جريدة الجرائد

«غاسلة موتى» دمشقية اختارت مهنتها لأنهم «لا يصدرون أوامر»

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

عائلتها تشكو لعنة العزلة بسبب عملها ...

دمشق - وسيم إبراهيم

تعمل هاجر في "مكتب دفن الموتى" في دمشق، ودوامها من الثامنة صباحاً حتى الخامسة مساء، يومياً، من دون عطلة. ما السبب؟ تجيبك وهي تبتسم: "عملي هو غسل الموتى وعزرائيل لا يأخذ إجازة"!

سكان "الحارة" حيث يقع بيت هاجر يمرّون وإمارات التحفّز والاحتراس على وجوههم. ينظرون الى المرأة وزائريها شزراً، ولا يلقون التحية. السنوات السبع التي أمضتها هاجر في غسل الموتى، لم تصب حيويتها في مقتل. "سبع سنوات عجاف... والحبل على الجرّار". وتفاجئك بأنها لا تتوقف عن سرد النكات، حتى وهي مع الجثامين! وتوضح ان "ذلك لا يثير حساسية أهل المتوفاة، فريثما يصلون الى غسل المرحومة يكونون قد ملّوا الغمّ والحزن، ويحتاجون أي شيء يخرجهم منه".

لهاجر ثمانية أبناء، أكبرهم لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره. أما زوجها، فهجرها منذ زمن طويل "لأنه لم يعد يحتمل حياتنا"، تقول هاجر غير راغبة في سرد التفاصيل.

تعيش العائلة في "عزلة تامة" عن محيطها. فالناس لا يتقبلون التعامل مع "غاسلة موتى" وأولادها. الأمر الذي يحزّ في نفس هاجر، ويؤلمها أن ترى "الرفض والازدراء" في عيون جيرانها، كلما مرّت بهم.


هاجر تحضّر القطن


هذا النوع من القسوة دفع ابنتها الكبرى (اسمها غرام) الى ترك المدرسة وهي في المرحلة الإعدادية: "كانت تبكي وتشتكي دائماً من طلاب الصف. كانوا يلاحقونها ويعيّرونها بمهنتي... ويضحكون عليها". فتزوجت أخيراً من رجل متزوج وله أولاد، يكبرها بعقدين.

لا تجد أشعة الشمس منفذاً الى البيت ومنح بعض العافية والصحة لصغاره. وهم لا يخرجون منه إلا الى المدرسة، ويخشون مضايقات أولاد الحي: "صحتهم اعتلّت لكثرة اختناقهم بين الجدران"، تقول الأم.

السنوات الـــــسبع التي مرت، لم تحمل أي تغـــــيير في حياة هاجر. والتغــــيير الوحيد جاء على عكس ما يحصل عادة: "أنا بنت جبل. في البداية كنت قوية ولا أخاف شيئاً. أما اليوم، ولكثرة ما رأيت من مناظر فظيعة، صرت لا أجرؤ على الخروج وحيدة في الليل".

الفظاعة التي تتحدث عنها هاجر، بلغت ذروتها عندما كانت تغسل جسد امرأة قضت في المستشفى، وفيما كانت تنجز مهمتها، جُرحت يدها بزجاجة ماء مكسورة. وكانت المتوفاة تنزف من وريدها. غسلت هاجر مكان النزيف مراراً، فاختلط دم المتوفاة بدم هاجر. وكانت الصاعقة، عندما علمت أن المتوفاة كانت مصابة بالأيدز. غضبت وصرخت... لأنهم لم يخبروها سابقاً. ولم تهدأ شكوكها حتى تأكدت أنها لم تصب بالعدوى.

تلك الحادثة كانت مدخلاً لاحتجاجها على طريقة معاملة أهالي الموتى: "يظنون أنهم يملكونك لأنهم يدفعون (المال) الى مكتب دفن الموتى. يعاملونني كأنني عبدة لديهم". لكن الدعابة لا تلبث ان تعود الى حديثها: "أساساً، أنا اخترت العمل مع الموتى لأنهم لا يصدرون الأوامر".

أما ابنتها غرام (17 سنة)، فتعزو مأساة عائلتها الى "قلة الحظ". وتعتبر ان الأمر ينتقل بالوراثة ليصبح لعنة. وهي - أي غرام - ليست سعيدة بزواجها، لكن الظروف اضطرتها إليه: "إنه الحل الوحيد كي أريح أمي من مصروفي. قبلت بالزواج من دون أن يرغمني أحد. فأنا متأكدة أنني لن أقابل شاباً يطلبني للزواج".

غرام فاجأت والدتها، عندما طلبت منها السماح لها بالعمل معها، "لكنها رفضت... لأنني صغيرة". وعلى رغم ذلك، خاضت غرام التجربة. تروي ذلك بغبطة مع بعض التباهي: "حصل ذلك مرتين. جاءت أمي بفتاة لتغسلها في المنزل، فساعدتها. كان أهل الفتاة المتوفاة مسافرين، وليس لديهم وقت أو مكان لغسلها قبل الدفن. كانت الفتاة مزرقّة جداً. ربما لأنها رقدت طويلاً في البراد. كما ساعدت أمي أيضاً في غسل امرأة عجوز".

هذه الأريحية الفريدة تبدو طقساً، يخيّم على بيت هاجر، او شيئاً من "السحر"، لكنه يحتفظ بحيّز للمطالبة بالحق في عيش "بشري"، ولا تصير عيون الناس بنادق لتصويب نظرات جارحة. عيش أو أي شيء يشبهه، فالمهم هو كسر طوق العزلة الذي يحاصر هذه العائلة، ويلاحقها إلى أي مكان.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف