ذكرى غاندي... دروس في النضال
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
د. عبدالله المدني
العظماء شأن المهاتما غاندي تظل ذكراهم عطرة متجددة لا تبهت بتقادم الزمان. والهند في احتفالاتها اليوم بذكرى هذا العظيم، لا تتذكر بالفخر من استطاع أن يحول ضعف شعبه وقلة حيلته أمام جبروت المستعمر إلى قوة متدفقة فحسب، وإنما تتذكر أيضاً القيم النبيلة التي جسدها بزهده وتواضعه وتسامحه وانفتاحه وصبره، والتي استطاع عبرها تعرية المستعمر وإحراجه أمام ضمائر العالم. تلك القيم التي تستحق منا العودة إليها اليوم وتأملها، خاصة مع استشراء العنف في عالمنا بصورة غير مسبوقة.
الكثيرون منا يقترن عندهم اسم غاندي بالمقاومة السلمية فحسب، رغم أن سيرته مليئة بجوانب وضاءة أخرى كثيرة. بل إنهم حتى من هذه الزاوية بالغة الأهمية لعالم عربي لا تختلف أوضاعه الراهنة كثيراً عما كانت عليه أوضاع الهند في بدايات القرن المنصرم لجهة العجز والإحباط،، يجهلون أو يتجاهلون الأسس الفلسفية لحركة غاندي وما تميزت به من خصائص فريدة، ربما لأسباب ذات علاقة بدين صاحبها أو فكره المتعارض مع الفكر الأيديولوجي الطاغي على مجتمعاتنا.
كانت الهند في بدايات القرن العشرين، كما وصفها "جواهر لال نهرو"، مجتمعاً بالغ اليأس والإحباط، وشعباً لا يملك قوت يومه، وبلداً يتحكم الأجنبي في مفاصله. واستمر هذا الوضع طويلاً إلى أن بزغ نجم غاندي العائد إلى وطنه من جنوب أفريقيا وهو مسلح بقراءات فلسفية متعمقة ومختلفة المصادر حول العمل الجماعي وكيفية الرد على استفزازات الخصم وعنفه في مجتمع لا طاقة له على تحمل ردود الأفعال العنيفة، معطوفة على تجربة عملية فريدة في مقاومة التمييز العنصري وحياة العبودية.
ولئن بدأ غاندي مشواره في الهند بمحاولات إقناع المستعمر بالإصلاح واستثارة ما كان يطبقه في بلده من قيم العدالة والديمقراطية والحرية، فإنه سرعان ما اكتشف أن الحوار والصبر لا فائدة منهما، لاسيما بعد مذبحة "جاليان والا باغ" التي حصد فيها المستعمر أرواح 1300 مواطن أعزل كانوا يحتفلون بعيد رأس السنة الهندوسية. كان بإمكان الرجل وقتذاك أن يستغل موجة السخط المتولدة من تلك الحادثة في ارتداء لباس الزعيم الثوري ودعوة شعبه إلى حمل السلاح وسفك الدماء ومقابلة العنف بالعنف وفق مبدأ العين بالعين والسن بالسن، وأن يغرق وطنه بالتالي في حمام من الدماء ومسلسل من التدمير والفوضى يكون ضحاياه بالدرجة الأولى هم مواطنوه الفقراء، على اعتبار أن كفة الخصم كانت هي الراجحة. غير أنه أبى أن ينساق وراء العواطف، مفضلاً الاستسلام لفكرة أن العنف إن بدأ فلن يتوقف، وإن توقف في النهاية فسيخلف وراءه ثقافة عنيفة وجداراً منيعاً من الأحقاد.
وهكذا قام غاندي بتسويق فكرة "الساتياغراها" المعتمدة على التزاوج ما بين الحقيقة (ساتيا) والحب (أغراها)، كمرادفين للقوة. ومن هذه الفكرة استنبط مبدأ المقاومة اللاعنفية، باذراً بذلك البذرة الأولى لحركة شعبية جماهيرية ستتوسع وتتعدد وسائلها السلمية وينحني لها العالم احتراماً.
كان على غاندي قبل أن يطلب من مواطنيه التحرك أن يحررهم أولاً من الخوف، سواء الخوف من أجهزة المستعمر القمعية، أو الخوف على النفس ولقمة العيش والمصالح الذاتية. كما كان عليه أن يحرر طاقات نساء الهند من خوف التمرد على التقاليد البالية المقيدة لخروجهن إلى الحقول والمعامل والشارع. وقد نجح في ذلك عبر إشعار مواطنيه بأن كرامتهم مُداسة وحقوقهم مستباحة وثقافتهم مهانة، مكرراً على مسامعهم "إن الإنجليز موجودون هنا ليس بسبب قوتهم، وإنما بسبب ضعفنا وخوفنا وتشتتنا".
وما أن تحقق له ذلك حتى طالب شعبه بالانتقال إلى المرحلة التالية التي لم تكن سوى مقاطعة مؤسسات المحتل وتنظيماته ومعاهده وبضائعه، والاعتماد بدلاً من ذلك على الذات في كل شيء. وقتها شكك الكثيرون، بما فيهم بعض رفاقه، بجدوى هذا العمل. لكنهم سرعان ما غيَّروا موقفهم، ولاسيما بعد نجاحه في عام 1930 في قيادة مسيرة جماهيرية لأربعة وعشرين يوماً إلى ساحل البحر في داندي (على بعد نحو 240 ميلاً) من أجل التقاط الملح وتحدي القانون الذي كان قد سلب المواطن الهندي حق صنع الملح لنفسه من بحار وطنه.
ويمكن قول المزيد عن تجربة غاندي، إلا أننا سنكتفي باستعراض أهم معالمها، مع شيء من المقارنة مع طرق وأساليب حركات المقاومة العربية:
- قامت تجربة غاندي في المقاومة على اللاعنف كما أسلفنا. وكان من رأيه أنه "إذا كان المستعمر متوحشاً، فلا يجب أن ننافسه في توحشه، ولنثبت للعالم أننا أصحاب حضارة وسلوكيات أرقى". وبذلك انتزع من الخصم ورقة الرد العنيف المبررة بالدفاع عن النفس، الأمر الذي حظي معه نضال الهنود بدعم واحترام كل القوى المحبة للسلام في بلد الخصم وغيره من بلدان الغرب. ولو أن غاندي في نضاله تمنطق بالسيوف أو وزع الخناجر ودعا شعبه إلى الخطف والعمليات الانتحارية وجز أعناق العدو وعرضها على الملأ لما تجذرت صورته في الفكر الإنساني.
- لم يكن غاندي يقصد، حينما دعا مواطنيه إلى مقاطعة المستعمر، أن بمقدور الهنود إفقار الخصم وتحطيم اقتصاده، إنما كانت المقاطعة بالنسبة إليه عملاً رمزياً لبعث الإرادة والعزيمة الضروريتين لصنع المعجزات. وهكذا مثلاً دارت مغازل القطن اليدوية في كل مكان على امتداد الهند لتوفر البديل للمنتجات الأجنبية، ولتشكل أصواتها الهادرة بالتزامن "أجمل نشيد وأحلى نغمة من أنغام الحرية" على حد وصف نهرو. وكانت المحصلة أن شعر الهنود لأول مرة بسريان روح الكبرياء والعزة في نفوسهم.
- آمن غاندي بأن أية فكرة لكي تنجح جماهيرياً، لابد من اقترانها بالقدوة الحسنة. لذا فإنه حينما دعا إلى المقاطعة بدأ بنفسه، فهجر ملابسه الأوروبية وتخلى عن عمله كمحامٍ أمام محاكم الهند البريطانية، واكتفى من الطعام بحليب ماعزه، ومن الكساء بما يدره مغزله من قماش لستر العورة. وهو في هذا يختلف بطبيعة الحال عن دعاة المقاطعة عندنا ممن يطلبون من الناس الانصراف عن منتجات أميركا والغرب ومؤسساتهما بينما هم أول من يبعث بأولاده إلى جامعاتهما، وأول من يحتفظ بأمواله في مصارفهما، وأول من يستمتع برفاهية منتجاتهما.
- على العكس مما يفعله أصحاب "المقاومة" عندنا، حرص غاندي على ألا تصطبغ مقاومته بصبغة طائفية أو أثنية أو جهوية، فلم يستثنِ أي مكون من مكونات الشعب الهندي من شرف الاشتراك فيها، ولم ينسب أي نجاح حققه لطائفته الهندوسية وحدها. إلى ذلك تجنب التعرض بالسخرية لعقيدة المستعمر أو الطعن في قيمه أو مهاجمة شعبه بلغة التعميم تحت ضغط العواطف، فضمن بذلك تعاطف الكثير من القوى والمنظمات البريطانية والغربية.
- كان غاندي واقعياً يعرف قدر نفسه وتواضع قدرات شعبه مقارنة بإمكانيات الخصم، فلم يشأ توريطه في ما لا يقدر عليه مثل الحرب الشعبية المسلحة، ولم يشأ أن يدغدغ عواطفه بالعنتريات والشعارات البراقة والوعود الخيالية، على نحو ما يفعله بعض رموزنا الشعبية ممن يلجأون في غمرة حماسهم إلى قول أشياء مجافية للمنطق مثل: "يا أمة المليار مسلم، لو أن كل واحد فيكم بصق على إسرائيل بصقة واحدة بالتزامن لتشكل نهر جارف يزيلها من الوجود".
- رغم دوره الكبير في تحرير الهند من المستعمر لم ينصب غاندي نفسه زعيماً لشعبه. فقد ظل حريصاً على القول إنه مجرد واحد من ملايين الهنود البسطاء، وإنه لا يختلف عنهم ولا يريد لنفسه شيئاً. وهذا أيضاً يختلف عما يجري عندنا من تنافس البعض للبروز كزعيم لا شريك أو صنو له في الوطنية والإخلاص والنزاهة.
لقد أصاب شاعر الهند الأكبر طاغور حينما خاطب غاندي قائلاً: "إن كلامك بسيط يا سيدي، وليس بسيطاً كلام أولئك الذين يتحدثون عنك". نعم كان غاندي بسيطاً في كل شيء، لكنه أحدث زلزالاً بتلك البساطة المنطوية على ضمير قلق يبحث عن الحق والسلام. ومثله أصاب ذاك الزميل الذي كتب "إن العالم العربي بحاجة إلى شخصية من نوع غاندي ليقود الجماهير بأسلوب اللاعنف نحو تحقيق أعظم الانتصارات بدون طلقة واحدة" مضيفاً: "لكن المشكلة أنه لا يوجد غاندي ولا يشجع الوسط الراهن على ولادة أمثاله".