جريدة الجرائد

عنصرية القرن الواحد والعشرين

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

رغيدالصلح



يرقب الليبراليون الاوروبيون بقلق وتخوف ظاهرة تفاقم النزعة العنصرية في القارة. لقد كان آخر مظاهر هذه النزعة -حفلة- من الشتائم البذيئة والعنصرية التي وجهها لفيف من المشاركات والمشاركين البيض البريطانيين الى النجمة الهندية شلبا شتي والى الهنود عموما في برنامج تلفزيوني عرض خلال الاسبوع الفائت.

وكالعادة، حاولت بعض الاوساط التقليل من فداحة هذه الواقعة عن طريق تصويرها وكأنها خطأ عابر وسمج ارتكبه مجموعة من الاشخاص الذين يتسمون بالغباء والجهل. كذلك سعت تلك الاوساط الى الإيحاء بأن هذه المجموعة الشاذة من الافراد لا تمثل مجموع البريطانيين او النمط الغالب منهم، وخاصة الطبقة المتوسطة البريطانية المشبعة بروح التسامح والحلم والتساهل مع الآخرين. إلا ان هذه الحجج التبريرية لم تقنع الاوساط الديمقراطية والليبرالية في بريطانيا التي اعتبرت ان الحادث كان في الحقيقة موقعة مفجعة جديرة بأن تفتح أعين البريطانيين على حجم النزعة العنصرية ومدى انتشارها في بلادهم.

تعبيرا عن وجهة النظر الاخيرة كتب الاكاديمي البريطاني مارتن جاك يقول، ان البعض يظن ان النزعة العنصرية كانت رفيقة الامبريالية الاوروبية التي دامت بضعة قرون من الزمن، وانها انحسرت بانحسار الظل الاوروبي عن المستعمرات والمحميات فأصبحت شيئاً من الماضي ومن التاريخ. بيد ان جاك يحذر من هذه النظرة ويلفت النظر الى ان العنصرية لبثت على قيد الحياة تجدد نفسها بأشكال مختلفة وانها مستقرة في نفس كل فرد ابيض في بريطانيا.

ووجد الكثيرون من الليبراليين والديمقراطيين الاوروبيين انفسهم يرددون ما كتبه مارتن جاك، ولكن لكي يضيفوا اليه ان هذه العنصرية موجودة لدى كل رجل ابيض في بلادهم ايضا. وكثر الحديث في اوروبا عن العنصرية المستترة أو النائمة التي تطل بوجهها القبيح في مجالات متنوعة سياسية وغير سياسية. وازدادت الملاحظات حول دور العنصرية في حرمان مواطني القارة وسكانها والمقيمين فيها من نعم الحرية والمساواة، وتبرير التمييز ضد البعض تحت ستار الدفاع عن المصالح المشروعة والامن . ودعا ليبراليون وديمقراطيون اوروبيون المواطنين الى الوقوف امام المرآة والى تفحص قناعتهم ومشاعرهم الدفينة، بصدق وامانة، تجاه المسألة العنصرية لكي يتخلصوا من رواسبها وآثارها انقاذا لأنفسهم ولأوطانهم من اوبال تلك الظاهرة.

واذا كان لكل الاوروبيين ان يخشوا هذه الظاهرة، فإن الالمان يخافونها بصورة خاصة. فهي التي اودت خلال الثلاثينات، بالديمقراطية في بلادهم، وهي التي جرّت على ألمانيا الويلات والخراب في الحرب العالمية الثانية. واذا كان للالمان ان يعيشوا بسلام وسعادة فقد دعا ليبراليون ألمان ابناء وبنات بلادهم الى سد الباب الى الأبد في وجه العنصرية والعنصريين، والى اغلاق كافة النوافذ والمنافذ التي يمكن للعنصريين ان يتسللوا منها مرة اخرى الى الفضاء الاوروبي. ولقد حملت انجيلا ميركل، مستشارة المانيا، هذه الرغبة معها في مطلع هذا العام الى رئاسة الاتحاد الاوروبي. وتعبيرا عن هذه الرغبة دعت ميركل دول الاتحاد الى اعتبار كل تشكيك في الهولوكوست جريمة يعاقب عليها القانون والى منع الخطب العنصرية والرموز والشعارات النازية. ووجدت ميركل ترحيبا لدى كافة دول الاتحاد بهذه الدعوة، بل ان بعض هذه الدول سبقت المستشارة الالمانية الى تطبيق بنودها فكانت مثالا للآخرين. ولكن هل تكفي المقترحات الالمانية للخلاص من تلك الاخطار؟ هل تغلق الباب في وجه العنصرية والعنصريين؟

ان العنصرية ليست ظاهرة اوروبية بحتة، ولا هي معضلة الالمان بصورة خاصة. صحيح ان ساسة ومفكرين اوروبيين، وخاصة من الداروينيين الاجتماعيين، اضطلعوا بدور اكبر في بلورتها ووضعها موضع التنفيذ، الا ان العنصرية هي مرض عالمي. فهي منتشرة لدى اكثر الشعوب والدول. واذا كانت العنصرية اظهر للعيان في الدول الكبرى منها في الدول الصغيرة، فلأن الاولى اكثر قدرة من الثانية على ترجمة عنصريتها الى سياسات وافعال. في هذا السياق علينا ان ندرك اننا اذا كنا ضحايا العنصرية فهذا لا يعني اننا ابرياء من العنصرية. وفي هذا السياق ايضا نجد اننا في حاجة ملحة الى التوقف امام هذه الظاهرة والى الاضطلاع بدور رئيسي في مكافحتها.

ان الكثيرين في الغرب يظنون، كما تظن انجيلا ميركل، ان الامم الغربية تتخلص من التراث العنصري عبر الاقتصاص من العنصرية في التاريخ، أي من خلال اتخاذ موقف صارم ضد الهتلرية والفاشية. ان هذا الموقف صحيح في حد ذاته ومطلوب من الجميع. ولكن هؤلاء إذ يسعون الى توجيه الانظار نحو حقب معينة في التاريخ، يتجاهلون او يديرون وجوههم عما يقوم به عنصريو اليوم وعن الاهداف التي يتوخونها. فإذا كانت عنصرية النصف الأول من القرن العشرين موجهة ضد اليهود بصورة خاصة، فإن العنصرية اليوم موجهة ضد العرب بالدرجة الأولى.

العنصرية اليوم هي التي تثير الحملات الديماغوجية ضد العرب في اوروبا، فتلقي في نفوس الاوروبيين الرعب وتحذرهم من تحول القارة الى يوريبيا، أي من -تعريب- القارة الاوروبية ابتداء من فرنسا التي سوف تصبح، كما يقول عنصريو اليوم، اول دولة اوروبية عربية!

وعنصريو اليوم هم الذين يبالغون في تصوير خطر الارهاب العربي على القارة الاوروبية وعلى الغرب ويحولون كل عربي في اوروبا الى مشتبه به حتى يثبت العكس.

عنصرية القرن الواحد والعشرين هي التي تبرر غزو العراق، وتدمير دولته وامنه واستقراره وتذرير مجتمعه وتفكيك وحدته الوطنية واستباحة ثرواته. عنصرية القرن الواحد والعشرين هي التي تحض على الحرب الاهلية في فلسطين ولبنان وتمنح براءات الذمم وشهادات حسن السلوك والدعم المادي والسياسي للذين يقومون بها نيابة عن القوات الاجنبية. وعنصرية القرن الواحد والعشرين هي التي تعتبر ان النفط العربي هو -ملك من اكتشفه واستخرجه وكرره وسوقه واستهلكه-، وانه بالتالي عربي بالصدفة أي انه ليس من العروبة الا الصلة الواهية!

عنصرية القرن الواحد والعشرين تهدد المجتمع الدولي بأسره، ولكن خطرها المباشر يقع على العرب. وبمقدار ما تهدد العنصرية العرب، فإنه مطلوب منهم ان يهتموا بها: ان يدرسوا اسبابها وحوافزها، ان ينظروا في مظاهرها وعوارضها في المجتمعات العربية نفسها، ان يفتشوا عن طرق التخلص منها، ان يتعاونوا مع الذين يرغبون، فعلا، في القضاء عليها.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف