جريدة الجرائد

استراتيجية (أيلول الأسود) ضد ميليشيات العراق

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

سليم نصار

بعد ترويض معمر القذافي وإعدام صدام حسين، فقد تيار القومية العربية وحركة الوحدة العربية، آخر رموز قادتهما، ممن تناوبوا على حكم الدول العربية منذ بداية الخمسينات. ومع أن جذوة الانتماء الى تيارات "بعث" الوحدة لم تنطفئ في صدور آلاف المؤمنين بأهدافها، إلا أن الاخفاقات المتواصلة التي مني بها النظام العربي، عجلت في وأد مشروع "دولة الاتحاد العربي".

ولا شك في أن اخفاق السياسة الاميركية في العراق، كان السبب المباشر في إ حداث تغيير هيكلي على مستوى المنطقة كلها بدءاً ببغداد وانتهاء ببيروت وغزة. وهكذا أفرزت استراتيجية "الفوضى البناءة" طوال ثلاث سنوات ونصف سنة، وضعاً مقلقاً في المنطقة استفادت منه ايران لتستبدل نظرية الدولة العلمانية بنظرية الدولة الدينية. أي الدولة التي دعا المرشد الأعلى للجمهورية الاسلامية الايرانية علي خامنئي، الى الاعتماد على نفوذها الكبير. وقال في كلمة متلفزة: "ان اعتماد الانظمة العربية على ايران سيحررها من ابتزاز الولايات المتحدة". وكان بهذا الكلام يحذر من مخاطر انشاء جبهة ضد بلاده بتشجيع من اميركا وبريطانيا، سوف تحيي في رأيه، الانقسامات التي حدثت بين السنّة والشيعة قبل 14 قرناً.

الاحزاب السنيّة في العراق وبينها "الاخوان المسلمون" (الدكتور محسن عبد الحميد) و"هيئة علماء المسلمين" (الشيخ حارث الضاري) ترفض اتهامات علي خامنئي وتعتبرها مجرد تغطية اعلامية ترمي الى اقامة دولة دينية. وترى هذه الاحزاب ان المحافظين الجدد في واشنطن أظهروا انحيازهم الى قوى الشيعة منذ أول أيام الاحتلال، وحصروا علاقتهم ومشاريعهم السياسية مع علي السيستاني المكتسب هويته ومرجعيته من ايران، اضافة الى زعماء "حزب الدعوة" الذين احتضنتهم طهران مثل ابرهيم الجعفري ونوري المالكي أو عبد العزيز الحكيم من "المجلس الاسلامي الاعلى". صحيح ان نزاع القوات الاميركية مع مقتدى الصدر كان يحمل صورة العداء المستحكم... ولكن الصحيح ايضاً أن هذا الخلاف لم يمنع الزعيم الشيعي الشاب من الاعلان عن موافقته على انشاء دولة دينية في العراق، شرط أن تعبر عن ارادة الغالبية. وبما ان الغالبية الشيعية هي الطاغية في الاستفتاءات، فإن المبرر الذي يقدمه مقتدى الصدر ليس أكثر من حجة منطقية مقبولة.

يقول المحللون في الصحف الاوروبية ان الرئيس جورج بوش كرر الخطأ الذي ارتكبه سلفه الرئيس جيمي كارتر يوم أوكل الى شاه ايران مهمة شرطي الخليج. ولما حاول الشاه نشر نفوذه بطريقة اعتبرتها واشنطن مضرة بمصالحها النفطية، سارعت الى إسقاطه والى دعم التيار المتعارض الممثل بالخميني. وهذا ما فعله بوش بإيحاء من المحافظين الجدد الذين استغلوا أحداث 11 ايلول لتحريض الرئيس الاميركي على شن حرب ضد عراق صدام حسين. ولعب نائبه ديك تشيني الذي أعلن تأثره بأفكار هنري كيسينجر وبرنارد لويس وفؤاد عجمي، دور المشجع على تدمير النظام العربي القائم وإحلال نظام بديل محله. واقترح المؤرخ لويس في مقالات نشرتها مجلة "فورين أفيرز" اعطاء ايران الشيعية وتركيا السنية دور القوتين الضابطتين للخلافات العرقية والطائفية والمذهبية والعشائرية. وحملت توصياته ايضاً اشارات واضحة الى ضرورة تحويل منطقة الشرق الاوسط، الى "سلة سلاطعين" بحيث تستمد اسرائيل استقرارها واستمرارها من خلافات كانت قائمة في زمن الامبراطورية العثمانية. واللافت في هذا السياق ان صحيفة "صانداي تايمز" التي يملكها روبرت مردوخ، استضافت فؤاد عجمي ليكتب انطباعاته عن إعدام صدام حسين، ويتحدث عن انتصار توجيهاته في حقل السياسة الخارجية الاميركية.

بعد انقضاء ثلاث سنوات ونصف سنة، أدرك جورج بوش ان الدعم الذي قدمه الى شيعة العراق استفادت منه ايران أكثر بكثير مما هو مسموح اقليمياً ودولياً. كما أدرك ايضاً ان عصابة الاربعة بقيادة ريتشارد بيرل وبول وولفوفيتز، التي تحكمت بالقرارات السياسية والعسكرية في البيت الابيض، كان لا بد من إبعادها عن مواقع القرار. والسبب ان سياسة "الفوضى البناءة" التي اجترحتها خلقت لأميركا خلافات مع الدول العربية السنية استفادت منها الصين وروسيا والهند من اجل تحسين عقود التسلح والنفط. ولم تكن عملية إقصاء وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد واستبداله بروبرت غيتس سوى بداية التحول الذي فرضته نتائج انتخابات الكونغرس الاخيرة.

وهذا ما وصفه الرئيس بوش بتغيير وسائل استراتيجيته الجديدة في العراق، من دون الأخذ بتوصيات لجنة بايكر - هاميلتون المطالبة بإسناد دور المشاركة في ضبط أمن العراق الى الدولتين الجارتين ايران وسوريا. وبدلاً من سحب قواته تدريجاً، كما اقترح زعماء الحزب الديموقراطي، قرر الرئيس ارسال 21 الف جندي اضافي في سبيل فرض استراتيجيته. ولوحظ من خلال إقراره بتحمل مسؤولية الاخطار السابقة أنه يضع اللوم على الادوات التنفيذية. لذلك رشح رئيس الاستخبارات الوطنية جون نيغروبونتي لمنصب نائب الوزيرة كوندوليزا رايس، على ان يحل محله الأميرال المتقاعد مايكل ماكونيل. ورشح خليل زاد، السفير السابق في بغداد، ليخلف جون بولتون في الامم المتحدة. وسيشغل منصب السفير في بغداد رايان كروكر السفير الحالي في باكستان. اما الاميرال وليم فالون فقد عُين قائداً للقيادة الوسطى مكان جون ابي زيد. وسيرقى الجنرال ديفيد بتراوس ليصبح قائداً للقوات الاميركية في العراق مكان الجنرال جورج كايسي.

اللافت في هذا السياق ان الادارة الاميركية هي التي شجعت اثيوبيا على ارسال قواتها الى الصومال بهدف طرد ميليشيات "المحاكم الاسلامية" التابعة لـ"القاعدة"، ولكنها في العراق ترفض تنفيذ توصيات لجنة بايكر - هاميلتون المطالبة بتعزيز فرص المصالحة الوطنية ونشر الامن، من طريق التعاون مع ايران وسوريا. ويعتقد بوش ان ايران وسوريا، الدولتين اللتين تزودان الميليشيات بالأسلحة والعناصر المقاتلة، لا يمكنهما تغيير نهجهما الا اذا كان الثمن مغرياً، كالسيطرة على العراق. ومثل هذا الحل يؤسس لنشوب حرب بين الايرانيين والعراقيين تتورط فيها الميليشيات المسلحة، الامر الذي ينقل عدوى الاقتتال الى لبنان والاراضي الفلسطينية. ويبدو ان بوش اعتمد تقرير مجلس الامن القومي الذي يرفض توصيات بايكر - هاميلتون باعتبارها تشكل اهانة للولايات المتحدة التي تستنجد بدولتين صغيرتين.

ويرفض هذا التقرير مقارنة دور الرئيس بشار الاسد بدور والده في حرب 1991. ويقول ان الرئيس الراحل حافظ الاسد وظف قوة ايران لخدمة القضية الفلسطينية من دون ان يسمح لنفوذها بالتدخل في شؤون العرب الداخلية. وهذا ما يأخذه وليد جنبلاط على دمشق حاليا لكونها تعمل على انتزاع لبنان والقضية الفلسطينية من حضن العروبة وإلقائهما في حضن ايران الفارسية. وفي رأي وزير الاتصالات مروان حمادة، ان سوريا ستعجز في المستقبل عن لجم طموحات ايران الهادفة الى تقويض دعائم النظام العربي القومي العلماني في سبيل اقامة الدولة الدينية في العراق ولبنان والبحرين. ويعتقد وليد جنبلاط ان انتصار ايران في هذا الطرح يلغي مسلمات عدة بينها الديموقراطية التوافقية في لبنان، وممارسة مبدأ المساواة والتعددية، والاعتراف بحقوق الاقليات. يتوقع المراقبون في بغداد ان يختلف رئيس الوزراء نوري المالكي مع الرئيس جورج بوش حول تطبيق الاستراتيجية الاميركية الجديدة.

وبما ان القضاء على 23 ميليشيا سنية وشيعية سيكون في طليعة اهتمامات القيادة العسكرية المشتركة، فان الدعوة الى حل "جيش المهدي" ستشكل احراجاً للحكومة، خصوصا ان مقتدى الصدر لا يعتبر جيشه ميليشيا، بل فرقة وطنية تدافع عن سيادة الوطن وسلامة المقدسات. وفي هذا الموضوع بالذات يبدو ان المرجع الشيعي علي السيستاني ونوري المالكي لن يقبلا بممارسة الاساليب الصارمة التي ستفرضها القيادة الاميركية الجديدة. أي الاساليب المستوحاة من عمليات "ايلول الاسود" في الاردن عام 1970، يوم تولى وصفي التل الاشراف على تجريد الفلسطينيين من اسلحتهم. وقد جرى تقسيم عمان في حينه مناطق جغرافية تم اقتحامها على دفعات. ويرى المالكي ان انقلاب هدف الحرب من نشر الديموقراطية الى فرض الامن بقوة السلاح، هو مهمة باهظة الكلفة، ان بالارواح ام بالممتلكات.

يقول زعيم الغالبية الديموقراطية في الكونغرس السيناتور هاري ريد، ان احتلال العراق عام 2003 جعل الهيمنة الاميركية مسؤولة مباشرة عن مستقبل الشرق الاوسط وهي يمكن ان تفضي الى احتمالين: انتصار عسكري يقود الى انهيار الحكم بسرعة واحداث تغيير جذري في المنطقة كلها... أو إخفاق تام يؤدي لا محالة الى فراغ في السلطة يزعزع المنطقة، ويُفقد الولايات المتحدة موقعها كقوة كبرى وحيدة في العالم. ولعل ايران هي المستفيد الاول من الفراغ في العراق، لكونها جددت ترسانتها العسكرية وبرنامجها النووي وضاعفت تأثيرها المعنوي والمادي بواسطة النفط "النظيف". ولكنها في المرحلة المقبلة ستضطر الى تحديد خياراتها الاقليمية لأن استراتيجية بوش الجديدة تريد اقناع حلفائها في الشرق الأوسط، ان سياسة الطاقم السابق قد غادرت البيت الابيض مع "عصابة الأربعة" ومع نظريات برنارد لويس وفؤاد العجمي!

صحافي لبناني مقيم في لندن.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف