جريدة الجرائد

حروب الخيمتين في بيروت

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك


عبد اللطيف فاخوري


اذا كان الشيء بالشيء يذكر، وإن لم يكن من جنسه، نذكر أن الانكليز حينما ضاقوا ذرعاً بحياة السلم بعد انتهاء حرب المئة عام مع فرنسا أقاموا جيوشاً من المرتزقة يحارب بعضهم بعضاً ويستخدمونها في الارهاب والعدوان على المسافرين واغتصاب الاموال وقتل الابرياء. وكان أكثرهم شهرة فيها نبيلان يتنافسان على العرش شعار أحدهما وردة حمراء وشعار الآخر وردة بيضاء فعرفت حروبهما بحروب الوردتين.
عندما توافقت القبائل اللبنانية من الأبطُح والشِّعب والجبال والمدن والاطراف على إنشاء دولة لبنان والانخراط فيها كان همّ غالبهم ما يمكن جنيه من مغانم ومكاسب. وفي كل مرة كان يجنح بعضها الى الاستئثار بالسلطة والتفرد بمنافعها كان يختل التوازن فتشحذ السيوف وترتفع السناجق والبيارق مهددة بهجمة مضرية ثم يجتمع الملأ ويتوافقون ويتشاركون في ما فيه نفع البلد على حد زعمهم.
ولعل هذا السلوك دليل على أصالة اللبنانيين وعلى انتمائهم القبلي العربي الذي كرسته وثيقة الوفاق الوطني في الطائف والتي أسوأ ما فيها الجناس اللغوي بين الطائف والطائفية. وتاريخ اجدادهم العرب وأيامهم يؤكد ما أشرنا اليه.

قديماً أدركت القبائل، أهمية مكة الديني وضرورة تأمين اماكنها الدينية وتسهيل ورود الحجاج لتأدية مناسكهم، وأهمية ضمان الطرق والسبل لازدهار التجارة، فكان من نتيجة هذا الادراك أن عهدت برئاسة المدينة الى قصي بن كلاب الذي تولى الامور الآتية: الحجابة وهي السلطة الدينية يستفيد صاحبها من النذور والقرابين والعشور، والسقاية، أي سقاية الماء والنبيذ في حياض جانب زمزم، والرفادة وهي خرج يدفع الى قصي يشتري به اللحم والدقيق لإطعام الحاج. والندوة أي الدار الذي كان سيجتمع فيه ملأ قريش لبحث أمور المدينة. والندوة لغة الاجتماع فكانوا يجتمعون فيها للتشاور أي ينتدون. وعدت دار الندوة مقراً للحكم. وأخيراً اللواء وهو راية الحرب أي قيادة قريش في الحرب وقيادة قوافلها وفيها اموالها وأرزاقها.

وعهد قصي الى بكره عبد الدار دون شقيقه عبد مناف - بما كان يقوم من مهمات انتقلت بعده الى بني عبد الدار. فتصدى بنو عبد مناف (هاشم وعبد شمس والمطلق ونوفل) بقيادة هاشم وطالبوا بالحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء. فانقسمت قريش بين بني عبد الدار وبني عبد مناف ونصبت الخيام واستعد كل فريق لحرب الآخر، ثم تداعوا الى طاولات (أو خيم) الحوار والتشاور والصلح واتفقوا على توزيع أمور المدينة شراكة في ما بينهم. فأخذ بنو عبد الدار الحجابة والندوة واللواء وهي وظائف سياسية وعسكرية. وأخذ بنو عبد مناف السقاية والرفادة. ووزعت بعض الشؤون الاخرى على عدد من أسر قريش لكل أسرة عمل تقوم به فتمضيه لها سائر قريش.
فكانت السفارة في بني عدي، وصاحبها رسول قريش عادة في الصلح بينهم وبين أحياء العرب. وينافر عنهم اذا فاخرهم أحد منها. وينذر من أرادوا إنذاره بشيء. وكانت المشورة في بني اسد وصاحبها يستشار في الامور الخطيرة. وكانت الاشناق في بني تيم وهي الديات والمغارم. وكانت الأيسار في بني جمح، والأيسار الداخلون في الميسر. وكانت القبة والأعنة في بني مخزوم للاشراف على تجهيز الجيش وقيادة فرسان العرب.
اختلف اللبنانيون عام 1958 ثم أدركوا ان مصلحتهم في الاتفاق وان لا يكون بينهم غالب أو مغلوب فقضي الامر الذي فيه اختلفوا. واختلفوا عام 1975 وطال الخلاف حتى لم يعد فيه مطمع لأحد، فكان ما كان من اتفاق الطائف وحسناته كثيرة لا تعد ولا تحصى لولا ان تطبيقه ويا للاسف أحل الوحدة الطائفية أو المذهبية محل الوحدة الوطنية.

وكانت الانتفاضة التي تبعت اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وما تبعها من تداعيات. فكان منها ما عرف بخيمة الحرية في ساحة الشهداء. وأقيمت اخيراً في ساحة رياض الصلح ومتفرعاتها خيمة حكومة الوحدة الوطنية. ويبدو ان مسارعة الفريقين الى نصب خيمة يثبت عروبة اللبنانيين الذين يحنون الى الخيم والمضارب مما بقي في جيناتهم من الزمن الغابر.
فاذا عدنا الى الشعارات التي رفعت في خيمة 14 آذار في ساحة البرج وتلك التي ترفع في خيمة 8 آذار لا نجد فرقاً بعيداً بينها - فجميع المخيّمين تهمهم مصلحة لبنان وسيادته وحريته واستقلاله، والجميع حريص على الوحدة الوطنية وعلى استنكار التدخلات الاجنبية. وكلهم يحذرون من الحرب الاهلية والطائفية والمذهبية. ومع ذلك فالحوار بين اصحاب الخيمتين يتم بالخطب والتهديد والوعيد. فتتكاثر الخطب العصماء والكلمات الطنانة والجمل الرنانة وترتفع الاعلام والرايات والبيارق مختلفة الالوان والاحجام.

تجدر الاشارة الى ان العناوين المتداولة تتضمن كلمات بعضها عقيم وبعضها ولود. فهل الخلافات السياسية سببها نقص في دقة الرموز التي يستخدمونها، أم أن هناك مصادر اخرى للخطأ كاختلاف في الظروف والارادة المسبقة والاهتمامات والمصالح؟
قال أبو حيان التوحيدي: اذا نازعك انسان فلا تجبه فإن الكلمة الاولى أنثى وجوابها فحلها فاذا تركت اجابتها قطعت نسلها وان أجبتها لقحتها، فتكبر المعركة ويستفحل الامر. ارسل فيليب المقدوني والد الاسكندر الاكبر رسالة يتوعد بها أعداءه في أحد الاقاليم، قال لهم فيها اذا استوليت على بلدكم فسأسحق أهله سحقاً فأجابوا بكلمة ولدت حرباً، اذ أجابوه بكلمة واحدة هي: إذا.
وحبذا لو يكف الفريقان عن الرد على بعضهما البعض. فإن كلمة تصدر من هذا الخطيب او ذاك لا تكون شيئاً مذكوراً اذا قيست بما تنفثه بوارج البحر ومقاتلات السماء. فاذا الالفاظ التي خلقها الانسان وحسب انها حبيسة قمقم فكره، وان قيادها رهن لسانه، تصبح اذا افلتها من عقالها كالمردة الجبابرة تمسك بزمام الانسان وتقوده سوء السبيل وتؤدي الى سفك دماء لا يعلم الا الله مداها. وصح ان توصف تلك الالفاظ بأنها مجرمة لأنها أثارت الفتن والكبائر مع إنها بذاتها ليست بذات معنى مثل كلمات: دولة ديموقراطية، حرية، سيادة، مشاركة، دستور (يذكر ان الدستور كلمة فارسية معناها القانون ولعل الفرس أفضل من يفسرها) الخ...
والفريقان يخلطان الأمور بعضها ببعض يقدمان غير المهم على المهم وينافس بعضهم بعضا في مجالات كانت تستدعي التعاون والتكامل.
أشاع الفيلسوف الألماني هانس فاينجر في الثلث الأول من القرن العشرين نظرية خلاصتها ان الإنسان يصوغ لنفسه افكاراً، ويزعم لنفسه أنها الواقع، فإذا هي في حقيقتها تصور له ما يجب هو أن يتصوره لينعم بالراحة. ولو تبين أن افكاره باطلة، فلا يعدل عنها لأنها كانت مريحة له. وهكذا يكون قد بنى من الأوهام صورة يتشبث بها كما لو كانت هي صورة الواقع.

هذا التباعد بين الواقع والفكر ترجمته العامة بقولهم: "اسمع اقوالك تعجبني، أشوف افعالك استعجب". وقد اعطى علماء البيولوجيا تفسيرا لذلك وضحه العالمان بابيز وماكلين وعللاه بقولهما ان دماغ الانسان مؤلف من ثلاثة اجزاء تقابل ثلاثة ادوار من التطور. احدها لا يزال يختزن حياة الزواحف والثاني لا يزال يختزن حياة الثديات الدنيا والثالث هو الذي يؤدي وظائف العقل، ولا يوجد تعاون بين الطبقة الدنيا التي ظلت على حالها والطبقة العليا التي تطورت بتطور العلم. وفي مرحلة ما يعبث الانفعال والنزوات بما خططه العقل والمنطق فتسود الفوضى والحروب والخراب. وينطبق على الفريقين رأي العالم النحوي العربي ابن جنّي الذي فرق بين القول الذي تتحرك به الشفتان والكلام الذي لا يكون الا اذا اكتمل اللفظ حتى بات مستقلا بنفسه مفيدا لمعناه. فهي علاقة بين الفكر واللغة فلئن كان كل كلام قولا، فليس كل قول كلاما.
ولا بأس وبعض الناس اليوم مشغول بما يسمى الاعجاز العلمي في تفسير النصوص الدينية من استعادة الحديث الشريف الذي يحض على طلب العلم (او الحكمة) ولو في الصين.

ففي الحكاية ان احد امراء الصين سأل الحكيم كونفوشيوس عن سبب اضطراب الاوضاع الاجتماعية والاخلاقية والسياسية في بلاده وعن طريقة اخراج البلد من ازماتها. وكان جواب الفيلسوف ان الحل يكمن في اربع كلمات هي: "وضع الالفاظ في موضعها".
وتشهد ساحات لبنان المختلفة ومنابره الاعلامية مناظرات وحوارات، او قل شجارات تتداول فيها الفاظ وتعبيرات ترد في غير موضعها، ومدلولها مخالف لموقعها كما سبق واشرنا، منها ماهية الثلث - والثلث حتى في الوصية كثير - هل هو الثلث المعطل او المفعّل او الضامن او المشارك او المقرر او المنبه او المحذر او المسقط او المقبل والمدبر معا او المدقق او الفاعل الخ... ومنها كلمات: الفساد، والشفافية والتماهي، وتدوير الزوايا وبامتياز، وقطبة مخفية، والهروب الى الامام، مع ان الهروب هروب سواء كان الى الوراء ام الى الامام ام الى اليمين او الشمال. ومثل ذلك قولهم اتفاقات تحت الطاولة وهي استعارة من لاعبي الورق الذين يغشون ويتبادلون الاوراق من تحت الطاولة، ام انها تعريض بما يجري تحت الطاولة من مغازلات بالأيدي والارجل؟

ومنها أن بعض اهل السياسة ينسب للبعض الآخر ان لغته خشبية، ولا ندري ما علاقة الخشب بالسياسة هل لأن ممارسة السياسة أصبحت مثل تجارة مادة الخشب؟ فهذه التجارة بحاجة لتوافر ثلاثة شروط: اولها مال قارون لحاجة السياسي - التاجر - الى فتح بيته وحسابه المصرفي وجيبه لشراء النفوس والنصوص والمناصب. وثانيها سفينة نوح لأن القصور الفخمة والسيارات المصفحة والمجالس الوسيعة ضرورية لاستيعاب المؤيدين واستقبال المصفقين. والشرط الثالث صبر ايوب الذي يجب ان يتمتع به رجل السياسة الصابر على تقلب الامور وتبدل الاحوال وانتظار التغيير المرغوب؟
ام ان المقصود باللغة الخشبية لغة جامدة لا تستطيع وصل ما ينقطع بين المتحاورين باعتبار ان الخشب ناقل سيىء للبرودة والحرارة والكهرباء، وبالتالي يستمر الحوار الى حيث لا قرار. وأعجب ما نقرأه ان اللبنانيين اخترعوا وصدقوا ما سموه ديموقراطية توافقية ما يندرج تحت عنوان المشاركة في الحكم والسلطة.
فالكل يريد ان يشارك في ما يمكن ان نسميه"حكومة الوجوه" ولا احد يرغب أن يبقى في المعارضة يراقب ويدقق وينبه ويصوب ويدل على الخلل ويدافع عن حقوق الانسان وعن مطالب العمال والفلاحين وبقايا الطبقة المتوسطة من اصحاب الدخل المحدود جدا جدا؟

عرفت بلادنا ايام الدولة العثمانية شركة سميت "شركة الوجوه" كانت تتألف من بعض وجوه المجتمع - اصبحت اليوم حكومة الوجوه - لأن رأسمالها يفرض ان يتكون من مركز شركائها في المجتمع وشهرة أمانتهم واستقامتهم وملاءمتهم وثقة الناس بهم. وبما قد يتمتع به الوجه منهم من رجاحة العقل والذكاء ونفاذ البصيرة وسعة الافق وطلاقة اللسان وقوة العارضة وسرعة البديهة الى جانب المثالب الملازمة لها عادة مثل الميل الى التسلط والقهر والنفور الشديد من المعارضة والاثرة والركون الى الترف والملذات والتعالي والشموخ.
واذا كانت الوجوه هي الظاهرة للعيان فان المخفي اعظم كما تقول العامة. ذلك أن تطور عدسات المصورين واطباء عمليات التجميل ساهمت في خداع النظر فلم تعد سيماهم في ظاهر وجوههم. بل اصبح من الواجب إعمال علم الفراسة وقل من اوتي قدرة ليوناردو دافنشي على رسم الوجوه بطريقة تجعل من السهل فهم ما يدور في فكر اصحابها، والا فبضاعة العرّافين حاضرة.
واذا كنا قد عرفنا وخبرنا وجربنا الكثير مما نسمعهم اليوم وبعضهم عاث فسادا في البلاد واعتدى على الأموال والعباد، فان البعض منهم ما زال يعتقد انه لم تعد ثمة قضية تستأهل اثارة الهمم وأن الشخص هو القضية.

ولا يزال قول بارتيليمي غير خائب عندما قال إن الفرد حين يريد اختيار اشخاص لإدارة شؤونه الخاصة يبحث عن خيارهم وعن اكثرهم مقدرة وخبرة وامانة. ولكنه حين يريد اختيار ممثلين عنه لادارة مصلحة البلاد والاشراف على الشؤون العامة فاننا نجده يتجه الى قليل المقدرة والكفاية.
في زمن تكثر فيه النظريات والشعارات، ينطبق على بعضها ما قاله يوما فيلسوف فرنسا اناتول فرانس الذي شبه بعض المبادىء والنظريات بالصخرة في وسط الصحراء تعلوها الازهار والرياحين فاذا قلبت الصخرة - النظرية - راسا على عقب وازاحتها من موضعها، وجدت تحتها حشرات وزواحف وعرفت أنها ليست بمبدأ.
فاذا كان الحوار ضروريا لا مفر منه، واذا كان لا بد من خيم، فليكن في خيمة واحدة كبيرة تجمع اللبنانيين وتجسد طموح شباب لبنان في غد افضل.
ونقول للمتشاتمين في بعض الساحات اننا عرفنا في المدرسة ما سمي أدب الهجاء الذي يتجاوز الحقد ويكظم الغيظ وهو ما اشار اليه البطريرك صفير يوما بلسان الشاعر:

لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب
ولا ينال العلى من طبعه الغضب

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف