وزير سعودي سابق يكتب عن صدام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
أحمد زكي يماني*
أسدل الستار علي الفصل الأخير من المسرحية بمنظر مفزع مقزز ومؤلم ، هو إعدام الرئيس الراحل صدام حسين في يوم عيد الأضحي ، الذي تذبح فيه ملايين الخرفان في الأوطان الإسلامية تأسيا بتضحية إبراهيم عليه السلام عندما أمر أن يذبح ابنه ثم فدي الابن "بذبح عظيم" وكأن الحكومة العراقية أرادت منافسة ملايين المسلمين فقامت بعمل مشين ، رغم أن القانون الجزائي العراقي يمنع تنفيذ أحكام الإعدام أيام الأعياد والعطلات الرسمية.
مهما قالوا عن صدام حسين فقد أثبت رجولة وقوة أثناء إعدامه ، رغم محاولة من جاءوا إلي مسرح العملية المقززة ليستثيروه ، فأثبتوا بذلك أن العملية كانت انتقاما وأنه سلم إلي أعدائه وليس لجهة محايدة ، فانقلب السحر علي الساحر ، وجلب علي قاتليه الاستهجان ، وجعل من صدام حسين شهيدا وبطلا ، وعمق مع الأسف العداء بين السنة والشيعة في العراق ، وخلق شرخا بين الطائفتين في الوطن الإسلامي يستخدمه أعداء الإسلام والمتزمتون من المنتسبين للإسلام ، لقد تصرف من جاءوا لإعدامه وكأنهم بشر من أكلة لحوم البشر.
بدأ الفصل الأخير من المسرحية حين قبضت علي الرئيس قوات الاحتلال الأمريكية وأعلنت مباشرة - عقب القبض عليه - أنه "أسير حرب" وهنا - ظننت خطأ - أن أمريكا حين منحته ذلك اللقب قد انقذت رقبته من حبل المشنقة ، لأن اتفاقية جنيف توجب محاكمة أسري الحرب بمحكمة عسكرية أمريكية لا تستطيع الحكم بالإعدام ،
وأكد هذا الظن عندي أن حسن السمعة الوزير رامسفيلد قد احتج علي صور جنود أمريكيين أخذوا أسري من العراقيين في الأيام الأولي من الغزو ، لأن نشر تلك الصور يخالف اتفاقية جنيف في معاملة أسري الحرب ، ولكن أمريكا تحفظت علي تلك الاتفاقية وهي التي احتفظت بأسير الحرب صدام حسين ، حتي قبيل إعدامه وتسليمه إلي الحكومة "الشرعية" العراقية ، التي انتخبها برلمان تم انتخابه ، في "حرية مطلقة" تحت أسنة الحراب والبنادق الأمريكية، وتم في ظل السيادة العراقية الكاملة تشريع محكمة جنائية خاصة ، فصلت أحكامها - تماما- علي مقاس المتهم أسير الحرب صدام حسين.
والذين شاهدوا فصول المحاكمة تذكروا ولا شك محاكمات المهداوي الشهيرة في عهد عبد الكريم قاسم.
ويجب أن نذكر دائما أنه لا يطعن في سيادة العراق وشرعية حكومته أن الشرطة العراقية أو أفراد الجيش العراقي لا يستطيع أحدهم التحرك بضعة أمتار من مراكزهم دون إذن القائد العسكري الأمريكي ، وذلك ما يقوله رئيس الحكومة العراقية "الشرعية".
لا أكتب ما أكتبه هنا دفاعا عن أسير الحرب صدام حسين فالتاريخ سيحكم له أو عليه كما حكم علي الحجاج بن يوسف.
كان كلاهما جبارا عرف كيف يحكم العراقيون ، علي اختلاف مشاربهم وطوائفهم ، كما كان كلاهما مهتما بالقرآن الكريم حفظا وعناية ، والمعروف عن صدام حسين أنه كان يحمل المصحف الشريف لا يفارق جيبه الداخلي، وقد أخبرني معالي الأخ الدكتور عبدالعزيز الخويطر وزير المعارف السعودي السابق عندما كان وزيرا مرافقا للرئيس صدام وهما بالطائرة من الرياض إلي جدة - كان الحديث يدور عن بعض آيات الكتاب الكريم وفي الحديث عن آية معينة قال له الرئيس إنها في سورة كذا وأخرج المصحف من جيبه وأراه نص الآية في السورة التي ذكرها.
لقد سنحت لي فرصة التعرف علي شخصية صدام حسين حين اختارتني حكومة الملك خالد رحمه الله للوساطة بين العراق وسوريا أو بالأحري بين صدام حسين وحافظ الأسد ، وذلك في سنة ١٩٧٥ عندما حجبت سوريا مياه الفرات عن العراق فجف مجري نهر الفرات بالعراق ، فتحركت جيوشه نحو الحدود السورية كما تحرك الجيش السوري لمواجهته.
وكنت أطير - يوميا - من الرياض إلي بغداد ثم منها إلي دمشق، ولست هنا في مجال الحديث عن تلك الوساطة ولكنني في مجال القول إن الحاكم الفعلي - آنذاك - هو نائب الرئيس صدام حسين ولم يكن الرئيس أحمد حسن البكر في الصورة مطلقا ولم أقابله خلال أسابيع خمسة إلا مرة واحدة ، كان صدام حسين هو صاحب القول الفصل والحاكم المطلق القوي العنيد، عكس غريمه الرئيس حافظ الأسد ، الذي يخفي صلابته خلف ابتسامته وقبضته الحديدية في قفاز من حرير.
الكثير من المراقبين المحايدين سيقولون إن الفصل الأخير من المسرحية كتبته وأخرجته الأيدي الأمريكية كما عهدت لممثلين عراقيين بالوقوف علي المسرح وإذا لم يحسن أحد من القضاة أداء دوره عزلته وإذا تجاوز أحد محامي المتهم حدوده قتلته ربما بشكل مباشر أو غير مباشر ولقد قيل إن التسرع في إعدام الرئيس "أسير الحرب" ولو في يوم عيد الأضحي كان رغبة أمريكية يستفيد منها الرئيس جورج بوش حتي لا تنتهي السنة الميلادية قبل أن يقوم بتقديم إنجاز يبرر غلطته التاريخية بغزو العراق ولكن سفارة أمريكا في العراق
وهي "الحاكمة المطلقة" في ذلك البلد المنكوب سارعت فنفت ذلك وأردفت أنها حاولت مع رئيس الوزراء العراقي المالكي أن يرجيء التنفيذ فرفض وأصر علي التنفيذ يوم عيد الاضحي المبارك رغم مخالفة ذلك للقانون ، وهناك من يجد صعوبة في تصديق قصة رفض رئيس الوزراء المذكور لرغبة تصدر من السفير الأمريكي.
عندما يكتب المؤرخون المحايدون عن حياة الرئيس الراحل صدام حسين سيجدون ولا شك الأدوار الأمريكية من البداية وهناك من يعتقد أن الدور الأمريكي بدأ قبل وصول الرئيس صدام إلي السلطة ويوردون قصة وردت في كتاب ينسب إلي الأستاذ خالد ابن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر حوي ذكرياته ومذكراته ويقال إن الكتاب المذكور اختفي من السوق بعد نشره مباشرة ولم تبق منه سوي نسخ قليلة في أيدي قليلة منها يد استاذ عراقي في إحدي الجامعات السعودية اسمه الأول رشيد ، وقد صور الجزء المتعلق بالقصة المذكورة وأرسله إلي الدكتور فاضل شلبي المدير التنفيذي لمركز دراسات الطاقة في لندن ،
ويقول ذلك الجزء المصور إن خالد ابن الرئيس عبدالناصر جاء لمكتب أبيه يزوره فأخبره مدير المكتب أن الرئيس منع دخول أحد عليه حتي تنتهي مقابلته مع شخصين كانا عنده فانتظر الابن في المكتب وعندما خرج الشخصان وكان أحدهما أبيض البشرة طويلا والثاني أسمر البشرة ، دخل خالد عبدالناصر علي أبيه وسأله عنهما فأجابه أن أبيض البشرة هو رئيس جهاز المخابرات الأمريكية واسمه جورج بوش "صار رئيسا فيما بعد" وأن الأسمر هو لاجئ عراقي متهم بمحاولة اغتيال الرئيس عبدالكريم قاسم واسمه صدام حسين ، ثم أردف الرئيس عبدالناصر قائلا: وسوف يكون لهذا اللاجئ شأن في بلده.
والكتابة عن الأدوار الأمريكية في حياة الرئيس الراحل صدام حسين أمر يطول شرحه ، وليس هذا مكانه ، ومن الذين أوردوا الكثير عنها المستر بريماكوف السياسي الروسي المشهور في مذكراته التي تطرق فيها إلي علاقة صدام بجهاز المخابرات الأمريكية (CIA) ويتراوح الدور الأمريكي من عون ومساعدة إلي عداء سافر أو تآمر عليه ومن أدوار العون والمساعدة ما رواه لنا أحد العراقيين الذين كانوا يحتلون مركزا مرموقا في أحد أجهزة الاستخبارات العراقية واضطر إلي الهرب لبريطانيا ، خوفا من عدي ابن الرئيس صدام حسين ،
وكان يشارك في ندوة فكرية عقدها مركز دراسات الطاقة بلندن وموضوعها العراق وقال لنا إن حفلا عسكريا كان سيحضره الرئيس صدام تآمر بعض الضباط الذين أوكل إليهم التحضير للحفل فوضعوا متفجرات تحت المنصة التي أعدت للرئيس ورفاقه وقبيل الحفل أخبرتنا وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA) عن تلك المؤامرة فأسرعت لقصر الرئيس صدام فوجدته يتهيأ لركوب سيارته إلي الحفل
ولما أخبرته عاد أدراجه إلي القصر وأمر بفحص المنصة حيث وجدنا المفرقعات فأمر باحضار جميع الضباط دون استثناء فحضروا إلي ساحة القصر وهناك أعدموا جميعا رميا بالرصاص من كان منهم بريئا أو متآمرا والقصة كما رويت لنا تنبئ- إذا صحت - عن دور معين سواء كانت الوكالة (CIA) قد تآمرت مع بعض الضباط ثم خذلتهم ليكون لها عند الرئيس رصيد من الصداقة أو أنها علمت بالمؤامرة وسارعت لكشفها والنتيجة هي أنها حمت الرئيس من موت محقق. أعرف كثيرا ممن يؤكدون الدور الأمريكي في إقناع الرئيس الراحل صدام حسين بشن حربه علي إيران ،
وهناك من يؤكدون الخطوات الأمريكية التي أدت لتشجيع الرئيس صدام حسين علي غزو الكويت واحتلالها وأن رد فعل الرئيس جورج بوش عندما أيقظوه من نومه وأخبروه بأن جيوش صدام دخلت الكويت قال - كما أخبرت زوجته - "لقد وقع في الفخ".
لقد بدأت مرحلة الوجود الأمريكي العسكري في الخليج منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي ولست هنا بصدد الدخول في تفصيلات المواقف العدائية الأمريكية ضد صدام حسين وحصار العراق وإحكام وتضييق الخناق علي ذلك البلد وأهله لكن إعدام صدام في هذا الوقت بالذات حرك كوامن هذه الذكريات.
لقد كان إعدام الرئيس صدام حسين مناسبة لابتهاج البعض واستهجان البعض، وتألم كثيرون، وما كتبت القليل مما أعرف إلا ليكون عبرة لكثيرين من العرب حتي يدركوا أن المصالح مع أمريكا ليست أبدية ولا هي ثابتة لا تتغير.
* وزير البترول السعودي الأسبق