فوبيا «الإخوان المسلمين» في مصر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
خليل العناني
لم تصل العلاقة بين النظام المصري وجماعة "الإخوان المسلمين" إلى درجة من التصعيد والتوتر، كما هي عليه الآن. ولم يكن لأحد أن يتصور أن تخرج هذه العلاقة عن معادلتها المعهودة بين الطرفين التي قامت دائما على تجنب الصدام والمواجهة المفتوحة، والمراوحة بين التهدئة والضغط المحسوب.
فقد وصل الأمر أخيراً أن يصرح الرئيس مبارك بأن "الإخوان" يشكلون "خطراً على أمن مصر" ("الحياة" - 12/1)، وبدا الرئيس كما لو كان خائفاً من الصعود السياسي لـ "الإخوان" وتخوفه من أن تتحول مصر نتيجة ذلك إلى "دولة دينية تكرر تجارب أخرى لنظم مجاورة بما قد يفرض العزلة علينا".
وهي لغة جديدة تنسجم مع الخط التصاعدي المستمر ضد "الإخوان" منذ ما يقرب من شهرين، والذي كانت حصيلته اعتقال ما يقرب من 350 عضواً من المنتمين للجماعة، وضرب بنيتها الاقتصادية.
في المقابل اتخذت الجماعة منحى تصاعدياً في علاقتها بالنظام من خلال الإعلان عن نيتها تأسيس حزب سياسي، هو الأول في تاريخ الجماعة منذ نشأتها قبل ثلاثة أرباع القرن، الأمر الذي أثار مخاوف الكثيرين من أن تتبنى الجماعة نهجاً دينياً في العمل السياسي قد يقوض أساس الدولة المدنية.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل حسمت الدولة خيارها تجاه جماعة "الإخوان المسلمين" من خلال اللجوء إلي خيار "الاستئصال" بدلا من التعايش الاضطراري؟ وهل يقوى النظام المصري على تحمل فاتورة هذا الخيار؟ أم أن ما يحدث حالياً هو مجرد تحسين لموقف النظام في أي عملية تفاوضية قد تحدث مع الجماعة في المستقبل؟
يؤشر الموقف الراهن للنظام من الجماعة أن سقف المواجهة لم يعد مقيداً أو محدوداً بخطوط حمر، وأن ثمة تحولاً جوهرياً في هذا الموقف ينضج سياسات أكثر تشدداً تجاه الجماعة، وهو ما يمكن استنتاجه من خلال دلائل عدة، أولها أن النظام يبدو مصراً على استغلال الأخطاء المتكررة للجماعة والتي كان آخرها الاستعراض "الرياضي" العنيف الذي قام به بعض طلاب الجماعة بجامعة الأزهر.
الدلالة الثانية أن التعديلات الدستورية الأخيرة التي طرحها الرئيس مبارك في 26 كانون الاول (ديسمبر) الماضي بدت كما لو كانت استهدافاً مباشراً للجماعة، وضربة استباقية قد تحول دون ممارستها أي نشاط سياسي أو ديني مستقبلاً.
الدلالة الثالثة: لا يخلو التعاطي الأمني "الخشن" مع أعضاء الجماعة من دلالات مهمة ليس أقلها عدم الالتزام بأي سقف شكلاً ومضموناً في التعاطي معها. ولعل الجديد هنا حال الترصد والضغط النفسي الذي تمارسه أجهزة الأمن تجاه المنتمين للجماعة.
رابع الدلالات الحملة "المنظمة" التي تشنها وسائل الإعلام الرسمية على الجماعة، والتي تعيد إلى الأذهان تلك الموجة التي جري تنظيمها إبان الانتخابات التشريعية الماضية، وحققت أثراً عكسياً في تحسين النتائج التي حصلت عليها الجماعة في الانتخابات.
خامسها، ضرب البنية التحتية المالية للجماعة والمرتبطين بها، وفي حين تتحدث وسائل الإعلام الرسمية عن خسائر جاوزت نصف مليار دولار، تتحدث مصادر بالجماعة عن خسائر تكبدتها ناهزت أربعة ملايين دولار فقط، وهي في كل الأحوال خسارة كبيرة للجماعة.
ويأتي إعلان الجماعة عن نيتها إنشاء حزب سياسي كما لو كانت محاولة لتخفيف حملات الضغط المستمرة عليها، وتحويل بوصلة الصراع مع النظام كي يأخذ طابعاً سياسياً محضاً بعيداً عن المنحى الأمني.
وقد أثار الإعلان عن تأسيس حزب للجماعة مخاوف العديد من أعضاء النخبة المصرية، ورآه البعض تهديداً للوحدة الوطنية، وافتئاتاً على مكتسبات الدولة المدنية. في حين وقع البعض الآخر أسير النظرة الرسمية من الجماعة محاولاً الضغط باتجاه اللجوء الى الخيار الاستئصالي.
وحقيقة الأمر فإن ثمة نوعاً من "الفوبيا" تسيطر على الكثيرين تجاه جماعة "الإخوان المسلمين"، ومن دون التقليل من حجم التكلس الفكري والأيديولوجي لدى الجماعة، والذي يظهر بوضوح كلما واجهت الجماعة موقفاً فقهياً أو سياسياً يثبت ضعف خيالها السياسي وعدم قدرتها على التعاطي معه بجرأة، إلا أن هذا الخوف المبالغ فيه قد يأتي على حساب الحياة السياسية المصرية وما أنجزته خلال العامين الماضيين من تقدم ملموس.
الأكثر من ذلك أن يصر البعض على الخلط المتعمد بين الجماعة وغيرها من جماعات العنف الديني التي عرفتها الساحة المصرية طيلة العقود الثلاثة الماضية، في حين يرفض البعض الآخر التعاطي معها بوصفها فصيلاً سياسياً له وجود على أرض الواقع، من دون أن يقدم أحد بديلاً يمكن للجماعة العمل من خلاله.
وما يثير الاستغراب هو موقف بعض المثقفين من الجماعة، ففي حين دافعوا عن حقها في خوض الانتخابات التشريعية الماضية، يحاولون الضغط الآن بهدف منعها من تأسيس حزب سياسي ذي مرجعية إسلامية على غرار كل الأحزاب "الإخوانية" في الدول العربية، وهو ما ينطوي على نوع من "النفاق السياسي" يعيق حركة التطور الديموقراطي في مصر.
تاريخياً يوجد غموض وتردد لدى الجماعة حيال ثلاث قضايا رئيسية تثير المخاوف لدى قطاع عريض من المصريين. أولها يتعلق بموقف الجماعة من الولاية العامة وما إذا كان من حق المرأة أو الأقباط في مصر تولي منصب رئاسة الدولة أم لا. وبالرغم من عدم وجود وثيقة واحدة تبرز موقف الجماعة من هذه القضية سواء سلباً أو إيجاباً، إلا أن متابعة الخط الأساسي للجماعة منذ أن طرحت مبادرتها الشهيرة للإصلاح في 4 آذار (مارس) 2004 تشي بأن الجماعة قد تجاوزت هذه المسألة وأصبحت أكثر تقدماً في فهمها لمبدأ المواطنة وعدم ممانعتها في قبول هذا الأمر، خصوصاً إذا كان تطبيقها من الناحية العملية أمراً صعباً.
القضية الثانية هي موقف الجماعة من مسألة الديموقراطية وتداول السلطة، حيث يتذرع البعض بانقلاب "الإخوان" (والإسلاميين بوجه عام) على الفكرة الديموقراطية إذا وطئت أقدامهم مقاعد السلطة. وهذه مقولة لم تثبت صحتها تاريخياً، فلا يوجد بلد عربي أو إسلامي واحد وصل فيه الإسلاميون إلي السلطة بطريقة ديموقراطية وشرعية وانقلبوا عليها. بل العكس هو الصحيح حيث انقلب العديد من النظم القومية السلطوية على الديموقراطية بعد أن وصلوا إليها بطرق مختلفة. وفي كل الأحوال تصعب محاسبة أي فصيل سياسي، مهما كانت أفكاره، على نياته قبل أن يمارس حقوقه من موقع السلطة.
أما المسألة الثالثة فتتعلق بإمكانية تطبيق الشريعة الإسلامية، وقدرة "الإخوان" على الملاءمة بين مقاصد الشريعة ومنظومة القيم الحداثية من حريات وحقوق مدنية. وفي هذا الإطار يمكن القول إن القضية لا تتعلق فقط بـ "الإخوان" وإنما أيضا بالمؤسسات الدينية الرسمية والتقليدية، والتي تعاني فجوة كبيرة بين نصوص التراث ووقائع الحياة اليومية.
وحقيقة الأمر فإن الاشكاليات الثلاث السابقة لا تقم دليل إدانة لجماعة "الإخوان المسلمين"، بقدر ما هي كذلك بالنسبة للبيئة الفكرية والمناخ السياسي الذي تعيشه مصر منذ أكثر من ربع قرن والذي يعيق تطور أي حركة فكرية باختلاف مرجعيتها الايديولوجية سواء ليبرالية أو قومية أو إسلامية. وليس أدل على ذلك من الفارق الكبير بين الطروحات السياسية والفكرية لجماعة "الإخوان المسلمين" في مصر، مقارنة بنظيراتها في الدول العربية المجاورة، وذلك على رغم أن الجماعة المصرية تشكل المنبع الرئيسي لهذه الحركات. وفي كل الأحوال فإن مهمة ثقيلة تفرض نفسها على أي جماعة تتبنى مرجعية دينية أن تجتهد لحل مثل هذه الإشكاليات وغيرها.
وتبقى ثلاث ملاحظات هامة يجب الالتفات إليها عند التنبؤ بمستقبل العلاقة بين "الإخوان" وبقية أطراف المعادلة السياسية في مصر. الأولى أن ثمة احتمالا بأن يجري توظيف الحملة الراهنة على "الإخوان" من أجل تحقيق "صفقات" سياسية بين بعض أحزاب المعارضة الرئيسية والحزب الحاكم، ما يجهض أي حديث عن الإصلاح الحقيقي في مصر.
والثانية، أن خيار الاستئصال، الذي يروج له البعض الآن، قد يكلف الدولة والمجتمع ثمناً باهظاً، لا يقوى أحد علي سداد فاتورته. وقد يفرز تياراً متشدداً داخل "الإخوان" يصعب التنبؤ بحركته، وقد يخرج في مرحلة من المراحل عن أصول اللعبة المتعارف عليها.
والثالثة، أن ثمة ضرورة ملحة تقع على كاهل القوى الفكرية والمدنية للتعاطي مع جماعة "الإخوان" بوصفها فصيلاً سياسياً وليست مجرد جماعة دينية دعوية، وذلك من خلال ممارسة ضغوط فكرية وثقافية عليها لاجبارها على تجاوز مرحلة الإسلام السياسي والانطلاق نحو تأسيس الدولة المدنية بكامل استحقاقاتها.