من هنا نبدأ معنى لبنان
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الدكتور فيليب سالم
"فهنا تأخذ الأرض صورة سماوية حيث يمتزج الحب اليسوعي مع الحكمة المحمدية".
الرئيس الايراني محمد خاتمي
13 ايار 2003
تبدأ هذه السنة الجديدة، واللبنانيون لا يزالون يحملون صليب الالم على طريق الجلجلة. وكلهم، مقيمين ومنتشرين، في حزن عميق، وخوف كبير على الوطن الصغير، والارض المصلوبة في الشرق. الارض المصلوبة بين اسرائيل وسوريا والبحر. وحده، هذا البحر في هذه الجغرافية، يعانقها بمحبة، ويخفف آلامها.
كانت القضية اللبنانية تتمحور على كون لبنان رهينة للصراع العربي - الاسرائيلي؛ وكان السؤال عن هوية لبنان السياسية. اما اليوم، فلقد اصبحت القضية اكبر واخطر، فبالاضافة الى كونه رهينة للصراع بين العرب واسرائيل، اصبح لبنان ايضا رهينة اخرى لصراع جديد، وهو الصراع بين الغرب وايران. والسؤال اليوم، ليس فقط عن هوية لبنان السياسية بل يتعداها الى هوية لبنان الحضارية. هذه هي المرة الاولى في تاريخ الازمات المتراكمة في لبنان، تهدد الازمة لبنان بالمفهوم الحضاري. ولبنان لم يكن وطنا بقدر ما كان رسالة؛ ولم يكن مجده يوما نابعا من كيانه السياسي. كان مجده دائما نابعا من كيانه الحضاري. من كونه مساحة للحضارة، من كونه "اكبر من وطن"، من كونه "رسالة للعالم". فالخطر اليوم يهدد جوهر لبنان وحقيقته. يهدد معناه الكياني الذي من دونه لا يكون لبنان.
في بداية هذه السنة، تعالوا نبدأ من هنا، من نقطة الصفر. تعالوا نحدد معنى لبنان وجوهره، علنا نجد حلولا للخروج من الظلمة التي نحن فيها.
ان معنى لبنان، في رأيي، يرتكز على المداميك الاربعة الآتية:
اولا: الانصهار المسيحي - الاسلامي. ان عظمة لبنان ورسالته تكمنان في تعانق المسيحية والاسلام فيه. هنا، في هذه البقعة الصغيرة من الارض يعيش التفاعل الحي المتراكم من مئات السنين بين المسيحيين والمسلمين. وحده، في لبنان تقوم حرب مدمرة لخمس عشرة سنة، يسميها العالم "حربا اهلية" بين المسيحيين والمسلمين، وفي الدقيقة التي يصمت فيها الرصاص، يعانق المسلم اخاه المسيحي ويعود التفاعل الخلاق كأن الحرب لم تكن. كان ذلك منذ فجر التاريخ وسيبقى، اذ عندما تنفسخ المسيحية عن الاسلام في لبنان، يزول سبب وجوده بل واجب وجوده. ان النموذج اللبناني من الانصهار المسيحي - الاسلامي، هو ارقى ما في الحضارة، اذ يعلو الانسان فوق الدين الى الانسانية. وهذا هو التحدي الكبير في القرن الحادي والعشرين، كيف يعلو الانسان فوق الدين والعرق والايديولوجية الى الانسانية. هذا النموذج اللبناني، هو اليوم في خطر شديد. فهو اولا عكس النموذج الاسرائيلي حيث قامت الدولة على اساس الدين. فاسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي انشئت لتكون لشعب واحد يعتنق دينا واحدا الا وهو اليهودية. واسرائيل تخاف ان يطلب منها العالم يوما ان تعيش في فلسطين موحدة، يكون فيها اليهود والفلسطينيون، مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات، تماما كما يعيش المسيحيون والمسلمون في لبنان. لذلك فهي تعمل على اجهاض النموذج اللبناني القابع شمال حدودها وتعمل ايضا على تفتيت هذا الشرق الى دويلات طائفية. واسرائيل، ليست وحدها في هذا الشرق ضد هذا النموذج اللبناني، فايران ايضا ترفض هذا النموذج، وعندما تكلم الرئيس الايراني السابق محمد خاتمي في بيروت عن لبنان الارض "حيث يمتزج الحب اليسوعي مع الحكمة المحمدية"، هل تجرأ احد وسأله اذا كان هناك احد غيره في القيادة الايرانية يرى العظمة في هذا المزيج؟ ان ايران دولة قوية ولها تاريخ حافل بالمجد والابداع. الا انها اليوم في قبضة الثورة الاسلامية، "وثوارها" لا يريدون فقط التفوق العسكري والتفوق النووي، وهذا حقهم؛ بل يريدون ايضا فرض ايديولوجية دينية متطرفة في هذا الشرق، وهذا ليس من حقهم. ان اسرائيل دولة عدوة، اما ايران فهي دولة صديقة، ويجب ان نبني معها افضل العلاقات، وافضل جسور المحبة؛ الا اننا يجب الا نسمح لها بتدمير اهم انجازات الحضارة اللبنانية الا وهو الانصهار المسيحي - الاسلامي. هذا الانصهار هو الجواب لمشكلة الغرب مع الاسلام، وهو الجواب لصدام الحضارات، وهو الجواب لظاهرة الارهاب.
وقد يكون من اهم الابحاث العلمية التي اجريت في السنين العشر الاخيرة، هو رسم خريطة دقيقة للجينات عند الانسان، وكانت نتيجة هذه الدراسة ان اثبتت ان البشر جميعهم متشابهون في 99,9 في المئة من جيناتهم ويختلفون فقط بنسبة 0,1 من الجينات. وهل يعقل اننا نختلف بتكويننا البيولوجي بنسبة اقل من واحد في المئة؟ ولماذا اذاً هذه الحروب وهذا العنف وهذا البغض الذي يلف العالم؟ من هنا اهمية الارتفاع من الطائفة الى الدين ومن الدين الى الانسانية. فقط عندما نرتفع الى الانسانية نستحق الله. فقط عندما نرتفع الى الانسانية، يكتمل الانصهار. ليس فقط بين المسيحية والاسلام بل بين جميع الديانات السماوية. وليتمكن الانسان من الارتفاع فوق الدين، يجب فصل الدين عن الدولة، واهم من ذلك، فصل الدين عن التربية. من اكثر من ستين سنة، جاء رجل في هذا الشرق، وقال بفصل الدين عن الدولة، فقتلوه.
ثانيا: الحرية. وهنا لا نذيع سرا اذا قلنا بان الصراع الدائر في الشرق، ليس صراعا فقط على ملكية الارض وعلى الثروة المائية والنفطية لهذه الارض، بل هو صراع ايضا على ماهية الانسان، وماهية الحضارة في هذا الشرق. فليست هناك حضارة دون حرية، وليس هناك ابداع دون انسان حر. والسؤال المحوري اليوم، هل سيبقى الانسان في هذا الشرق، اسيرا للايديولوجيات الفارغة، المجمدة، ومسحوقا "بجزمة" الانظمة التوتاليتارية؟ وهل ستتمكن الايديولوجيات الدينية المتطرفة الممتدة من افغانستان الى ايران الى بعض الدول العربية، من سحق آخر معاقل الحرية في هذه المنطقة من العالم. ونود ان نتقدم من جميع الذين يريدون الحرب مع الغرب، ونقول لهم: يجب الا نخلط بين الغرب، كدول وككيانات سياسية، والقيم التي يؤمن بها الغرب كالحرية والديموقراطية. هذه القيم هي بالفعل قيم انسانية تمت الى العالم كله وليس الى الغرب وحده. بل نقول اكثر من ذلك، ان هذه القيم كانت هنا في الشرق، قبل ان هاجرت الى الغرب.
ثالثا: الديموقراطية. وهنا نسارع الى القول بان النظام السياسي اللبناني يحتاج الى تغيير جذري في هيكليته، ويحتاج الى الكثير من فن ممارسة الديموقراطية. الا انه ربما يبقى النظام العربي الوحيد حيث يتم تناوب السلطة فيه من دون عنف؛ وحيث لا تمارس السلطة باليد الحديد للحاكم الواحد. فعلى مساحة العالم العربي، وفي معظم دوله، هناك الحاكم الواحد، وهناك الشعوب المسطحة والمهمشة سجينة الافكار البالية، والشعارات الزائفة، والثورات الكاذبة. وحدها، الديموقراطية هي الضمان ضمن تهميش الشعوب. والديموقراطية وحدها هي الضمان ليكون المواطن الفرد فاعلا في مجتمعه، مشاركا في صنع مستقبل وطنه. وهي الضمان ليكون الانسان صاحب كرامة في ارضه. ونود ان نذكر العالم ان اسرائيل ليست الدولة الديموقراطية الوحيدة في الشرق، فالديموقراطية كانت هنا، كانت في لبنان، قبل ان تكون اسرائيل.
رابعا: التعددية الحضارية. وعالمية لبنان. فبالاضافة الى التراث الحضاري الديني المتراكم بفعل وجود وتفاعل ثماني عشرة طائفة مختلفة في لبنان، هناك الثقافات الاخرى المتعددة، كالثقافة العربية والثقافة الفرنسية والثقافة الانغلوسكسونية. وتخال ان ثقافات العالم كلها تتعايش في هذا الوطن الصغير. لذلك قيل "اذا ذهبت الى بيروت، تذهب الى العالم كله". الا انه يجب ان نعترف بانه لم نتمكن من تثمير هذه التعددية الحضارية في صنع لبنان عظيم؛ وبدل ان تكون هذه التعددية مصدرا للوحدة والتقدم والغنى، فقد نجحنا في استعمالها اداة للتفرقة بيننا والتشرذم في صفوفنا. وبدل ان تكون قوة هائلة معنا حولناها قوة هائلة ضدنا.
وعالمية لبنان لا تنحصر في وجود العالم كله فيه، بل تكون ايضا في وجود لبنان في كل العالم. فلبنان موجود وفاعل وحاضر في جميع بقاع الارض بفضل ابنائه الذين حملوه واخذوه معهم اينما انتشروا في الارض. لذلك نقول ان لبنان وطن عربي في الهوية السياسية، لكنه وطن عالمي في الهوية الحضارية. هو من الشرق الا انه للعالم كله.
هذا المربع الحضاري، من الانصهار المسيحي - الاسلامي الى الحرية والديموقراطية والتعددية الحضارية وعالمية لبنان، هو معنى لبنان وجوهره. دونه لا يكون لبنان. من هنا خطر الازمة التي تقبض على لبنان اليوم، وتهدد بتدمير هذا المربع. الخروج من الازمة لا يكون الا بالعودة الى الجوهر، الى هذا المعنى الكياني للبنان. والطريق الى ذلك لا يكون بجعل لبنان ساحة لقوى اقليمية كايران وسوريا والسعودية ومصر ولا بجعله ساحة لقوى دولية كفرنسا واوروبا والولايات المتحدة. لقد رددنا مرارا ان الطريق الوحيدة المتاحة لقيامة لبنان لا تمر بالشرق ولا تمر بالغرب. انها طريق الشرعية الدولية - الامم المتحدة، ومجلس الامن وقراراته. لقد قلنا هذا الكلام من زمان، يوم كان الكثير ممن يمتطون اليوم الشرعية الدولية، يعملون ضدها.
في بداية هذه السنة، نتوجه الى السياسيين ونقول لهم: لقد انزلتم لبنان الى الحضيض، فارتفعوا؛ ونقول للبنانيين بل نطلب منهم، ما قد جاء في احدى مسرحيات الرحابنة، انه "بعد الله، تعبدوا لبنان".