جريدة الجرائد

المسلسلات التلفزيونية.. موديل طفيلي جديد

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك


د. سّيار الجميل


يمر بنا شهر رمضان الفضيل هذا العام مع حالة جديدة لم نألفها سابقا بغزو ظاهرتها مجتمعاتنا العربية قاطبة. ولم أجد أي دراسة جادة لها في حياة الثقافية حتى الآن. ان تاريخ المسلسلات التلفزيونية درامية أو ميلو درامية يعود إلى مصر منذ أكثر من ثلاثين سنة مضت من وجود محطات التلفزيون في بلداننا وهو بالأبيض والأسود.

والحقيقة، انها لم تكن تجارة يتنافس من اجلها المنتجون والفنانون وتدخل في خفاياها رؤوس أموال خاصة وشركات متنوعة، والأمر ليس جديدا حتى على الثقافات الأخرى في العالم، ولكنها هناك، لم تشكل ظاهرة بارزة للعيان في أي مجتمع على الأرض مقارنة بما غدت عليه في محيطنا العربي وثقافتنا التي غدت تهتم بالمسلسلات التلفزيونية بشكل خاص، وهذا من اخطر ما تواجهه الأجيال في المستقبل.

انني لست ضد اي إنتاج فني سينمائي أو إبداع تلفزيوني عربي، بل اعتقد ان الفن السابع يشكل اليوم واحدا من أروع مظاهر العصر، وخصوصا إذا ما استغل بطريقة ذكية وعلمية حقيقية لبناء المجتمع ومعالجة قضاياه وإحياء ذاكرته وتطوير رؤاه وإنعاش ذوقه، كي يكون ظاهرة ثقافية حقيقية لا تجارية طفيلية بائسة،مهمته سلق الأعمال التافهة لنهب الأموال، وقتل الزمن، وإعاقة الإنتاج، وزرع الخمول والكسل، وتشويه القيم..

تنعكس كل هذه السلبيات على مجتمعاتنا التي هي بالأساس تمر بمخاضات صعبة من التحولات القيمية. انها بأمس الحاجة اليوم إلى قيم جديدة تراعي فيها الاستجابة الذكية والمخلصة لكل تحديات العصر وتدرك كيفية معالجة مشاكله ومعضلاته بوسائل إعلامية وثقافية وخصوصا توظيف الدراما والكوميديا بشكل عالي المستوى، لقد تفوق التلفزيون على أي وسيلة أخرى من وسائل هذا العصر كونه اخترق كل الجدران والمسافات والأسوار والحدود ودخل بالشاشة الصغيرة إلى كل بيوتنا وجلس حتى في مخادعنا، بل وأصبح جزءا لا يتجزأ من حياة أي إنسان في هذا العالم، فكيف بمجتمعاتنا العربية التي تلتصق بالشاشة ملايين الناس صباح مساء؟!

قرأت قبل أيام قلائل ونحن نعيش الشهر الفضيل النص التالي الذي آمل ان نتأمل فيه طويلا كي نناقشه لنرى اين موقعنا نحن من حياة العصر أولا وأين نحن من حياتنا وثقافتنا ثانيا.. يقول النص: "تغزو الشاشة الصغيرة مع حلول شهر رمضان هذا العام عشرات المسلسلات التلفزيونية المصرية التي تتميز بحضور قوي للنجوم والمخرجين العرب.

فقد تم إنتاج ما لا يقل عن 80 مسلسلا بمناسبة رمضان بينها 40 من مصر وما يوازيها من المسلسلات السورية التي ستنافسها بشدة على جذب أكبر عدد من المشاهدين. ويقول احد ابرز كتّاب السيناريوهات لتلك المسلسلات مستطردا: "ان هذا العدد الكبير من المسلسلات التي تم إنتاجها مقارنة بالأعوام الماضية يعود إلى "اتجاه رأس المال الخاص ورأس المال الخليجي والقنوات الفضائية العربية إلى إنتاج المسلسلات الدرامية والتركيز على ان تكون جيدة مع نجوم متميزين لجذب شركات الإعلان بأسعار عالية خلال عرض المسلسلات على الشاشة الصغيرة".

ثمة ملاحظات ينبغي علي تسجيلها من اجل ما يمكن تقويمه أو عمله أو تصويبه:

1) ليس العبرة في الكم من المسلسلات التلفزيونية، ولكن المهم بما يمكن ان تتضمنه من معالجات لقضايا مهمة وحيوية تعيشها مجتمعاتنا كلها.. ويؤسفني القول إن اغلب "المسلسلات" تضّم مواد تافهة ومستهلكة وتشكّل عروض حلقاتها مضيعة للوقت.. ونحن ندرك كم هو الزمن ثمين جدا في حياة المجتمعات قاطبة.

2) لقد غدت ظاهرة المسلسلات التلفزيونية تجارة طفيلية رابحة، ممّا أثّر كثيرا على مستويات ما يقدّم من أعمال.. ويقال ان التعاقدات مع فنانين معينين بالاسم تبلغ الملايين، وان المسألة ليست ذات مصداقية حقيقية في خدمة مجتمعاتنا وتطورها بقدر ما غدت هذه التجارة للأسماء والإعلانات والعروض بأسعار غالية جدا.

3) صحيح ان هذه الظاهرة التلفزيونية قد تبلورت اثر ثقل الظاهرة السينمائية منذ زمن بعيد في مصر، وخصوصا رفقة الثورة الإعلامية التي عاشتها مصر ابان الستينيات.. ولكنها حملت مضامين تافهة في اغلب الأحيان تضر المتابعين والمشاهدين وحتى يومنا هذا.. لم تزل المضامين قاصرة ولا يمكنها ان تقدم شيئا جديدا إلى الحياة.

4) لعل من أهم ما يمكن رصده من أفلام المسلسلات تلك التي تعالج ذاكرتنا التاريخية بكل ما فيها من حالات وشخصيات وموضوعات تاريخية.. واعتقد ان مسلسل الملك فاروق الذي يعرض حاليا قد غطى موضوعه جيدا في التعرّف على سيرة ملك أضاع عرشه مع متابعة مختزلة لحياة مصر السياسية.. ولكن ثمة أعمال كلها استنساخ ومسوخات لا معنى لها ابدا، وان ضررها على المجتمع كبير جدا.

5) ان الإدمان الاجتماعي لمشاهدة المسلسلات هو نوع من الهروب نحو الشاشة الصغيرة، وان "الادمان" خطير جدا، فهو يعبث بالزمن ويبث الخمول وينحرف بالذاكرة وبالرغم من قوة الانتقادات التي توجه دوما لمسلسلات معينة، إلا أن المنافسة الشديدة لا تمس عصب المضامين بقدر ما تقف عند نخبة من الفنانين المستحوذين على سوق المسلسلات.

وأخيراً أقول، إن ثورة الإعلام المرئي لم تخلق من اجل ان يستحوذ عليها تجار المسلسلات التي لا يمكن تصنيف اغلبها على الفن الدرامي مسرحيا كان ام سينمائيا، فثمة هشاشة في الفن، وهزال في الحوار، وأخطاء في المعلومات، وتشتيت للزمن وإفساد للذوق.. مع نقص للنقد الفني التلفزيوني.

فمن يتنبّه إلى هذا الوباء الذي بإمكاننا تحويله إلى مدرسة حضارية وإبداعية حقيقية تسعى لإغناء مشروع التقدم الاجتماعي والبناء الثقافي في حياتنا وتنمية قدراتنا وأدوارنا في عالم اليوم؟ من يشاركني هذه الهموم التي لا تنحصر في شهر فضيل كرمضان ولكنها تجارة طفيلية لا تستقيم وقيمه المباركة !

مؤرخ عراقي

www.sayyaraljamil.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف