التلهي من جديد في اللعبة القديمة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
خالد الدخيل
أي متابع لما يسمى بـ"عملية السلام" في المنطقة سوف يصاب بالدهشة من التعاطي العربي الجاد مع فكرة المؤتمر الذي يفترض أن يعقد في نوفمبر القادم، وفي مدينة "أنابوليس" الأميركية. يُقال إنه مؤتمر من أجل السلام، أو لتحقيق السلام، من دون وضوح إن كان سلاما بين العرب وإسرائيل، أم بين الفلسطينيين وإسرائيل. وليس واضحا أيضاً ما هو الهدف النهائي للمؤتمر: هل هو للتوصل إلى وثيقة سلام نهائي ترتكز على جدول زمني محدد؟ أم مجرد محاولة لإحياء مفاوضات السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين؟ الشائع وهو الأرجح أن الهدف النهائي لهذا المؤتمر لا يتجاوز تلميع صورة إدارة بوش المتدهورة في الداخل والخارج، وتأمين إطار سياسي لتحقيق مزيد من الاعترافات العربية بالدولة اليهودية.
الغريب في الأمر أن الإسرائيليين قبل غيرهم غير متحمسين لفكرة المؤتمر. رئيس الوزراء الإسرائيلي، أولمرت، يعلن بشكل مستمر أنه غير معني بأكثر من اتفاق مبادئ عام مع الفلسطينيين، ومن دون الارتباط بأية جداول زمنية. بل إنه يؤكد على أن التوصل لمثل هذا الاتفاق لا يمثل شرطاً مسبقاً لانعقاد المؤتمر. نقلت صحيفة "يديعوت آحرونوت" الإسرائيلية على موقعها الإلكتروني يوم الأحد الماضي تصريحاً لافتاً لأولمرت يقول فيه حرفياً: "ينبغي للمفاوضات مع الفلسطينيين أن تقود إلى قيام دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، لكن من دون تحديد جدول زمني صارم لمتى تبدأ هذه العملية ومتى تنتهي". بعبارة أخرى، يريد أولمرت مفاوضات مفتوحة ولا نهائية مع الفلسطينيين، أو مفاوضات من دون هدف محدد، ومن الالتزام بمواعيد محددة. ليس في هذا التصريح من جديد، فهو يمثل جوهر السياسة الإسرائيلية منذ ما قبل عملية السلام. الشيء الجديد فيه هو أنه يأتي قبيل مؤتمر "آنابوليس". وفي الوقت نفسه أيضاً، أي قبيل المؤتمر، تعلن حكومة "أولمرت" مصادرة ألف ومائة دونم من الأراضي الفلسطينية المحيطة بالقدس لأغراض استيطانية، أو الاستمرار في عملية تهويد القدس. وهذا هو ترجمة جوهر السياسة الإسرائيلية: مفاوضات لا نهائية تمثل غطاء سياسياً لاستمرار مصادرة الأراضي الفلسطينية. الصحيفة نفسها تنقل عن وزير الدفاع الإسرائيلي، إيهود باراك، ووزير التجارة، "إيلي يشاي"، قولهما لوزيرة الخارجية الأميركية، كوندوليزا رايس، أثناء زيارتها الأخيرة لتل أبيب بأن إسرائيل ليست جاهزة لأية تنازلات حالياً. وتنقل عن باراك قوله لرايس "يجب أن يتضمن إي اتفاق في المستقبل بقاء إسرائيل في الضفة الغربية لأغراض أمنية". بعبارة أخرى، وزير الدفاع، وهو من حزب "العمل"، يعارض فكرة المؤتمر.
إذن إسرائيل الرسمية ليست متحمسة لفكرة مؤتمر "آنابوليس"، وخاصة إذا كان سيتجاوز حدود كونه لقاء للعلاقات العامة، وللحصول على اعترافات عربية أخرى إلى جانب اعتراف مصر والأردن وموريتانيا. فلماذا يتعاطى العرب مع فكرة المؤتمر بشكل جاد. من ناحية أخرى، ماذا عن الرأي الإسرائيلي غير الرسمي؟ هذا تعكسه الصحافة الإسرائيلية، وتحديداً في أعمدة التحليل السياسي للكُتاب الإسرائيليين. أحدهم، وهو "أكيفا إلدر"، كتب في الـ"هآرتس" الإثنين قبل الماضي يقول بأن شهر نوفمبر يمثل موعداً مشؤوما في التاريخ الفلسطيني. في نوفمبر 1917م صدر وعد بلفور. وفي نوفمبر 1947م صدر القرار الدولي بتقسيم فلسطين. وفي نوفمبر من عام 1977م ذهب السادات إلى القدس المحتلة. يضاف إلى ذلك أنه في نوفمبر عام 2004م مات رمز الثورة الفلسطينية، ياسر عرفات، مسموماً على الأرجح من قبل المخابرات الإسرائيلية. ماذا عن نوفمبر عام 2007م؟ يقول "إلدر" إن هذا الشهر قد يضاف إلى تلك القائمة الحزينة، لكن الفشل هذه المرة سيضاف إلى قائمة الفرص التي أضاعتها الحركة الصهيونية.
ينطلق في ذلك من معطيات عدة. أولها أن مفاوضات عباس ـ أولمرت كشفت أن إتفاق سلام في متناول اليد. ثانيا أن العرب، وفي مقدمتهم الفلسطينيون قبلوا بمبدأ تقسيم الأرض على أساس حدود 1967م. ثالثاً أن العرب والفلسطينيين يرفضون بشكل نهائي التخلي عن مبدأ السلام مقابل استعادة أراضي 1967م. رابعاً أن مبادرة السلام العربية لا تسلم فقط بحق إسرئيل في الوجود ضمن حدود 1967م، بل تعرض التطبيع مقدماً بما يسمح لإسرائيل أن تدخل نادي الشرق الأوسط. خامساً أن صياغة حل قضية اللاجئين والحدود والقدس في المبادرة جاءت مرنة بما يسمح بأن يكون حلهما متوافقا عليه بين الطرفين. سادساً أن مؤتمر "آنابوليس" هو الأول في تاريخ الصراع الذي ينعقد بغطاء عربي. لكن رغم كل ذلك يردد الكثير من السياسيين الإسرائيليين بأن "الوقت لم يحن بعد للحل النهائي". يعلق الكاتب الإسرائيلي على ذلك قائلاً "ليس بإمكان هؤلاء السياسيين ضمان أن العرض العربي سيكون بعد سنة، أو سنتين أو حتى عشر سنوات، أفضل من ذلك، هذا مع افتراض أنه سيكون هناك عرض أصلاً." ثم يضيف بأن أولئك السياسيين الإسرائيليين لا يستطيعون أن يعدوا أحداً بأن تحقيق العرب لقطيعة واضحة مع تقليد نوفمبر سوف يكون موجوداً إذا انتهى مؤتمر "آنابوليس" من دون اتفاق مبادئ على أساس من روح المبادرة العربية، ومن دون جدول زمني معقول وملزم. كاتب آخر، "ياؤل مرقص"، وفي الصحيفة نفسها، لا يرى أملاً في أن السلام سوف ينبثق من مؤتمر "آنابوليس". وذلك للسبب التقليدي نفسه من أن القيادات السياسية على الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني هي من الضعف السياسي بحيث لا تستطيع أن تكون في مستوى متطلبات اللحظة الراهنة.
هناك كتاب آخرون لا يختلفون في تشاؤمهم، وإن لمنطلقات وأسباب مختلفة. وهناك كتاب يشاركون أغلب السياسيين الإسرائيليين في معارضتهم للمؤتمر. والحصيلة النهائية أن الموقف الإسرائيلي بشكل عام، وتحديدا الموقف الرسمي، يرفض فكرة المؤتمر جملة وتفصيلاً، وفي أحسن الأحوال لا يأخذها بشكل جاد. أضف إلى ذلك أن الموقف الأميركي من الرفض أو التردد الإسرائيلي حيال المؤتمر يتسم بالرخاوة وعدم الجدية، هذا رغم أن فكرة المؤتمر هي في الأساس فكرة أميركية. موقف الإدارة هذا يعكس المأزق الذي تعاني منه: انحياز أعمى لإسرائيل، وتورط مدمر في رمال العراق، وانتخابات رئاسية على الأبواب، والتزام بمصالح أميركا مع أصدقائها العرب. الإدارة تعرف أن موقفها يشكل غطاء للمماطلات الإسرائيلية، وهي مماطلات لا تنتهي. والحقيقة أن هذه الإدارة توفر هذا الغطاء بشكل واع ومقصود. ماذا عن رؤية الرئيس بوش حول "الدولتين"؟ في أحسن الأحوال الرئيس ليس جاداً في ذلك. مقابل رؤيته هذه يقدم كل الدعم المادي والسياسي والعسكري للسياسات الإسرائيلية على الأرض، وهي سياسات تنسف تلك الرؤية من أساسها. موقف الرئيس متناقض. وليس هناك من تفسير لهذا التناقض إلا أنه غير جاد في رؤيته، بل الأرجح أنه في هذه الرؤية يمارس نوعاً من التكاذب السمج مع العرب، ومع المجتمع الدولي.
لماذا تعارض إسرائيل فكرة المؤتمر؟ كلام أولمرت في بداية المقال، أو القول بأن "الوقت لم يحن للتوصل إلى سلام نهائي" مع العرب. يعتقد الساسة الإسرائيليون بأن الزمن في صالح إسرائيل. عام 1948م، أعطى قرار التقسيم الدولي 53% من أرض فلسطين لليهود. الآن تستولي إسرائيل على 78%. كان العرب يرفضون الاعتراف، والتفاوض والتطبيع، ثم انقلب الموقف. بعضهم اعترف وفاوض وطبّع حتى قبل السلام. ومنذ 2002م تقدم العرب بمبادرتهم المشهورة. انقلبت الآية. كانت إسرائيل هي التي تصرخ في كل مكان بحثاً عن أي عربي مستعد للحديث معها. الآن أصبح العرب هم الذين يصرخون في كل العواصم العالمية، وفي الأمم المتحدة لإقناع إسرائيل بالسلام. إسرائيل تريد الضفة تحديدا، أو أغلبها على الأقل. وقبل أن تحصل على تنازل فلسطيني مكتوب بالتخلي عن الضفة، لن تفكر في حل نهائي مع الفلسطينيين. وهذا هو مغزى كلام أولمرت السابق من أن المفاوضات يجب أن تؤدي إلى دولة فلسطينية، لكن من دون مواعيد زمنية، أو جداول ملزمة. وأثناء ذلك تستمر الدولة العبرية في مصادرة الأراضي الفلسطينية على دفعات. ومن هنا الدهشة من الموقف العربي. اشترط العرب أن يتضمن جدول أعمال المؤتمر القضايا الجوهرية المتعلقة بالحل النهائي للقضية الفلسطينية. لكنهم يعرفون أن هذه القضايا كانت على جدول أعمال كامب ديفيد الأولى والثانية، و"أوسلو"، وخريطة الطريق، ومع ذلك تملصت إسرائيل بمساعدة أميركية من كل التزاماتها. وهنا المأزق. أميركا تساير إسرائيل، لأنها تريد ذلك، والعرب يسايرون أميركا، وهم لا يريدون ذلك. وبين هذا وذاك يستمر التلهي باللعبة القديمة ذاتها.