استراتيجية بوش الجديدة: رسالة صارمة الى طهران ودمشق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
راغدة درغام
ظاهرياً، بدا الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش أثناء كشفه عن استراتيجيته الجديدة نحو العراق وكأنه يراهن لانقاذ رئاسته وحزبه والعظمة الأميركية على رئيس وزراء العراق نوري المالكي ويصعّد عسكرياً بمجرد 21 ألف جندي اضافي فيما المهمة تتطلب أضعاف هذا العدد. بدا وكأن استراتيجيته تقوم على تعميق التورط الأميركي في مستنقع العراق من دون خطة "باء" للانسحاب إذا اقتضت الظروف. واقعياً، ولدى التدقيق في كلامه، يبدو بوش عازماً على ابلاغ المالكي بأن عليه الانسلاخ عن ايران وعن الميليشيات العراقية المتطرفة التي له علاقة حميمة معها مثل ميليشيات الزعيم الشيعي الشاب مقتدى الصدر، اذا أراد بقاء القوات الأميركية لمساعدته والعراق.
أما إذا تلكأ أو قرر أن عنوان خلاص العراق اكثر أماناً في طهران مما هو في واشنطن، فإن أمام الولايات المتحدة خيار إعادة الانتشار الى متن حاملات الطائرات في المياه الاقليمية. فإشارة الرئيس الأميركي الى وجود وتعزيز هذه الناقلات تنطوي على رسالة الى كل من بغداد وطهران بأن الولايات المتحدة الأميركية ليست من دون خيارات. وتعمد بوش رفض اقتراح لجنة بيكر - هاملتون اجراء حوار ديبلوماسي مع ايران وسورية له مؤشر واضح على أنه ليس في وارد ابرام الصفقات مع الذين ساهموا في تحويل العراق جحيماً له وللقوات الأميركية. فهو تعهد بـ "تعطيل" الامدادات الآتية عبر ايران وسورية الى العراق لاستخدامها ضد القوات الأميركية مهدداً باجراءات مباشرة. وهو توعد شبكة "القاعدة" وامثالها بأنه ليس في صدد التقهقر من العراق ليترك لها فيه الانتصار على أشلاء الهيبة الأميركية. وهو أقسم بأنه لن يترك المنطقة العربية بين أنياب الارهاب لتلعن الساعة التي أتت بجورج دبليو بوش حاملاً راية تكليف الهي له بإسقاط الاستبداد والطغاة وبعث الحرية. والسؤال الملح هو ما إذا كان عناد واصرار الرئيس الأميركي على "الانتصار" ممكناً بمجرد زيادة ضئيلة في القوات حتى وإن كانت بنوعية مميزة وقدرات متفوقة، أو إذا كانت لدى الإدارة الأميركية خطة "باء" سرية قوامها المفاجأة الضرورية في المعركة الحاسمة من حرب العراق.
الديموقراطيون الذين لهم الأكثرية في الكونغرس لا يريدون ذلك الانتصار الذي يتحدث عنه الرئيس الجمهوري والذي هو "انتصار غير ذلك المعهود عند أبائنا وجدودنا" حسب قوله. يريد الديموقراطيون انتاج واخراج "الانتصار" ليضمن الانسحاب بالتدريج اللطيف من العراق. ولذلك يعارضون زيادة القوات لأن تعزيز القوات يقوّض فرص الانسحاب الملطّف عبر رسائل مبطنة وشبه صفقات مع بعض اللاعبين مثل سورية وايران.
ما يقوله الديموقراطيون، باختصار كما عبر السناتور ديك دوربان عنهم في أعقاب خطاب بوش ليل الاربعاء، هو الآتي: ان "اميركا دفعت ثمناً غالياً" و "قدمت للعراقيين الكثير" اذ "خلصتهم من ديكتاتور طاغية" وساعدتهم في "وضع دستور" وفي اجراء "انتخابات" و "حمت العراق". والآن، وبعد مضي 4 سنوات "على العراقيين ان ينهضوا" وعلى الحكومة العراقية "تفكيك وتسريح الميليشيات"، والبدء بتحمل المسؤوليات.
ما قاله دوربان ايضاً هو أنه حان وقف نمط الاستنجاد، فليس كل مرة تطلب فيها الحكومة العراقية رقم الهاتف "911" - أي رقم الاستنجاد - ستحصل على 20 ألف جندي أميركي.
قال ان ما يحدث هو حرب أهلية وطائفية في العراق ملمحاً انها ليست نتيجة الغزو الأميركي والاحتلال الأميركي وانما هي "حرب طائفية لها جذور في القرن السادس" وليست من صنع اليوم. وزاد ان 20 ألف جندي اضافي "ليس عدداً كافياً لإنهاء حرب أهلية وطائفية".
هذا الكلام مهم ليس بسبب ما يعكسه من مزايدات سياسية وخلاف أساسي مع الرئيس الجمهوري وانما ايضاً بسبب ما ينطوي عليه من اختلاف جذري نحو العراق ونحو المهمة الأميركية في العراق والمنطقة.
الديموقراطيون اليوم انعزاليون فيما الجمهوريون هم تقليدياً أرباب الانعزالية. فلقد دعم عدد كبير منهم في مجلس الشيوخ قرار حرب العراق ومن ضمنهم المرشح السابق للرئاسة السناتور جون كيري والمرشحة المحتملة السناتور هيلاري كلينتون. وهم اليوم يريدون التملص من الحرب الفاشلة ويريدون جمع الأمتعة لإنجاز انسحاب مشرّف من العراق.
بوش يقول لهم وللبلاد انه ليس هناك انسحاب مشرف من العراق. يقول لهم ان الانسحاب بحد ذاته ليس مشرفاً للولايات المتحدة الأميركية. يقول لهم ان الانسحاب يعني الهزيمة لأميركا والانتصار للارهاب. وهو محق في ذلك. لكن البعض يرد عليه فوراً: هذا من صنعك والبلاد لا تثق بك بعد الآن.
اعترافه بارتكاب أخطاء في حرب العراق وتحمله شخصياً مسؤولية الأخطاء كما فعل في خطابه، لن يساعد جورج دبليو بوش لدى المعارضين للحرب ولدى معارضيه السياسيين. فسمعته السياسية مرتبطة بجر الولايات المتحدة الى حرب بذرائع وحجج تضليلية. وسمعته الشخصية تشوبها صفات عناده وإيمانه بإنه مكلف بقدرة الهية للقيام بنشر الحرية والديموقراطية. وهناك شطر كبير من الأميركيين، جمهوريين وديموقراطيين ومستقلين، يؤمن بأن زمرة المحافظين الجدد اختطفت وارتهنت الرئيس الأميركي وورطت الولايات المتحدة في حرب العراق لغاياتها السياسية والمالية.
حتى الذين يوافقون جورج دبليو بوش الرأي بضرورة التصدي للارهاب سيما في أعقاب 11 أيلول (سبتمبر) عام 2001 يكنون له بالغ البغض ومنتهى الغضب لأنهم آمنوا بأن حرب افغانستان، لو استكملت، لكانت أسفرت عن إلحاق الهزيمة بشبكة "القاعدة". أما وأن زمرة المحافظين الجدد اقنعت جورج دبليو بوش بغزو العراق وتحويله الى ساحة حرب ضد الارهاب، فإن هذا خطأ لا يغتفر عند الأكثرية الساحقة من الاميركيين الغاضبين من حرب العراق.
أخطاء حرب العراق فادحة من دون شك ابتداء من فكرة استدعاء الارهاب الى ساحة العراق لتطويق الارهابيين، مروراً باختراع ذرائع زئبقية وتضليلية انطوت على خداع الأميركيين والعالم، ووقوفاً عند فشل ذريع للدولة العظمى الوحيدة في حرب العراق. ولكن، هذا لا يعني أن الحرب في العراق انتهت الى هزيمة اميركية في حرب الارهاب. لا يعني أن حرب العراق انتهت حتماً وحسماً الى تفكيك أو تشرذم أو تقسيم العراق. فهيئة المحلفين لم تعد بحكمها بعد على رغم كل المؤشرات على نوعية الحكم.
فالرئيس الأميركي تعهد الحرص على "سلامة وحدة أراضي" العراق في خطابه، وهذا مطمئن قليلاً في هذا المنعطف، وإن لم يكن كافياً. انما الأهم هو أن لا منتصر ولا مهزوم بعد في حرب العراق. صحيح أن اللمحة الخاطفة اليوم تفيد بأن الولايات المتحدة انهزمت في العراق لأنها لم تنتصر وهي الدولة العظمى. انما الصحيح ايضاً هو أن القوى الأخرى لم تنتصر في العراق بصورة حاسمة - لا قوى أمثال "القاعدة"، ولا القوى الموالية لحكم الطاغية السابق صدام حسين، ولا الميليشيات الصغرى أو الكبرى مثل ميليشيات مقتدى الصدر، ولا حتى ايران في نهاية المطاف.
ايران استفادت من حرب العراق وهي مستفيدة من بقاء القوات الأميركية في العراق، ولكنها ليست منتصرة ضد الولايات المتحدة ولا هي في أمان إذا انسحبت القوات الأميركية من العراق. حتى تقرير بيكر - هاملتون تحدث عن هذه الناحية، إذ جاء فيه أن سحب القوات الأميركية من العراق يهدد بتعريض ايران الى مخاطر اندلاع النزاعات الطائفية والعرقية داخلها. هذا الى جانب عنصر آخر فائق الأهمية، وهو أن انسحاب القوات الأميركية يترك ايران لترث استثماراتها البائسة في العراق ولتحارب هي في جيرتها المباشرة أمثال "القاعدة".
بكلام آخر، ان أحد أهم الأسلحة الأميركية ضد ايران هو سلاح الانسحاب الفوري من العراق. وهذا جزء من الرسالة الأساسية التي تم ابلاغها الى طهران عبر اعطاء صديقها نوري المالكي الفرصة الأخيرة والمحددة بمهمات واضحة ومفصلة وببرنامج زمني مبطّن.
السلاح الآخر الفائق الأهمية هو سلاح الناقلات البحرية الحربية ليست فقط لتقوم بقطع الامدادات وانما لتقوم ايضاً بإغلاق مضيق هرمز اذا برزت الحاجة وتطوّرت الأمور الى إعلان حرب مع ايران. فالولايات المتحدة متفوقة في هذا المجال. وايران تفهم لغة التفوق، عندما تضطر الى ذلك.
استراتيجية الادارة الأميركية الجديدة بعثت هذه الرسالة بصرامة الى طهران وكذلك الى دمشق. والرسالة واضحة بأن لا مكافأة على الابتزاز، ولا مسامحة عما مضى، ولا حوار للارضاء والاسترضاء، ولا مجال للمقايضات. فجورج دبليو بوش استبدل اقتراح ترغيب ايران وسورية بالتعاون مع الولايات المتحدة من أجل انسحاب مشرف من العراق بتحميلهما علناً مسؤولية دعم الميليشيات التي تقتل الأميركيين في العراق. هذا رفض للانحناء أمام مقتضيات الظروف في العراق وهو مؤشر بالغ الأهمية على السياسة الأميركية نحو الملفات الأخرى ذات العلاقة بسورية وايران في المنطقة، ابتداء من العراق وتوقفاً عند فلسطين ولبنان.
السياسة الأميركية، كما يراها بوش، تقوم على ضرورة ان تنجح الولايات المتحدة في العراق لأن الفشل في العراق يشكل كارثة للولايات المتحدة وانتصاراً للارهابيين وللاسلاميين وللفوضى.
ما لمح اليه بوش عندما أشار الى دول المنطقة هو مركزية أدوار كل من السعودية ومصر والأردن والخليج في دعم حكومة الوحدة العراقية وفي منع تحول المنطقة الى ملجأ للتطرف والارهاب. تحدث عن "الصراع الايديولوجي" وأوضح ان على دول وشعوب المنطقة أن تقرر ما تريد وتعمل هي من أجله. اعترف بالأخطاء التي ارتكبها ممهداً لصفحة جديدة في أعقاب الدروس من الأخطاء.
قال ان هناك استراتيجية عسكرية وسياسية واقتصادية جديدة ترتكز الى نقل المسؤولية الى الحكومة العراقية انما بدعمها بتكتيك جديد وبزخم القوات الاضافية. تحدث عن شقين من هذه الاستراتيجية: احدهما في بغداد حيث العبء على الحكومة للتصدي للميليشيات الشيعية والآخر في الأنبار حيث العبء على القيادات السنية للتصدي لـ "القاعدة" وأمثالها، وكلاهما بمساهمة جذرية من القوات الأميركية. حدد الأهداف ولمح الى برامج زمنية وانذر الحكومة العراقية.
الاكتفاء بمجرد زيادة 21 الفاً في القوات يعني اما ان الرئيس الأميركي يرتكب خطأ فادحاً يضاف الى سلسلة الأخطاء في العراق، سواء ارتكبت سهواً أو عمداً، أو ان الادارة الأميركية تعتزم التصعيد العسكري كغطاء للانسحاب. وهذا أمر تقليدي في فن الحروب. أو أن لدى جورج دبليو بوش خطة خفية سرية يتم الحشد والاستعداد لها فيما العالم ينشغل بتحليل تلك الاستراتيجية البالغة العلنية التي كشف عنها الرئيس الأميركي في خطاب المغامرة برئاسته وسيرته التاريخية.
مغامرة بوش تكمن في رهانه على سلخ المالكي عن ايران وهي تشابه رهان بعض الأميركيين، وبينهم جيمس بيكر، على سلخ دمشق عن طهران بترغيبها بصفقة مع اسرائيل لاسترجاع الجولان. هذه قراءات بعضها خاطئ تماماً وبعضها مفرط اما في التفاؤل أو في جهل تحالفات المنطقة العربية.
هذا لا ينفي أبداً المسؤولية العراقية اذ مضى 4 سنوات على حرب إسقاط صدام حسين، كما تراها الحكومة العراقية، والولايات المتحدة محقة في رفضها الاعتذار للحكومة العراقية التي أتت الى السلطة بفضل الغزو الأميركي. ولا ينفي ان الحرب الطائفية حرب عراقية بغض النظر ان كانت أية قوى خارجية وراءها لتدعمها. لا ينفي ان العراق، مكسوراً ومكسّراً، لن يُجبّر سوى بقرار عراقي شعبي وحكومي.
فليس صحيحاً ان العراق مسؤولية اميركية بحتة، ولا الولايات المتحدة هي المخطئ الوحيد في العراق. الصحيح أن استدراك الأخطاء بدأ، وأن مرحلة محاسبة النفس والغير انفتحت، وأن الخيارات ليست مقيّدة أبداً، عكس الايحاءات والتحليلات والافتراضات الخاطئة.