جريدة الجرائد

جمال عبد الناصر ذكرى للحاضر والمستقبل

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

الخميس 1 فبراير 2007


الياس سحّاب

وجدت نفسي بشكل طبيعي بين من يتجنبون الكتابة عن جمال عبد الناصر في ذكرى ولادته او ذكرى رحيله (لم أفعل إلا قليلا)، لاقتناع داخلي بأن أعداء الامة العربية وحدهم، والذين يرون من مصلحتهم بقاءها أطول مدة ممكنة (والى الابد إن امكن) اسيرة التخلف المزمن، وفريسة آلية تفكاك وتفتت لا تتوقف، هؤلاء وحدهم يرغبون في تحول عبد الناصر الى مجرد ذكرى، لا تلعب أي دور او حافز في حالة الركود والتدهور المهيمنة على الحياة العربية منذ رحيله.

غير أن الاحداث العربية القائمة التي رافقت هذا العام الذكرى التاسعة والثمانين لولادة عبد الناصر (1918-1970) من السودان الى الصومال الى فلسطين الى لبنان، قد انتصبت مرة واحدة، وبأكثر مما تحتمل مشاعر اي مواطن عربي، نقيضا ليس فقط لمحركات الحياة العربية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في عصر جمال عبد الناصر، بل نقيضا كاملا لاتجاهات التحول الجديد الذي كان سيعيد حراثة الاوضاع العربية عامة، لو قيض للقوات المسلحة المصرية (التي اشرف عبد الناصر شخصيا على تحديثها لاول مرة في تاريخ مصر الحديث) ان تخوض معركة العبور تحت القيادة السياسية لعبد الناصر.

يمكن تقسيم التاريخ العربي المعاصر، بين انهيار الامبراطورية العثمانية في العقدين الاولين من القرن العشرين، والهيمنة الأمريكية العسكرية المباشرة على المنطقة العربية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، يمكن تقسيمه تسهيلا لفهمه: بمرحلة ما قبل عبد الناصر، ومرحلة عبد الناصر، وقد كانت الاقصر (1954-1970)، ومرحلة ما بعد عبد الناصر، الممتدة منذ رحيله وحتى يومنا هذا، والتي لا نشهد علامة واحدة على قرب نهايتها، بل نشهد علامات على استفحالها وامتدادها جغرافيا وتاريخيا.

وبما ان هذا المقال ليس بحثا تاريخيا، اختصر فأقول ان القاسم المشترك بين مرحلتي ما قبل وما بعد عبد الناصر، هو ان العرب المعاصرين يعيشون العصر الحديث، ويواجهون تحدياته السياسية والاجتماعية الاقسى في تاريخهم، ببنى سياسية واجتماعية، يعود اكثرها حداثة (وهو الأقل) الى القرون الوسطى، ويعود معظمها الى ما قبل القرون الوسطى.

غير ان المقارنة لا تكتمل ولا تتميز بالدقة والموضوعية ان لم نسجل افضلية مؤكدة لمرحلة ما قبل عبد الناصر، على مرحلة ما بعد عبد الناصر، تتمثل في أننا كنا في النصف الاول من القرن العشرين، نتوجه نحو امتلاك بعض من البنى السياسية والاجتماعية الحديثة، صحيح ان الخطى كانت بطيئة جدا، وان الانجازات الشكلية (خاصة السياسي منها) كانت تطغى على الانجازات الجوهرية العميقة، لكنه كان على اي حال تحرك الى الامام.

أما اليوم، فتكفي مقارنة دقيقة، وفي أي حقل من الحقول بين تفاصيل الحياة العربية في المرحلتين، لنكتشف اننا في مرحلة ما بعد عبد الناصر، لم نعجز فقط عن المحافظة على ما تم انجازه من تحول (على تواضع حجمه التاريخي) لكننا نسير به الى الوراء، سيرا حثيثا، لا يمكن، في حال استمراره، ان يؤدي الى غير التهلكة.

وأكتفي في هذا المقال بمقارنة سريعة لمزيد من الايضاح، في حقلين مختلفين من حقول الحياة العربية العامة: الثقافة والسياسة.

في الثقافة، يكفي ان نقارن بين مستوى الموسيقا العربية والغناء العربي في النصف الاول من القرن العشرين، والمستوى المهيمن منذ ثلاثة عقود.

في السياسة نكتفي بالمقارنة بين سلوك مختلف مكونات الشعب العراقي وهي تواجه الاحتلال الانجليزي في العشرينات، وسلوك مختلف هذه المكونات ازاء الاحتلال الأمريكي للعراق، منذ ثلاث سنوات.

لقد لمعت مرحلة عبد الناصر منذ تسلمه مقاليد الحكم الفعلية في العام 1954 وحتى رحيله، حالة استثنائية من تدفق مفاجئ للحيوية التاريخية في شرايين الامة العربية، استحضارا وتفعيلا لكل عناصر قوة اندفاعها وتبلورها الحضاري عبر التاريخ، وذلك عبر مجموعة من القرارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، اوجدت حالة نادرة من التكامل والتماهي بين الحيوية الشعبية والاجتماعية من جهة، والقيادة السياسية من جهة أخرى. لكن النقص الاساسي في تلك التجربة، كان في تأخر وتيرة تحديث البنية السياسية- الاجتماعية (ولو داخل نظام عبد الناصر وحده، كنموذج عربي) بحيث تصح هذه البنية الحديثة قادرة( بوجود الزعيم، وبعد رحيله)، كما في كل الدول المتقدمة، على تصويب توجهات القيادة السياسية عندما تخطئ، وازاحتها واستبدالها تماما، عندما يلزم الامر، كما يحصل امام عيوننا في كل دول العالم المتقدم.

من المؤكد (ومن الثابت في وثائق مرحلة ما بعد النكسة) ان جمال عبدالناصر كان الوحيد في نظام حكمه الذي يحمل هذا الهم (عكس ما يعتقد البعض ويشيع البعض ويزعم البعض الاخر)، لكنه بدأ التفكير الجدي بذلك متأخرا، بعد هزيمة ،1967 أي بعد ان ضربت سلبيات التأخر في تحديث البنية السياسية، معظم ايجابيات المرحلة الاستثنائية، وجاء رحيل عبد الناصر المفاجئ، قبل استكمال المهمتين: مهمة العبور، ومهمة تحديث البنية السياسية، واطلاق تجربة المجتمع المفتوح وتبادل السلطة بين المعارضة، والحكم (حسب عبارات عبد الناصر نفسه، واعتراضات كل من انور السادات وعلي صبري يومها)، جاء الرحيل المفاجئ لا يكمل ضرب ما تبقى من ايجابيات مرحلة عبد الناصر، بل يعطل (حتى اشعار آخر) اي قدرة لهذه الايجابيات (ولو معنويا وفكريا) على لعب دورها المطلوب بعد رحيل القائد العربي الاستثنائي.

فقط، تخيلوا لو ان الحدود بين مصر وقطاع غزة، ما زالت تخضع لقيادة سياسية تحمل كامل توجهات تلك المرحلة، بل تخيلوا ميزان القوى الاستراتيجي الفعلي بين العرب وrdquo;اسرائيلrdquo;، لو استعادت مصر كامل دورها داخل الصراع، وليس على هامشه؟

ليس صحيحا إذن ان عبد الناصر قد تحول الى ذكرى عابرة، إن ما يحدث في جميع ارجاء الوطن العربي اليوم، وليس فقط في المواقع التي استشهدنا بها، يستدعي استحضار الزخم الايجابي الهائل الذي كان ملك ايدينا في مرحلة عبد الناصر، الذي فقدناه لأننا لم نلتفت يومها بالسرعة المطلوبة، الى اقتحام مجال امتلاك البنية السياسية والاجتماعية الحديثة، قبل ان يعود التخلف ليفترسنا، ثم يطرحنا لقمة سائغة، كما نحن اليوم، في اشداق الغول الامبراطوري المفترس.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف