موسى في سيارة إسعاف
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
غسان شربل
الإنجاز الذي تحقق في "باريس - 3" ليس عادياً. عبّر صراحة عن قرار عربي ودولي بدعم لبنان اقتصادياً وسياسياً. تستطيع حكومة الرئيس فؤاد السنيورة الحديث عن نجاح فاق التوقعات. نجاح لا تستطيع المعارضة إنكاره مهما سجلت من تحفظات عن الورقة الإصلاحية. لكن باريس على اهميتها هي الشق الأول من الامتحان. الشق الثاني منه سيتم على أرض لبنان. في الشق الأول أكد العالم تصميمه على مساعدة لبنان. الشق الثاني امتحان لقدرة اللبنانيين على مساعدة أنفسهم.
الانهيار الذي شهدته شوارع بيروت في الأيام الماضية ليس عادياً. أظهر عمق الانقسام اللبناني. وهشاشة المؤسسات. وارتفاع منسوب التوتر الطائفي والمذهبي. وحدود قدرة الجيش على التدخل في نزاعات اهلية. وتوافر عدد غير قليل من مستلزمات اندلاع فتنة مذهبية وحرب اهلية.
شاءت الصدفة ان أكون في بيروت في موسم جنونها الأخير. غيوم داكنة ورائحة دواليب محروقة. طرق مقطوعة ومطار معطل. لم تقف المسألة عند هذا الحد. عصي وسكاكين ورصاص. مواطنون يفرون مذعورين. حديث عن عودة الخطف. وعلى الشاشات فتية يتراشقون بالحجارة. إتلاف ممتلكات. ثم ظهرت بقع الدم. تدخل القناصون وأيقظوا فجأة أكثر الذكريات ايلاماً.
ماذا تفعل في يوم من هذا النوع. هل تبتهج بإصرار العالم على مساعدة المريض اللبناني؟ أم تكتئب لإصرار اللبنانيين على معالجة المريض من طريق دفعه الى الانتحار؟ وماذا عساك تكتب؟ هل تعبّر عن غضبك لأن بيروت اليوم لم تتعلم من بيروت البارحة؟ ولأن جنون الأمس هو الذي دفعنا الى تسوّل المساعدات للتغلب على ما خلفته حروب اللبنانيين والحروب في لبنان وعليه من ويلات وكوارث؟ هل تحزن لأن بيروت لم تتعلم من بغداد ومقديشو على رغم كل التحذيرات التي أطلقت من الفتنة وشرور إيقاظها؟
ينتابك شعور عميق بالألم. فهؤلاء الشبان الذين ولدوا بعد الحرب الأهلية السابقة لم يشرح لهم احد خطورة استباحة المؤسسات والقانون والمنطق والمناطق. كبروا على وقع الخطب الحماسية. واحتكار الحق والحقيقة. واتهام الآخر واعتبار اختلافه تهديداً. وقعوا في إغراء فرض قاموسهم وشطب قواميس الآخرين. لم يعلمهم احد سر وجود لبنان وبقائه. وأن تركيبة البلد تفرض الرقص مع الآخرين. ومراعاة مخاوفهم وخطواتهم. وأن التعديل في أصول الرقص يحرق المسرح حين يجيء مفاجئاً وقسرياً وأكبر من طاقة المسرح على الاحتمال.
الحكومة التي نجحت في باريس لا تستطيع انكار انها حكومة ناقصة. نجاحها في بيروت متعذر في غياب من غادروا صفوفها احتجاجاً. تعرف الحكومة ان المعارضة التي يقودها "حزب الله" قوية وتكاد تمثل نصف السكان أو اقل قليلاً. المعارضة التي أظهرت قدرتها على زعزعة الوضع برمته يجب ان تعرف انها في مواجهة حكومة قوية تحظى بدعم نصف السكان أو ما يزيد قليلاً. وتعرف المعارضة ان تعميم الانهيار اسهل من إسقاط الحكومة.
في بيروت التي كانت تعيش في ظل منع التجول شعرت بضرورة حضور سيارة اسعاف بلا تأخير. سيارة إسعاف مدعومة بتفويض عربي ودولي. وأن يحضر على متنها عمرو موسى مستفيداً من حاجة النجاح الذي تحقق في باريس الى توفير مستلزمات ترجمته في بيروت. ومستفيداً ايضاً من دروس الانهيار الذي شهدته العاصمة اللبنانية وهو انهيار لا ينجب إلا خاسرين. لكن قدرة عمرو موسى على مساعدة اللبنانيين مرهونة بقرارهم مساعدة انفسهم. وهو قرار يبدأ بهدنة سياسية وإعلامية واستعداد لتبادل التنازلات بدلاً من اللكمات وسعي الى الإفادة من الحوار السعودي - الإيراني.
مطلوب سيارة اسعاف تقل طبيباً اسمه عمرو موسى. مطلوب تبريد المواقف وترشيق المطالب وعقلنة الطموحات والعودة الى الحوار ولغة منتصف الطريق. من دون ذلك سيتبادل اللبنانيون اللكمات وسيزدادون غرقاً وسيسجلون انتصارات فوق ركام وطنهم.