دور من سيأتي بعد العراق المقسّم؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
خيرالله خيرالله
في مثل هذه الأيام من العام 2003 ، كانت الولايات المتّحدة تكمل أستعداداتها النهائية لعملية أجتياح العراق تمهيداً لأسقاط نظام صدّام حسين العائلي- البعثي. حكم صدّام العراق بين 1968 و1979 من موقع نائب رئيس مجلس قيادة الثورة. وحكمه بين 1979 و2003 من موقع الرئيس والرجل الأوّل والأخير في البلد. كان منذ تولّيه الرئاسة صيف العام 1979 خلفاً لأحمد حسن البكر الحاكم المطلق للبلد. وقد ورّط العراق في سلسلة من الحروب أنتهت بالأجتياح الأميركي الذي تّوج يوم التاسع من أبريل - نيسان 2003 بسقوط بغداد. لم يرَ العراقيون يوماً واحداً من الراحة والهناء منذ صار صدّام رئيساً، والحقيقة أن البلد كلّه كان دخل في مرحلة جديدة مختلفة تتسم بالقضاء على دولة القانون منذ ذلك اليوم الأسود في الرابع عشر من يوليو- تمّوز 1958 عندما وقع أنقلاب سماه الجهلة "ثورة" اطاح الحكم الملكي بطريقة أقل ما يمكن ان توصف به أنّها وحشية.
قبل خمسة أسابيع تقريباً، أعدم صدّام بطريقة مشينة تندرج في سياق التقاليد التي أرستها العهود التي توالت منذ 1958 . ما ميّز كلّ عهد من هذه العهود أنّ كلاّ منها كان أسوأ من الذي سبقه بدليل أن العراقيين راحوا يترحمون على عهد البكر عندما تفرّد صدّام بالسلطة وأدخل البلد على الفور في حرب مع أيران... قبل أن يقدم على المغامرة المجنونة المتمثّلة في أحتلال الكويت الدولة العربية الصغيرة المسالمة!
ما يثير كل أنواع المخاوف حالياً، بعد أقل من أربع سنوات على سقوط نظام صدّام أن الذين خلفوه لا يقلّون سوءاً عنه وأن الهاجس الوحيد الذي يتحكّم بتصرّفاتهم هو الهاجس المذهبي. في أساس هذا الهاجس، الرغبة الواضحة في الأنتقام وفي تصفية حسابات معينة ليس مع السنّة العرب فحسب، بل مع كلّ سياسي أو مواطن يفكّر أيضاً في كيفية المحافظة على العراق موحّداً وفي كيفية أبقاء النخب العراقية في البلد. ثمة حملة واضحة بدأت منذ اليوم الأول لسقوط النظام الصدّامي تستهدف التخلّص من كل عالم أو مثقّف لديه شعور بالأنتماء ألى العراق أوّلاً وليس ألى هذه الطائفة أو تلك. شملت الحملة آلاف الأساتذة الجامعيين والعلماء وكلّ من له علاقة بحدّ أدنى من القيم الحضارية بصرف النظر عمّا اذا كان شيعيّاً أو سنّياً، عربياً أو كردياً أو تركمانياً. المطلوب أفراغ العراق من أحسن العراقيين وأن يبقى البلد مرتعاً للرعاع تتحكّم به الميليشيات التابعة للأحزاب الشيعية الكبيرة التي لا ولاء لها سوى للنظام الأيراني من جهة والتنظيمات الأرهابية السنّية المرتبطة ب"القاعدة" وما شابهها أو لفّ لفّها من جهة اخرى.
من يستعرض السياسات التي أتبعتها الأدارة الأميركية في العراق ويتمعّن فيها، يكتشف أنّها صبّت كلّها في أتجاه واحد هو شرذمة البلد وصولاً ألى تقسيمه وتفتيته مع ما لذلك من أنعكاسات سلبية على المنطقة كلّها. من كان يتصوّر منذ ديسمبر- كانون الأوّل من العام 2002 أن مؤتمر المعارضة العراقية الذي أنعقد في لندن، تمهيداً للحرب، سيتحدّث في الوثيقة الصادرة عنه عن "الأكثرية الشيعية في العراق". ألم يكن من الأفضل الحديث عن الأكثرية المسلمة أو الأكثرية العربية مع تأكيد لضرورة الحفاظ على حقوق كلّ القوميات وخصوصيّاتها والمساواة الحقيقية بين جميع العراقيين من دون الأشارة ألى مذهب معيّن تحديداً. لم يكن مطلوباً، أقلّه أميركياً، أيجاد صيغ حضارية متطورة لمرحلة أنتقالية من عراق يحكمه ديكتاتور لا يعرف شيئاً عن العالم ألى عراق قادر على أن يكون على تماس مع العالم المتقدم. على العكس من ذلك، بدا مطلوباً الأقدام على كل الخطوات الكفيلة بأثارة الغرائز، أسوأ أنواع الغرائز. لو لم يكن الأمر كذلك كيف يمكن تفسير الحديث عن "الأكثرية الشيعية" في وثيقة رسمية صادرة عن أهمّ مؤتمر للمعارضة أنعقد قبل أربعة أشهر من سقوط النظام؟ هل كان الحديث عن "الأكثرية الشيعية" الشرط الذي وضعه النظام الأيراني من أجل ضمان مشاركة شيعية فاعلة في المؤتمر عبر "المجلس الأعلى للثورة الأسلامية" الذي مثّله في مؤتمر لندن السيّد عبدالعزيز الحكيم؟
لا وجود لتفسير للتصرّفات الأميركية المتتالية، بما في ذلك قرار تشكيل مجلس الحكم الأنتقالي، بعيد الأحتلال، على أساس مذهبي بحت، ثم أتخاذ قرار بحل الجيش العراقي الذي لم يكن في أي شكل جيش صدّام حسين. ربّما كان التفسير المنطقي ذلك القائل: أن اثارة الغرائز والنعرات المذهبية كان جزءاً لا يتجزّأ من السياسة الأميركية. بل كان ذلك في صلب تلك السياسة التي شجّعت على أندفاع السنّة العرب في أتجاه التنظيمات "التكفيرية" التي لا تحسن سوى ممارسة الأرهاب ولا شيء غير الأرهاب.
ما تؤكّده تطورات الأشهر الأخيرة في العراق أن البلد في مرحلة متقدّمة من الحرب الأهلية التي دخلها قبل فترة طويلة. ما تقوله أجهزة الأستخبارات الأميركية حالياً عن الحرب الأهلية والدلائل القوية على أن العراق صار عرضة لها لا يقدّم ولا يؤخر ولا يشكل سوى أعتراف متأخّر بما هو دون الحقيقة. هناك فشل أميركي على كلّ الصعد في العراق، في حال كان مطلوباً أن ينتج عن الأحتلال نظام ديموقراطي يكون نموذجاً لدول المنطقة. هذا الفشل قد يكون ظاهرياً، بل قد يكون نجاحاً للذين خططوا للأجتياح بعما صار هناك واقع لا يختلف في شأنه عاقلان يتمثل في صعوبة أعادة بناء الدولة العراقية الواحدة الموحّدة. أضافة ألى ذلك، هناك واقع آخر يقضي بالأعتراف بأنّ النظام الأيراني خرج منتصراً من الحرب الأميركية على العراق وبات على الأدارة الأميركية التعاطي مع هذا الأمر. كيف ستفعل ذلك؟ ألى الآن لا يزال الأميركيون في حيرة من أمرهم اللّهم ألاّ أذا كانوا يعتقدون أن أرسال عشرين ألف جندي ألى بغداد سيساعد في تهدئة الأوضاع في المدينة وضمان الأمن في أحيائها ومنع أستمرار عمليات التطهير بين السنّة والشيعة ومنع ميليشيا الزعيم الشيعي الشاب مقتدى الصدر من السيطرة على مزيد من الأحياء السنّية. ما تفعله أدارة بوش الأبن حالياً هو تأجيل القرار الكبير القاضي بالأختيار بين الأنسحاب من العراق والدخول في مواجهة مع النظام الأيراني. أنّها تدرك أن أرسال مزيد من الجنود ألى بغداد لا يستهدف سوى شراء بعض الوقت ليس ألاّ. عاجلاً أم آجلا سيتوجّب عليها أتخاذ القرار الكبير نظراً ألى أن الوضع القائم حالياً في العراق لا يمكن أن يستمر ألى ما لا نهاية من جهة وألى أن الأنسحاب الأميركي سيعني أنسحاباً من المنطقة كلّها وتسليمها ألى قوّة مهيمنة أسمها الأمبراطورية الفارسية ذات الطموحات الكبيرة.
الأكيد أن العامل الذي لن تأخذه الأدارة الأميركية في الأعتبارهو وحدة العراق. هذا على الأقل ما كشفه جون بولتون السفير الأميركي لدى الأمم المتحدة الذي أضطر اخيراً ألى ترك منصبه أثر هزيمة الجمهوريين في أنتخابات الكونغرس. قال بولتون الذي كان ألى ما قبل فترة قصيرة من أبرز الشخصيات في الأدارة الحالية لصحيفة "لو موند" الفرنسيّة في عددها الصادر في الثلاثين من يناير- كانون الثاني الماضي أنه " ليست للولايات المتّحدة أي مصلحة أستراتيجية في أن يكون هناك عراق واحد أو ثلاثة عراقات. لدينا مصلحة أستراتيجية في ضمان ألاّ تكون هناك دولة مفلسة أفلاساً كاملاً تتحول ألى ملجأ للأرهابيين أو دولة أرهابية. أن تكون هناك دولة واحدة أو ثلاث دول (في العراق) لا علاقة له بمصلحتنا الأستراتيجية، كذلك أن تكون هذه الدولة تحت سيطرة الشيعة أو تحت سيطرة تحالف ما".
ما الذي يهمّ الولايات المتّحدة أذا؟ الثابت أن المشروع الأميركي الظاهر فشل. هل بدأت عملية تنفيذ المشروع الأميركي الحقيقي الذي كان في أساس أحتلال العراق؟ متى نظرنا جيّداً في كلام بولتون، نجد أن تقسيم العراق لم يعد سوى مسألة وقت، خصوصاً أن فريقي الشيعة والأكراد متّفقان على ذلك. وكلمة الشيعة تعني هنا الأحزاب الكبيرة على رأسها "المجلس الأعلى للثورة الأسلامية" الذي لا يخفي الرغبة في أن تكون هناك ثلاثة أقاليم عراقية. من الآن، يفترض التفكير في مرحلة ما بعد تقسيم العراق. دور من سيأتي بعد العراق ... بما أن وحدة البلد ليست مصلحة أستراتيجية اميركية؟