سقوط إسبارطة الجديدة.. أميركا ودروس حرب العراق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الجمعة 12 يناير 2007
محمد السماك
ليس صحيحاً أن الولايات المتحدة لم تتعلم شيئاً من دروس الحرب التي شنّتها على العراق. الصحيح أن إسرائيل هي التي لم تتعلم شيئاً من دروس اجتياح الأراضي الفلسطينية المحتلة. والدليل على ذلك هو أن القوات الإسرائيلية تعيد ممارسة الأخطاء التي ارتكبتها قبل انسحابها من قطاع غزة وبعد عودتها لاحتلاله. ثم إن إسرائيل لو تعلمت من دروس سلسلة اعتداءاتها على لبنان لما شنّت عليه الحرب الأخيرة في الصيف الماضي. ذلك أن إسرائيل دولة تقوم على "العقيدة الإسبارطية". وهي عقيدة تعتمد القوة العسكرية أساساً ومبدأً وحيداً لتسوية خلافاتها ولحلّ نزاعاتها مع الآخرين. كانت الولايات المتحدة تعمل بموجب هذه العقيدة الإسبارطية في القرن التاسع عشر عندما شنّت أول حرب لها في التاريخ على ما يُعرف اليوم بدول المغرب العربي (المغرب - الجزائر - تونس - ليبيا) بحجة حماية الملاحة التجارية الأميركية في البحر المتوسط. ثم عندما احتلت أجزاء من جارتها المكسيك وضمّتها إليها بالقوة العسكرية. وعندما غزت دول البحر الكاريبي وجزر المحيط الهادي واستعمرت الفلبين. ولقد أخذت الإسبارطية الأميركية بُعدها الأوسع خلال الحرب العالمية الثانية، ثم الحرب الكورية، وبعد ذلك الحرب الفيتنامية. وكذلك من خلال سلسلة الحروب بالوكالة التي شنّتها ضد غريمها الاتحاد السوفييتي السابق في مناطق مختلفة من العالم. من هنا فإن غزو الولايات المتحدة لأفغانستان ثم للعراق لم يكن رد فعل على جريمة 11 سبتمبر 2001، ولكنه كان مظهراً من مظاهر هذه العقلية الإسبارطية. ولكن النتائج التي حققتها كانت كارثية بكل المقاييس، ليس على سمعتها الدولية فحسب، ولكن على مصالحها الوطنية أيضاً. ولعل أسوأ "إسبارطي" عرفته الولايات المتحدة هو الرئيس الحالي جورج بوش. فبعد أن وصل عدد ضحايا الاحتلال الأميركي للعراق إلى حوالى 700 ألف ضحية، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل يمكن محاكمة الرئيس الأميركي بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية؟ الجواب مع الأسف هو: لا. ليس لأنه بريء من هذه التهمة، ولكن لأنه يتمتع بحصانة رئيس دولة. في عام 1998 فشلت أسبانيا في إخضاع الرئيس التشيلي السابق الجنرال أوغيستو بينوشيه للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. ولم يكن الفشل الأسباني دليلاً على براءة بينوشيه ولكنه كان نتيجة للتعقيدات القانونية المتعلقة بحصانة رؤساء الدول حتى ولو أصبحوا "رؤساء سابقين". فالرئيس الوحيد الذي اعتقل وحوكم بهذه التهمة كان الرئيس اليوغسلافي السابق ميلوسوفيتش الذي مات في السجن قبل أن يصدر الحكم عليه. لا تحتاج محاكمة المتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية إلى محكمة دولية على غرار محكمة لاهاي (هولندا)، فهناك أكثر من مئة دولة أقرّت تشريعات تخولها نوعاً من أنواع المحاكمة الدولية لمجرمي الحرب، ومن هذه الدول بريطانيا نفسها، وبلجيكا وأسبانيا وفرنسا وألمانيا وكندا. وبموجب القوانين المعتمدة لدى هذه المحاكم الدولية، فإن من حقها محاكمة أي شخص من أي دولة وبصرف النظر عن جنسيته أو دينه أو عنصره إذا ما وجهت إليه تهمة ارتكاب جريمة ضد الإنسانية في أي مكان من العالم. وقد جرت محاولات قضائية لمحاكمة أرييل شارون رئيس الحكومة الإسرائيلي السابق للجرائم التي ارتكبها في مخيمي صبرا وشاتيلا في بيروت في عام 1982 أمام محكمة من هذا النوع في بلجيكا. كما جرت محاولة لمحاكمة وزير الخارجية الأميركية الأسبق الدكتور هنري كيسنجر، ولكن النفوذ الأميركي (والنفوذ الصهيوني) كان طاغياً فأوقفت المحاكمة بعد أن انطلقت وحققت خطوات كبيرة باتجاه الإدانة. ولذلك لن تكون إحالة رئيس أميركي إلى مثل هذه المحاكم بالأمر اليسير. ولكن رئيس المنظمة الدولية لحقوق الإنسان "ريتشارد ديكر" قرر باسم المنظمة إقامة دعوى على وزير الدفاع الأميركي السابق دونالد رامسفيلد بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية في سجن أبو غريب في العراق وفي معتقل غوانتانامو في القسم المحتل من كوبا. وقد انضمت إليه في الادعاء مجموعة من المنظمات الحقوقية والإنسانية الدولية. وبالفعل فقد تقدمت هذه المجموعة بالدعوى في 14 نوفمبر الماضي أمام محكمة في ألمانيا الاتحادية. وقبلت المحكمة الدعوى وبدأت إجراءاتها القانونية الأولية. ولكن: هل تسلم الولايات المتحدة وزير دفاعها السابق إلى المحكمة الألمانية الدولية؟ من المعروف أن الولايات المتحدة رفضت المصادقة على معاهدة روما بإنشاء محكمة الجنايات الدولية، وذلك بعد أن رفض المجتمع الدولي الطلب الأميركي باستثناء السياسيين والعسكريين الأميركيين من المثول أمامها. والاستثناء الذي طالبت به الولايات المتحدة يستند إلى ادعائها بأن الأعمال العسكرية التي تقوم بها في العالم إنما هي لمحاربة الاستبداد ونشر الحرية والديمقراطية (والأمثلة على ذلك تتراوح بين فيتنام والعراق). ولذلك فإنه من غير المتوقع أن يمثل رامسفيلد أمام المحكمة الألمانية طوعاً أو بطلب من حكومة بلاده. وإن كان من غير المتوقع أيضاً أن يحول ذلك دون المضي قدماً في المحاكمة غيابياً. فقد جمع الادعاء (منظمات حقوق الإنسان) معلومات رسمية موثقة من داخل الأمم المتحدة ومن بعض الدول الغربية، وحتى من الولايات المتحدة نفسها، تثبت أن الحرب على العراق لم تكن مبررة، وأن كل الأسباب التي أُعلنت لتبريرها كانت كاذبة ومصطنعة. كما أن هذه المعلومات الموثقة تؤكد أن عمليات انتهاك حقوق الإنسان في غوانتانامو وأبو غريب جرت بمعرفة البنتاغون (وزارة الدفاع الأميركية) وبتعليمات منها، الأمر الذي يحمِّل الرئيس الأميركي ووزير دفاعه السابق رامسفيلد المسؤولية الجنائية. على أنه من المبالغة في تبسيط الأمور اعتبار كل الأميركيين إسبارطيين. لقد قام فريق من العقلاء حتى من داخل المؤسسة العسكرية بوضع دليل جديد للقوات الأميركية المسلحة يمكن أن يشكل اعتماده انقلاباً أساسياً في العقيدة الأميركية العسكرتارية. والدليل الذي يقع في 282 صفحة يستلهم الحكمة لا القوة. وهو يستنير بالكتاب الشهير "أعمدة الحكمة السبعة" الذي وضعه لورنس في عام 1922 عن تجربته في البلاد العربية عندما كان يعمل جاسوساً لمصلحة المخابرات البريطانية. ويستبدل الدليل الجديد المصافحة اليدوية بالقنبلة اليدوية. كما يستبدل بناء الدولة بتدميرها. ويقترح الدليل أسلوباً للتعامل مع "الإرهابيين" يقوم على أساس العمل الاجتماعي وليس الإلغائي أو الإبادي؛ ويقول إن أفضل سلاح هو اللاسلاح. وإن الهدف يجب ألا يكون قتل الإرهابيين، بل العمل على الحصول على أكبر تعاطف ممكن من السكان المحليين. ويحث الدليل العسكري على أهمية إعادة تأهيل القوات الأميركية لأداء مهامها على هذا الأساس. فبدلاً من أن تعزل هذه القوات نفسها في معسكرات وخنادق وداخل المصفحات والمجنزرات، عليها أن تعيش جنباً إلى جنب مع الناس في مدنهم وقراهم. ولذلك يوصي الدليل بأن يكون لكل فرقة عسكرية أميركية مرشد ثقافي ومرشد سياسي، وليس مجرد قائد يوجه إليها الأوامر بإطلاق النار! ويعتمد الدليل في ذلك على تزويد القيادات العسكرية بالمعلومات الاستخباراتية التي تمكّنها من التعامل مع السكان من دون اللجوء إلى القوة المسلحة. ومع التغيير في أسلوب عمل القوات العسكرية يرى الدليل أنه لابد من تجييش ما بين 25 إلى 30 عنصراً عسكرياً مقابل كل ألف مدني لضبط الأوضاع الأمنية. غير أنه لا يوجد في العراق الآن سوى 483 ألف عسكري أميركي وبريطاني ومن جنسيات الدول المتحالفة الأخرى. وإذا اعتمد الرئيس بوش هذا المبدأ فإن عليه زيادة عدد القوات إلى ما بين 535 و670 ألف عنصر، ولكن هل إنه قادر أو مؤهل لإعادة النظر في أسلوب عملها؟ وهل إن المجتمع العراقي الذي عانى لسنوات ثلاث من وحشية الاحتلال وانتهاكاته لحرمة المنازل والمساجد والقرى والمدن قادر أو مؤهل لتقبّل أي تغيير في أسلوب عمل القوات الأميركية المحتلة؟ ما كان للخبراء في الولايات المتحدة أن يضعوا هذا الدليل الجديد بما يشكله من انقلاب جذري في كيفية التعامل مع الدول والشعوب التي تستهدف بالعدوان لو لم تمنَ الولايات المتحدة في العراق بفشل ذريع سياسياً وعسكرياً معاً. لقد تجاوز عدد الضحايا من العراقيين السبعمائة ألف مدني منذ الغزو الأميركي. وتجاوز عدد القتلى من العسكريين الأميركيين عدد ضحايا جريمة نيويورك 2001، ووصل حتى كتابة هذه السطور إلى ثلاثة آلاف عسكري. كان بإمكان الولايات المتحدة أن توفر على نفسها وعلى العراق كل هذه الضحايا. وكان بإمكانها تحقيق نتائج إيجابية للعراق وللمنطقة كلها لو أنها لم تتوسل العقلية الإسبارطية في معالجة الأزمة مع الرئيس العراقي السابق صدام حسين ونظامه الاستبدادي. الآن، إذا كان من المتعذر كبح جماح التمدد الأميركي في العالم من خلال القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة، فإن اعتماد الولايات المتحدة على قوة المعلومات الاستخباراتية يبقى أقل سوءاً من اعتمادها على قوة الآلة العسكرية. وبالنتيجة كلاهما سيئ.