جريدة الجرائد

هل أخطأ كمال صليبي بخصوص الشيعة ؟

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

يوسف معوّض


عندما كتب كمال صليبي أن لبنان "كوحدة تاريخية، مجموعة من الطوائف المتآلفة ضمن إطار سياسي واحد" كان يعني أن تاريخ لبنان هو تاريخ العلاقات بين الطوائف التي تكونه. كلام استثار المؤرخين "الجدد" من قوميين وماركسيين في أواخر الستينات. فالقوميون السوريون والقوميون العرب بشتى تسمياتهم يعتبرون الأمة واحدة وأنه لا يجوز التوقف عند ظاهرة المِلل، وهي صنيعة الدولة العثمانية لزرع بذور التفرقة بين أبناء الوطن الواحد، فخلقت مشكلة استغلها الاستعمار الغربي باسم سياسة "فرّق تسد" ليسهل عليه لعب دور الحكم بين الأطراف المتناحرة.

في المقابل، كان المؤرخون المنتمون إلى مدرسة الحتمية التاريخية يبحثون بشكل حصري عن صراع طبقات في مفاصل تاريخ جبل لبنان غير عابئين بالهوية الطائفية وبالولاءات الغريزية. وتالياً كان من السهل عند اندلاع الحرب اللبنانية الخلط بين المسيحيين وطبقة الأثرياء من جهة والمسلمين والكادحين من جهة أخرى. ومن تجليات هذا المنظار قيام مفهوم الطائفة - الطبقة وغيرها من غرائب التفسيرات وعجائب الطروحات.
توارى الفكر القومي وصارت الملل الدينية والمذهبية "متحدات" أو "وحدات" جديرة بالبحث من دون حياء، وكذلك غاب الفكر الماركسي وانحسرت مدرسته الفكرية. فالتطورات الأخيرة أعطت الحق كل الحق لتوصيف الأستاذ كمال صليبي وهو خريج المدرسة التاريخية الإنكليزية التي تقارب الأحداث على أنها وقائع ولا تنطلق من مفهوم دوغمائي يفرض تفسيره الحتمي على مجريات الأمور، فتكون النتيجة معروفة مع طرح الإشكالية.

لنعترف أن لكل طائفة في لبنان جواً عاماً غالباً وربما يكون كاسحاً. فإن اعترض عليه بعض المثقفين مثل منى فياض خلال الصيف الماضي (وهذه الاستقلالية الذاتية تشرفها)، فهذا لا يشكل سوى استثناء للقاعدة وهذا لا يحول دون اصطفافات طائفية تعبر عن أكثريات ساحقة يتعرض من يقف في وجهها للتهميش أو التخوين إن لم نقل التكفير.
في مدخل كتابه "تاريخ لبنان الحديث" يرسم كمال صليبي صورة عن خصائص كل طائفة لبنانية وكيف تتميز بها عن أخواتها. فيعالج الطوائف ذات القاعدة الريفية على أنها مختلفة عن الطوائف المنطبعة بالسمات المدينية. والطوائف الريفية الثلاث تتميز بذراع عسكري يتجلى بشكل تلقائي في كل نزاع يدور على الساحة. يقول إن الموارنة عرفوا بالنشاط والاندفاع إلا أنهم ينقسمون على أنفسهم في أحلك الظروف ولأتفه الأسباب. بينما عرف الدروز بالتنظيم الاجتماعي المحكم. وبين هلالين فالحمد لله إذاً أن المسيحيين شبه مجردين من السلاح في هذه الساعات الحالكة وإلا لكانوا أول من لجأ إليه لحل النزاعات في ما بينهم. ولنا في الماضي القريب أمثلة مؤسفة على ذلك. أما الطائفة الشيعية فهي تتميز بنظر الصليبي "بالحذر السياسي وضعف التنظيم الاجتماعي".

تحولات حصلت منذ كتابة هذه السطور ولم يعد هذا الكلام ينطبق اليوم على الطائفة الشيعية التي نظمت صفوفها أيّما تنظيم. واضح أن الشيعة خرجوا من القمقم ولن يعودوا إليه، كما قال في حينه أحد رجال دينهم، إلا أن الانتظام الذي كونته الطائفة بفضل "حزب الله" جعلها تتخلى عن حذرها السياسي المعهود. تحول آخر عاشته الطائفة الموزعة بين الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية وهو اعتماد لبنان وطناً نهائياً على لسان الإمام موسى الصدر، أي أنها تبنت شعار الـ"10452 كلم مربع".

وفي هذا الشأن ما يميزها عن الطائفتين الريفيتين الأخريين. فالماروني إذا "إنحشر" لا بد أن يحلم بالإمارة أو بالمتصرفية وكذلك الدرزي فلا شك في أنه يترحم على الجبل الصغير أو على حدود قائمقامية جنوب نهر بيروت. أحلام يقظة، ربما، إنما قد تدغدغ خيال بعض الفكر الأقلّوي. الدرزي والماروني قد يتنازلان عن بعض الأقضية لتأمين راحة البال وإن كان ذلك بشكل مجازي. أما الشيعي فبماذا يحلم إلاّ بلبنان كامل متكامل؟ باختصار إن كان الموارنة هم ملح لبنان حسب ما قاله ميشال أبو جودة، وإن كان الدروز سر لبنان بما أعطوا من دهاء سياسي، فلا بد أن يكون الشيعة ضمان وحدة الوطن. فالشيعي لم يعرف عصراً ذهبياً في بلاد الشام منذ دولة المماليك وفتاوى ابن تيمية والحملات على كسروان. لا حدود ثابتة تريحه سوى حدود لبنان الكبير التي رفضها في مطلع الانتداب. فليس من الوارد أن يتقوقع شيعة اليوم داخل محافظة أو إقليم، وكل لبنان ملعبهم.

بالنتيجة كيف يكون للشيعة مشروع غير مشروع الدولة الذي لا ينفك الرئيس حسين الحسيني يؤكد عليه. إلا أنه من المفارقة أن ثمة تعارضاً بين الطموح الوحدوي والسلوك التقسيمي. فالشيعة قيادة وقاعدة يطمحون إلى الدولة وفي الوقت نفسه يؤسسون لمربعات أمنية ومناطق نفوذ. هذه الازدواجية تذكرنا بسلوك الموارنة الذين حملوا مشروع حداثة وانفتاح بسعيهم إلى إقامة دولة لبنان الكبير، إلا أنهم في الوقت نفسه عاثوا في البلاد فساداً. فكانوا تالياً عنصراً أساسياً في دكّ أسس الدولة التي هي ضمانتهم.

هل تقع الفاطمية السياسية في الأخطاء التي وقعت فيها المارونية السياسية، وهي (أي الفاطمية) التي حملت على مدى أجيال صوت المقهورين في هذا الشرق؟ مهما قيل، فإن تشبث "حزب الله" بسلاحه سيدفع الفرقاء الآخرين للسعي الى أمن ذاتي. والمربعات الأمنية هنا قد تؤسس لا محالة لمربعات أمنية هناك.

الملفت أن أبرز الداعين إلى الوحدة هم بالذات من يدفع نحو التجزئة والتفكك؟ والمغالاة التي طبعت تاريخ الشيعة ولازمته قد تقودهم إلى المجهول كما أدت المزايدات بالموارنة إلى التناحر والإحباط.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف