمسك الصوماليين بالمحاكم، على رغم أنها وفرت لهم الأمن، باعتبار أنه أمن قد يفضي الى سيطرة قبيلة واحدة على مقديشو، خصوصاً مع إدراك الصوماليين أن انتماء غالبية المحاكم هو لقبيلة "الهوية".
وقد لا تكون هزائم المحاكم وانتصارات الحكومة والموالين لأثيوبيا الفصل الأخير في كتاب المأساة الصومالية، بل ربما تمثل الصفحة الأولى في ملف "الإرهاب الأفريقي".
بن لادن وتهاوي النموذج
لقد سبق ونوهت قيادات "تنظيم القاعدة" ومنها أسامة بن لادن، بنجاح المحاكم الإسلامية في الصومال. ولم يسمع من التنظيم حتى الآن رأي في ما حدث بعد ذلك. غير أن تفحصاً بسيطاً لمضامين الخطاب الجهادي في مصادره على الانترنت - سواء خطاب القاعدة أو خطاب الحركات الإسلامية السياسية - يكشف أن "دخول أثيوبيا المسيحية ديار الصومال المسلم" صار شائع الاستخدام في سياق مشابه لذلك الذي تلا إعلان الرئيس الأميركي جورج بوش انتهاء عملياته العسكرية في العراق بسقوط بغداد في 9 نيسان (أبريل) 2003.
وإضافة إلى بيان العلماء الـ 14 عن "اجتياح إثيوبيا لبلاد الصومال العربية المسلمة" فإن الخطاب الديني الذي تتقاطع غالبية مدارسه (سواء تنظيم القاعدة أو الإخوان المسلمين أو السلفيين أو الصوفيين) في شأن "مسلسل الهجمة العالمية على العالم الإسلامي بقيادة دول الصليب المتحالفة وعلى رأسها أميركا"، نشط في شكل ملحوظ. وما لم يتدارك المجتمع الدولي، وبمساعدة الدول المعنية والمهتمة بحماية القرن الأفريقي المطل على واحد من أنشط المنافذ الملاحية في العالم وأكثرها خطورة، فإن عوامل أخرى يمكنها أن تساعد على "قرن أفريقي يضج بالجهاديين" وليس فقط بالقاعدة.
ومن هذه العوامل، تصاعد المواجهات بين الدول وبين عناصر القاعدة والفكر العنفي في منطقتي الخليج والجزيرة العربية. فكلما ضاقت حلقات المواجهة للنشاط القاعدي وتمويلاته كانت الصومال "منطقة" مثالية حيث لا دولة ولا مشروع وطنياً.
والحيلولة دون ذلك تتطلب أكثر من مجرد قوات أفريقية تغطي على الوجود الأثيوبي وتمكنه من مواصلة السيطرة باسم حكومة عبدالله يوسف وعلي جيدي. إنه يتطلب دعم إقامة دولة صومالية تنتمي الى مصالح أبنائها وفقاً للمرجعية التي ارتضوها، لا التي تحقق مصلحة أي طرف أجنبي، سواء كان هذا الطرف أسامة بن لادن أو مليس زناوي.
وهذه الدول يجب ان تؤمن للجميع فرصة للحوار بغير السلاح، وبخاصة مع الفكر والأطراف التي أنتجت المحاكم، سواء كانت ما تبقى من تشكيلات الأخيرة - منعاً لجيوب إرهابية -، أو عبر الحوار العام مع مناصريها من التجار ورجال القبائل. وقبل ذلك كله منع "أمراء الحرب" من القيام بمهمة المذكر الجيد بالمحاكم. فلو عاد الأمراء لينشطوا خبرتهم السيئة في الصراع، فإن شيخ شريف شيخ احمد لن يحتاج سوى لإطلاق صافرة، أو لنقل إن صافرة ما، يمكنها أن تعيد تجميع "محاكم" قد تكون أقل أخطاء وأكثر قدرة على الإقصاء.