جريدة الجرائد

ما تجاهله الحبر الأعظم!

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

16 يناير 2007


د. محمد عابد الجابري

كرر البابا بنيدكت السادس عشر في خطابه مراراً قولة الإمبراطور الروماني: "إن عدم التصرف وفق العقل، شيء يتنافى مع طبيعة الله"، متهماً الإسلام بعدم دعوة الإنسان إلى تحكيم العقل في أفعاله وتصرفاته! ليس غرضنا هنا الرد عليه ببيان الموقف الإسلامي من العقل، كما ينص عليه القرآن في عدد كبير من الآيات، ولا بلفت نظره إلى علم الكلام في الإسلام -وهو ما يوازي اللاهوت في المسيحية- الذي رأى فيه جميع المستشرقين مجالاً للعقلانية الإسلامية التي ذهب بها المعتزلة إلى حد أن جعلوا من مبادئهم أن "العقل قبل ورود السمع"، وأن "الله لا يفعل إلا الصلاح"، و"أن الإنسان "يخلق أفعاله"... وهي مبادئ لا تنكرها المذاهب الكلامية الأخرى جملة وتفصيلاً وإنما تختلف مع المعتزلة في الصيغ التعبيرية وبعض الفروض النظرية المتصلة بها، هذا فضلاً عن اشتراط كثير من المتكلمين -ومنهم أشاعرة- في صحة إيمان البالغ الراشد اعتماده على الاستدلال العقلي لإثبات وجود الله، حتى يخرج من "التقليد" الذي احتج به مكذبو دعوات الأنبياء حينما قالوا "إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ" (الزخرف 22). كما لا نريد هنا إبراز موقف ابن رشد الذي قارن إيمان المسلمين المعتمد على العقل، بالطبيب الذي يبرهن على معرفته بالطب بقدرته على إبراء المريض ونجاحه في ذلك، بينما شبَّه إيمان غير المسلمين القائم على المعجزات "الخارقة للعادة" بمن يدعي الطب بحجة أنه يستطيع المشي على الماء.
وليس غرضنا هنا أيضاً بيان كيف أن "اللوغوس" اليوناني وبكيفية عامة الفلسفة والعلوم اليونانية إنما بعثت فيها الحياة وأعيد لها عقلها ومجدها على أيدي المسلمين، وأن الفيلسوف الإغريقي الأكبر أرسطو لم يجد من يشرح خطابه ومقاصده، ويحرر فلسفته مما أُقحِم فيها من عناصر لا تنتمي إلى مذهبه وعقلانيته، غير ابن رشد الذي لقبه الأوروبيون "الشارح الأكبر"، اعترافاً بتفوقه على الشرَّاح السابقين، مثل "ثامستيوس" و"الإسكندر الإفروديسي"... الخ. لن نتجه هذه الوجهة لأننا لا نريد أن ندخل بحوار الديانات والثقافات في سجالات نحن في غنى عنها اليوم. إن ما نريد أن نلفت النظر إليه هنا، بداية، هو بضع حقائق تاريخية كشف عنها الباحثون الأوروبيون، وتخص الدور الذي قام به الموروث الثقافي العربي الإسلامي العقلاني في تأسيس عقلانية أوروبا الحديثة، ليس في مجال العلم والفلسفة فحسب بل في مجال الدين أيضاً.
في هذا المجال يحدثنا المؤرخ الفرنسي المشهور "جاك لوكوف" في كتابه الرائد "المثقفون في العصر الوسيط" (1948)، عن الظروف والآفاق التي تمت فيها أول ترجمة للقرآن الكريم إلى اللاتينية، والدور الذي كان لها في بدايات النهضة الأوروبية في القرن الثاني عشر الميلادي، فيقول: إنه في إطار التداخل والاحتكاك بين الإسلام والمسيحية قام بطرس الجليل (1092-1156)، رئيس دير "كلوني"، بجولة في الحدود الفرنسية مع الأندلس بين عامي 1141-1143 فتعرف هناك على الإسلام والمسلمين, وخلص من هذه الزيارة إلى النتيجة التالية: إنه لابد من نقل الصراع مع المسلمين إلى مجال الفكر أيضاً. قال: "يجب أن نقاوم الإسلام، لا في ساحة الحرب بل في الساحة الثقافية"، وأنه "لإبطال العقيدة الإسلامية يجب التعرف عليها... ذلك لأنه سواء وصفنا الضلال المحمدي -كذا- بالنعت المشين: بدعة, أو بالوصف الكريه: وثنية, فإنه لابد من العمل ضده, لابد من الكتابة ضده". (لوكوف ص 20 وما بعدها). وتحدثنا مراجع أخرى أن بطرس الجليل حصل على مساعدة من أسقف طليطلة، مما مكَّنه من تشكيل لجنة لترجمة القرآن كان من أبرز أعضائها المدعو "بيير الطليطلي" الذي كان يجيد العربية وربما كان مسلماً تنصَّر. وتضيف هذه المراجع أنه مع أن الترجمة التي أنجزتها هذه اللجنة كانت ناقصة تعتمد التلخيص، فإنها لقيت إقبالاً كبيراً، كما ظهرت طبعات أخرى في ألمانيا وفي سويسرا ثم في فرنسا حيث نقلت هذه الترجمة بأسلوب مبسط من طرف "أندري دي ريي" سنة 1641 بعنوان "قرآن محمد". وفقاً للوكوف فقد "استقبلت بترحاب كبير، لأن الجمهور كان يومئذ مهتماً بالعالم الإسلامي أكثر مما يتصور عادة". وتوالى اهتمام الناس في أوروبا/ النهضة بالقرآن إلى درجة أنه: "خلال قرن واحد من الزمان تتابعت في فرنسا وإنجلترا وهولندا خمس طبعات من هذه الترجمة، الأولى بتعديل أو بدونه، وقد ظهرت الطبعة الأخيرة منها باللغة الفرنسية في أمستردام عام 1770. وقبل ذلك ظهرت في بادو، المدينة العلمية الإيطالية حينئذ، ترجمة جديدة للقرآن قام بها Marracci سنة 1698، ومعها كتاب في الرد على القرآن (انظر: ريجيس بلاشير ترجمة القرآن ج1. 1947- بالفرنسية).
كان الغرض الأصلي من ترجمة القرآن هو مقاومة الإسلام، كما ذكرنا، ولهذا الغرض استعملها رجال الدين. غير أن عبارة هيجل "مكر التاريخ" تأبى إلا أن تحقق نفسها في هذا المجال أيضاً. ذلك أن هذه الترجمات التي نقلت معاني القرآن إلى اللاتينية ثم إلى اللغات الأوروبية الإقليمية، وُظِّفتْ أيضاً ضد رجال الدين المندمجين في نظام الكهنوت فأصبحت عنصراً أساسياً في الصراع ضد الكنيسة.
هكذا سارع "الإنسانيون" -وهم فئة ناشئة من المثقفين في القرن الرابع عشر كانوا يفكرون ويعملون خارج نظام الكنيسة وضدها- إلى توظيف ترجمات القرآن للاستعانة بها في تعزيز موقفهم ونشر ثقافة جديدة تعتبر الإنسان غاية في حد ذاته، تعلي من شأنه كفرد حر، لا يحتاج في تعامله الديني، عقيدة وسلوكاً، إلى وسيط آخر (الكنيسة). وقد واصل رجال النزعة الإنسانية في القرون التالية -أمثال "لوكونت دي بولانفيي" الذي ألف كتاب "حياة محمد" (1730)- امتداح الإسلام ضداً على الكاثوليكية الرسمية، منوهين بالإسلام وموقفه من الإنسان. كما تواصل الاهتمام بالقرآن وترجمته، فظهرت عام 1734 ترجمة جديدة له في لندن أنجزها "ج. سول"، فانتشرت بسرعة في عدة بلدان أوروبية، خاصة أنها كانت مصحوبة بمدخل حول العرب وتاريخهم، الشيء الذي اهتم به الجمهور اهتماماً كبيراً، كما اهتم بها رجال "الأنوار" أمثال فولتير، فكانت مصدراً لمعرفتهم بالإسلام.
أسهمت ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللاتينية واللغات الإقليمية في أوروبا في التغير الذي عرفته نظرة الثقافة الأوروبية إلى الإنسان، مما كانت نتيجته ظهور ذلك التيار الفكري المعروف بـ"الإنسانية". وقد عبر عن ذلك التأثير أحد أبرز مؤسسي النزعة الإنسانية في أوروبا، الإيطالي جيوفاني بيكو ديلا ميراندولا (1486) الذي ألف كتاباً بعنوان "في الكرامة الإنسانية"، قال فيه: "لقد قرأت في كتب العرب أنه ليس ثمة في الكون شيء أكثر روعة من الإنسان". (في القرآن آيات عديدة تفيد هذا المعنى: "لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" (التين 4)، "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ" (الإسراء 70).
يقول "لوكوف" في كتابه المذكور إن هؤلاء المثقفين "الذين ظهروا في أوروبا القرن الثاني عشر، كانوا واعين بأنهم ينتمون إلى جيل ثقافي جديد, وكان معاصروهم يسمونهم بـ"المحدثين". غير أنهم مع وعيهم الحداثي لم يكونوا يتنكرون لفضل القدماء, بل بالعكس كانوا يعلنون أنهم يقتدون بهم ويستفيدون منهم ويقفون على أكتافهم". وينقل "لوكوف" عن أحد هؤلاء قوله: "لا يمكن الانتقال من ظلمات الجهل إلى نور العلم إلا بقراءة وإعادة قراءة كتب القدماء بشغف حي ومتزايد. فلتنبح الكلاب, ولتغمغم الخنازير, فإن ولائي للقدماء سيبقى قائماً, وسأظل منصرفاً إليهم بكل اهتمامي, وسيجدني الفجر كل يوم منهمكاً في قراءة مؤلفاتهم"! والقدماء المعنيون هنا هم العرب ومن خلالهم اليونان يوضح ذلك "لوكوف" الذي ينقل أيضاً عن أحد ممثلي المذهب الإنساني قوله: "نحن أقزام محمولون على أكتاف عمالقة, وإذا كنا نشاهد أكثر مما شاهدوا ونرى أبعد مما رأوا, فليس ذلك لأن بصرنا أحَدُّ أو لأن أجسامنا أطول, بل لأنهم يحملوننا على أكتافهم في الهواء ويرفعوننا بكل طول قاماتهم الهائل".
ويحدثنا الأستاذ الجامعي وأبرز المترجمين الإنجليز من العربية "أديلار أوف باث" (1116-1142) عن مدى ثقة الناس بالثقافة العربية في عهده فيقول: "إن في جيلنا عيباً متجذراً فيه. إنه يرفض جميع ما يبدو أنه صادر من عند المحدثين. ولذلك, فعندما تكون لديَّ فكرة شخصية أريد نشرها بين الناس... فإني أقدمها لهم بصورة تجعلهم يعتقدون أنني استقيتها من دراساتي العربية. أنا لا أريد أن أكون مرفوضاً إذا كان ما أقوله لا يروق للعقول المتخلفة, فأنا أعرف المصير الذي ينتظر العلماء الحقيقيين بين السوقة من الناس, ولذلك تراني أدافع, لا عن قضيتي, بل عن قضية العرب" (نفس المصدر).

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف