ناقد سعودي يتساءل عن دور اليهود في إشاعة التنوير عالمياً
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الرياض - أحمد الزين
هل هو كتاب في مدح اليهود؟ سؤال لا ينفك يواجه قارئ الكتاب الجديد للناقد السعودي سعد البازعي "المكون اليهودي في الحضارة الغربية" (المركز الثقافي العربي - بيروت، الدار البيضاء). فالبازعي يفتّش عن الوجه المضيء لليهود ويقدمه، سالكاً اتجاهاً لم تتعوده الدراسات العربية التي عالجت قضية المفكرين الذين ينحدرون من أصل يهودي. وينزع إلى رؤية هؤلاء المفكرين من دون أن يفصلهم عن يهوديتهم، التي يصر على أن لها أكبر الأثر في ما تشهده الثقافة الغربية من خباب اسهامهم الواضح فيها، كنوع من إثبات الذات.أسماء كثيرة تحضر في الكتاب: سبينوزا، فرويد، ماركس، ميندلسون، دريدا، إريك فروم، هوركمايمر، أدورنو، نادين غوردايمر، كافكا، باول تسيلان، فيليب روث، هاينه، دزرائيلي، هارود بلوم، وآخرون. علماء ومفكرون ونقاد وروائيون وشعراء. بعضهم يفرد لهم فصولاً على حدة، وآخرون يدرسهم في شكل مجموعات، ومنهم من يمر بهم مروراً خاطفاً.
د. سعد البازعي
يطرح البازعي من ناحية أخرى، عبر الإصرار على البعد الإثني، رداً مباشراً على بعض المثقفين العرب، وفي مقدمهم الناقد جابر عصفور، "الذين يجرّدون الفكر ويعزلونه عن متغيرات السياق الثقافي والاجتماعي"، انطلاقاً من قناعة أيديولوجية - خطابية، في رأي المؤلف، تدفعهم إلى عدم التعرض للمفكرين أو المثقفين اليهود من زاوية يهوديتهم، على اعتبار أن الفكر لا هوية له، واصفاً تلك القناعة بـ "رؤية تنويرية تقليدية ترسخت في الثقافة العربية منذ بشّر بها رسل التنوير الفرنسي".
وإذا كان إفراد مساحة واسعة لتتبع الدور اليهودي في الحضارة الغربية الحديثة ليس جديداً، بحسب الكتاب، إذ سبقته جهود كثيرة، غير أنها لم تقارب القضية من الزاوية التي انحاز إليها وعالجها تحليلاً وتأريخاً وتقويماً. فإن الاختلاف الذي قام به البازعي يتحقق في سعيه إلى تقديم رؤية شمولية للمكون اليهودي، "مع الحرص على عدم الوقوع في الاختزال".
يطمح المؤلف من خلال كتابه الضخم (422 صفحة من القطع الكبير)، إلى تحديد طبيعة التأثير الحضاري الذي تركه اليهود في تاريخ الغرب، وإلى الوصول إلى فهم أفضل للتشكيل الحضاري "الرئيس والمهيمن على معظم التشكيلات الكامنة في الثقافات الأخرى"، في محاولة للإجابة عن سؤالين مهمين. الأول: هل هناك حقاً إسهام ثقافي فكري أو إبداعي، يمكن وصفه بـ "اليهودي"؟ والثاني: إن كان هذا الإسهام موجوداً فما حجمه؟ وما أهميته؟ ويرى أن هناك علاقة بين الإسهام الفكري والإبداعي من ناحية، والانتماء اليهودي من ناحية أخرى".
ويتمثل التأثير المباشر للمكون اليهودي في العصر الحديث "في زيادة معدل العلمنة في الحضارة الغربية، ومقاومة التأثير الديني - الغيبي الذي ظل كامناً في المسيحية". ولئن لم يأت اليهود بالتنوير، فهم ساعدوا على انتشاره، "إذ تضافرت جهودهم مع جهود غيرهم في أوروبا في المسعى أو التوجّه العلماني المتزايد للحضارة الغربية".
لكن القول بوجود ذلك المكوّن، لا يعني أن كل من انتمى إلى اليهودية من الناحية الإثنية يدخل في تركيبة ذلك المكوّن. "فمن بين الأعداد الكبيرة من اليهود في المعنى المشار إليه، من ليس جزءاً مما أسميه المكون اليهودي... فهناك علماء في مختلف فروع المعرفة، وأطباء وفنانون وتشكيليون وموسيقيون وأدباء وحرفيون مختلفون، وغير ذلك ممن لم أجد في أعمالهم ما يبرر إدراجهم ضمن الدراسة". هكذا يستثني الكتاب عالماً مثل آينشتاين، وموسيقيين مثل غوستاف مولر وآرنولد شونبرغ، وكُتّاباً مثل نادين غوردايمر، "إما لضعف المؤثر اليهودي في أعمالهم، بحسب علمي، أو لأنني لا أعرف أعمالهم بالقدر الذي يمكّنني من القول بذلك التأثير".
وعموماً يصدر الكتاب عن رؤية تظهر قلقاً واضحاً تجاه ما ترصده وتحلله، حتى وهي تفعل ذلك بكثير من التوازن، "فالحضور اليهودي، كما بدا لمحللين آخرين، لم يكن متحيزاً لفئويته وأقليته فحسب، وإنما كان هجومياً أحياناً في توسيع حضوره، وفي مقاومة التيار العام لثقافات تظل معبأة بمكوناتها الثقافية المغايرة، التي ينمو داخلها ويعبّر عن نفسه من خلالها".
ويلفت البازعي إلى الدور "الهدام" الذي لعبه المفكرون اليهود، ليس في المعنى السلبي إنما الإيجابي، بصفته خروجاً على الإجماع على نحو مبدع. فالمفكر المميز "بطبيعته خارج على الإجماع، ومن كونه "هادماً" لما توارثه الآخرون باستسلام وكسل ذهني، أو بالفرض والتسلط".
لكنه من ناحية أخرى، يحاول تسويق دلالة أخرى لـ "الهدم"، تتمثل في خروج الأقلية وسعيها إلى هدم "التيار السائد أو إضعافه، من حيث هو يشكل تهديداً لها، أو لا يخدم مصالحها، أو لا تستطيع الاندماج فيه". وبناء عليه يبدو اليهودي في الكتاب مطارداً، ليس برغبة التميز المبدع "وإنما برغبة الدفاع عن الذات سواء من خلال المنافحة المعروفة، أو من خلال السعي إلى التغلب على السائد والسيطرة عليه".
تتوزع مادة الكتاب في ثلاثة أقسام، يتناول أولها الأبعاد التاريخية والنظرية للتعرف على الحضور اليهودي، كما يتوقف عند السمات الفكرية التي تشكلت من جراء عاملين، "أولهما الشعور اليهودي بالاختلاف، وثانيهما الموقف أو الفعل الاستراتيجي الثقافي والفكري تجاه ثقافة الآخر الغربي - المسيحي".
وفي القسم الثاني من الكتاب يتوقف عند أربع من أهم الشخصيات، التي بقدر ما أفرزها المكوّن اليهودي، ساهمت بدورها من ناحية أخرى وفي شكل فاعل في صنع هذا المكوّن، وهم: سبينوزا ومندلسون وهاينه ودزرائيلي. ويتضمّن هذا القسم أيضاً مناقشة للكيفية التي نظر بها أعلام اليهود الأوربيين في القرن التاسع عشر الى حضورهم في الثقافة الأوروبية. ويعالج أيضاً الكيفية التي نظر بها عدد من مفكري أوروبا ومؤرخيها وكتابها من غير اليهود إلى الحضور اليهودي وكيفية التعامل معه.
ويكشف القسم الثالث الجانب الأبرز والأكثر تأثيراً في الحضارة المعاصرة، على اعتبار أن المكوّن اليهودي يبلغ في القرن العشرين قمة غير مسبوقة، "مع وصول عدد هائل من العلماء والمفكرين والفنانين وسواهم من ذوي الانتماء اليهودي إلى قمة العطاء والتأثير. والإسهام اليهودي في تشكيل الحضارة الغربية يبلغ في هذه الفترة أوجه". وفي أحد فصول هذا القسم يبرز المحلل النفساني فرويد بما يمثل من حضور هائل في المعرفة الغربية والإنسانية في شكل عام. وتحضر مدرسة فرانكفورت في أحد الفصول، من خلال طبيعة النقد الذي وجّهه بعض أعضائها من اليهود الألمان، إلى التنوير الأوروبي "بصفته صادراً عن إحساس بالانتماء اليهودي وما يواجهه من ضغوط". ويحضر أيضاً المفكر تيودور أدورنو وعلاقته بسمات التفكير أو التناول الذي طغى على المكوّن اليهودي. ويفرد المؤلف فصلاً لجاك دريدا "بصفته حاملاً لـ "جينات" المكوّن اليهودي مشيعاً إياها بقوة وشراسة". الناقد الأميركي هارولد بلوم يحضر أيضاً، من زاوية اتكائه "على موروثه اليهودي الذي يتمثّل في الأرث الصوفي، الذي طوره المفسرون اليهود عبر قرون، وسعى بلوم إلى إبرازه والاتكاء عليه في نظريته النقدية".
أخيراً، لا يخفي البازعي قلقه من "سوء الفهم"، أي النظر إلى كتابه بصفته إما هجوماً على اليهود، وهذا بعيد وليس من الأهداف التي تتغياها الدراسة، أو مديحاً لهم، وهو ما يمكن أن يحصل، أي فهم الكتاب من هذه الزاوية، بخاصة أن المؤلف ساق الكثير من التفاصيل وتوقّف عند أسماء مهمة لامعة، تتمتع بسطوة لا مثيل لها، وقد تجاوز تأثيرها الثقافة الغربية إلى غيرها من الثقافات، اضافة إلى أن المقولات التي يخلص إليها المؤلف، كثيراً ما تأتي في مصلحة اليهود: "فلم يكن ممكناً، مثلاً، فهم أعمال مفكر مثل فرويد، أو شاعر مثل هاينه، من دون قدر من التعاطف والتفهم، بل الإعجاب، أي من دون إدراك قيمة أولئك وغيرهم في تاريخ الحضارة الإنسانية".