لبنان بين جولتين
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
طلال سلمان
ها هي السيدة كوندليسا رايس، في منطقتنا، مرة أخرى... تُرى أية كارثة جديدة علينا أن نتوقعها من هذه الجولة الثامنة لأمينة سر الرئيس الأميركي جورج بوش ووزيرته ومسوّقة سياسته الخارجية المرتكزة إلى قاعدة: "مَن لا يقاتل معي، ولو ضد شعبه، فهو عدوي، ولا بد من شن الحرب عليه حتى إسقاطه، ولو بتدمير بلاده"؟.
من حظ لبنان أن السيدة كوندي، التي لها بين ظهرانينا عدد من المعجبين، لن تزوره (؟) هذه المرة، مكتفية بأن تكون المروّجة والداعية لمؤتمر باريس ـ 3 الذي تطوّع لعقده، مشكوراً، الرئيس الفرنسي جاك شيراك ليوفر صندوق الدعم بالأوكسجين للحكومة البتراء التي يهرب القيّمون عليها من شركائهم الطبيعيين في الداخل ليستوردوا مدداً من الخارج مفترضين أنه قد يغنيهم عن الوحدة الوطنية في بلدهم الصغير والغارق في ديونه الثقيلة الوطأة (أكثر من 41 مليار دولار) من قبل الحرب الإسرائيلية، فكيف به بعدها، وبغض النظر عن فداحة الخسائر التي لحقت بالعمران والإنسان في لبنان نتيجة لها.
الجولات السابقة للسيدة كوندليسا رايس أنتجت حتى تاريخه مشروع حرب أهلية تنذر بتدمير العراق تحت الاحتلال الأميركي، دولة وكياناً سياسياً موحداً، لا يجد الرئيس الأميركي جورج بوش سبيلاً لوقفها إلا تحميل المسؤولية عن تورّطه الدموي فيها لبعض دول الجوار العراقي (إيران وسوريا)، وإلا زيادة عديد قوات الاحتلال وتعزيز قدرتها على التدمير المنهجي للمناطق وعلى القتل الجماعي... مع الحفاظ على منابع النفط، ومحاولة غواية الأكراد بإدارة ظهورهم لشركائهم في الوطن المهدد بالاندثار.
كذلك فإن تلك الجولات قد ساهمت في إنهاك الفلسطينيين وتشتيتهم وراء سراب خادع في خريطة طريق كادت تؤدي بهم إلى صدام أهلي يُسقط نهائياً رايات تحرير "بعض" فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي ويشغلهم بعضهم بالبعض الآخر بما يجعل من الكلام عن "التحرير" و"الدولة" وحتى "السلطة" أضغاث أحلام، في حين أن الواقع ينذر بكوابيس دموية تتهدد القضية والأرض والشعب..
أما على صعيد لبنان فإن زيارات الوزيرة السمراء التي يتغزل بعض أقطاب السياسيين بفتنتها، لم تفد إلا في إنجازين اثنين:
∎ الأول هو زيادة الشرخ بين القوى التي كانت مؤتلفة بحيث غدت متواجهة، بما يغذي حكماً مناخ الفتنة، وينقل الانقسام السياسي إلى الطوائف والمذاهب ومن المؤسسات، على قاعدة برامج محددة، إلى الشارع، وهو في لبنان شوارع تغص جنباتها بـ"الدول" و"مصالح الدول" المتعارضة والمتنافسة بل والمتصارعة على مساحات النفوذ في هذه المنطقة التي لم يعد لأهلها رأي في ما يقرّره لهم "الآخرون"... و"مسز كوندي"، كما يدعوها المعجبون بها تحبباً، في رأس قائمة هؤلاء "الآخرين".
∎ والثاني يتصل بدورها المعروف في مد أمد الحرب الإسرائيلية على لبنان إلى حد القضاء الكامل على كل من يعمل (أو يحلم) ليكون وطناً لشعب يطمح إلى استعادة حرية أرضه وإنسانه ومحاولة تثبيت سلمه الأهلي عبر دولته الجامعة.
ومع التنويه بالجهد الذي بذله ويبذله الرئيس فؤاد السنيورة (ومن خلفه سعد الحريري) لتأمين النجاح لمؤتمر باريس ـ ,3 وهو ما كان ليعقد لولا أن الذين قرّروا عقده قد وفروا له الغطاء السياسي اللازم للعطاء المالي (والاقتصادي)، فما كان ضرّه لو أنه وفر القاعدة الوطنية الصلبة لمثل هذا المؤتمر، بالسعي الحثيث لإعادة صياغة "حكومته" بحيث تكون "حكومة وحدة وطنية" فعلاً، وبحيث تكون خطته الإصلاحية خطة وإصلاحية ووطنية فعلاً، بمعنى أنها ثمرة توافق وطني يحمي تطبيقها باعتبارها المدخل إلى برنامج نهوض فعلي يتجه إلى معالجة الأوضاع المتردية التي تتفاقم سوءاً عاماً بعد عام، بدليل تعاظم حجم الديون التي سوف يستهلك سدادها جيلاً أو جيلين من ناتج جهد اللبنانيين، أو من سوف يبقى منهم في الوطن الذي لا يوفر له فرصة أن يعطيه ما يقدر عليه.
ألم يكن من الأكرم للبنان، شعباً ودولة وحكومة وله شخصياً، لو أن هذه الجولة التي استقبله خلالها عدد كبير من الحكّام العرب، كانت تقدم ـ عبر حكومته ـ صورة مؤملة للبنان الموحّد الذي لا يستجدي الهبات والصدقات والإكراميات، بل الذي أجمعت قياداته على تدعيم وحدته الوطنية ببرنامج للنهوض الاقتصادي يحمي كيانه السياسي، ويحمي ـ بالتالي ـ مستقبل أجياله، وهم الذين يتزاحمون الآن على أبواب السفارات يطلبون مهجراً ولو في أقصى الأرض، لكي يجدوا فرصة عمل جديرة بما يحملون من مؤهلات ومن خـــبرة ومن طموحات كانوا يتمنون لو أنهم خدموا بها بلادهم بدلاً من أن يقدموها هــدية للآخرين؟!
ويعرف الرئيس السنيورة أن اقتصاد الدول لا يقوم على الإعانات والهبات والقروض، ميسرة أو ثقيلة الفائدة، كما لا تحققه حكومة منقسمة على ذاتها، ومجتمع مهددة وحدته في صميمها، كما لا يستطيع أن يقوم بأعبائه الأقل كفاءة وخبرة وتجربة وثقافة من أبنائه، بينما "يهج" المميزون منهم ليسهموا في توفير فرص النجاح لدول أخرى، بعضها "مبتدع" و"بعضها" "بلاستيك" وبعضها الآخر لا يحتاجهم فعلاً إلا من باب الترف... ورخص أجورهم أو مكافآتهم قياساً على أجور مواطنيه.
لقد أكد لنا الرئيس السنيورة ما لم نكن نحتاج تأكيداته لكي نستوثق منه وهو "حــب القــــادة العرب" للبنان، وإجـــماعهم على مساعدته للنهوض من كبوته، واستـــعادة حيويته الممــيزة التي أرادت إســـرائيل من حربهــا أن توجه إليها ضـربة قاسية..
لكننا لم نعرف بماذا أجاب حين سُئل: لماذا ترفضون حكومة الوحدة الوطنية مع شركائكم في الوطن، الذين أضافوا إلى رصيد لبنان ما ليس لدى هؤلاء القادة العرب مثله؟! (طبعاً بعيداً عن المقولات والمزاعم السخيفة التي يرددها بعض المدافعين عن الحكومة البتراء، كالببغاوات، والتي لا تعدو كونها تبريراً للاندفاع وراء الوزيرة السمراء وسياساتها القاتلة).
... ولن ينجح باريس ـ ,3 حتى لو وفر لنا فيه رعاته ودعاته، عشرات المليارات، ولا ستكون ثمة خطة إصلاحية، إلا إذا تمّ تدعيم الوحدة في لبنان بحكومة وحدة وطنية. والعجيب أن يرفضها المتعنتون مع وعيهم بأن بديلها هو الاشتباك الداخلي الذي سيساعد الفشل الأميركي المدوي في المنطقة إلى تحويله إلى فتنة تدمر الوطن وأهله، وليس الخطة الإصلاحية المرتجلة فحسب.