بيروت: خريف العرب الحزين
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
مايكل يونغ - الديلي ستار
في آذار - مارس 2005، كتب سمير قصير عمودا بعنوان "بيروت: ربيع العرب"، وكانت ساحة الشهداء حينذاك تعج بالناس الذين يحتجون على اغتيال رفيق الحريري. وقد شعر سمير حينها بثقة كافية ليؤكد "ان بيروت تعلن اليوم ان الموت ليس هو الطريق الوحيد المفتوح أمام العرب"، وعن الأدوات القاتمة الحاكمة في دمشق، كتب: "إن عصر نهضة بيروت يظل بكل المقاييس اكثر اهمية من الحفاظ على نظام لا يخلف في أعقابه سوى الخراب والدمار".
لكن العاصمة اللبنانية، وفي مسافة شهرين فقط منذ اوائل كانون الاول - ديسمبر الماضي، تحولت الى خريف عربي جديد. فقد أصبح السنة والشيعة متوجسين بشكل متزايد من العيش في نفس الضواحي، بينما بدأ المسيحيون بالنظر الى نقاط العبور بين نصفي بيروت الشرقي والغربي على أنها "حواجز" تقف ضد الاستقرار من طرف "الجانب الآخر". وفي الغضون يبقى عصر نهضة بيروت شيئا مرغوبا، اذ سيكون أثر نشوب نزاع طائفي على مدينتنا ذا تبعات اقليمية كارثية مضاعفة بسبب حدوثه في مختبر العالم العربي للتحديث (تعبير آخر لقصير)؛ لكن احداً لا يستطيع إيقاف سلوك متعهدي الخراب والدمار الذين كتب عنهم قصير، والذين قاموا أخيراً بتصفيته ودمروا تفاؤله.
ثمة طرق لا تعد ولا تحصى لشرح الازمة اللبنانية المستمرة، لكن أهمها، كما يبدو لي، هي انها معركة تدور حول مصير بيروت. هل ستعود المدينة لتكون ذلك المثال المتثاقل وسيئ التنظيم للحداثة، كما كان يقال كثيراً عنها، بوصفها مختبراً لليبرالية العربية التي يُغض من شأنها (والتي تظل ليبرالية رغم كل شيء)، أم أنها ستسقط ثانية في حضن النظام البعثي المتداعي في دمشق المرتبط مع ايران الطموحة، والتي ينشر حلفاؤها المحليون لغة الموت والعادات الفظة لتلك الحركات التي خلقتها أجهزة أمنية؟
من اجل التوصل إلى فهم تام لهذه الرؤى المتناقضة لبيروت، ينبغي أن نعترف بجوانب القصور فيها. وسيكون من الملائم تفسير نزول المعارضة الشيعية في اغلبها الى وسط البلد منذ اوائل كانون الاول - ديسمبر الأخير بهدف وحيد، هو انتهاك حرمة جزيرة من الثروة على أيدي جماهير غاضبة من الفقراء. وهي كذلك من بعض الاوجه. فقد كانت هناك كراهية غير محدودة سجلت في المواجهة، وكأن الازدهار الحضري يجلب العار والذي ينبغي أن يعاقب، وكأن الطريق إلى توزيع العدالة والمساواة تكمن في وضع وعاء من الذهب في كومة من الفحم.
ومع ذلك، وبالرغم من اننا نستطيع لوم المتعاطفين مع المعارضة لابتهاجهم الواضح بتشويه منطقة السوليدير، الا انه من الصحيح ان بيروت تدفع حالياً ثمن أخطائها الماضية. ذلك أن مدينة لا تستطيع توحيد مختلف طوائفها بطريقة مناسبة تظل مكاناً محكوماً بقدر المعاناة. كما لم يكن للاغلبية الشيعية في بيروت كلمة مسموعة في الماضي عندما يتعلق الامر بهويات بيروت المتعددة. وكان الشيعة مستبعدين بشكل كبير من قبل الخط القومي العربي السني في أغلبه خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ولم تجلب ما تسمى بـ "الثورة الفلسطينية" في السبعينيات اي شيء سوى البؤس على الشيعة في الجنوب وفي بيروت، كما ان خطة الحريري لاعادة الاعمار لما بعد الحرب، والتي استهدفت نظريا افادة الجميع، منحت القليل من التركيز لمسألة خلق شبكة امان اجتماعي، وهي شبكة كان من الممكن ان تساعد المجتمع في الابتعاد عن التعويل على مساعدات حزب الله.
بالنسبة للكثيرين من الشيعة، كان الانتقال الى بيروت خلواً من اي رواية ربما يجد اي مفكر فيها شيئا منعشا. وهو لا يزال، في جزء كبير منه، قصة تحطم وهروب من عنف الجنوب او رحلة للبحث عن حياة افضل. وفي عرف بيروت، كان تقدم الشيعة باتجاه تلك المناطق في العاصمة اللبنانية مكرساً "الخط الاخضر" القديم هو نتيجة الحرب والتشريد بشكل رئيس. وهو ما يفسر السبب في أننا سنستمر في رؤية سكان بيروت الاصليين يعاملون الشيعة على أنهم يوجدون في المدينة، ولكنهم ليسوا منها، وهي فكرة حزينة سمعناها بعد اشتباكات يوم الخميس المعروفة. وفي هذه الحالة بالذات، فان اللوم يجب ان يتوجه الى بيروت بسبب فرضها سيادة روح مفرطة في انتقائية، وليس إلى اولئك الغرباء الذين تم جرهم إليها.
ثمة صعوبة كبيرة ايضا تتمثل في ان حزب الله قد حول نفسه الى الوسيط الوحيد بين بيروت والطائفة الشيعية. ويمكن أن ينحى باللائمة على تكوّن ذلك النوع من الحكم الذاتي الذي يسود الضواحي الجنوبية على الطريقة غير المتوازنة التي طورتها المدينة. لكن حزب الله وجد بدوره ان من المناسب عزل المنطقة عن باقي العاصمة. وقد سمح هذا العزل للحزب بان يمارس سيطرته بشكل افضل، وليقطع الطريق على انتشار الافكار الهدامة التي يمكن أن تفرزها أي مدينة حديثة، ولتجنب ذلك النوع من التكامل مع بيروت، بل وفي الحقيقة مع لبنان، والذي يهدد بجعل حزب الله يبدو فائضاً. واذا كانت بيروت لتكون حقيقة ربيع العرب، فإن على الشيعة ان يكسروا تلك المصفاة التي يضعها حزب الله بينهم وبين مدينتهم.
غير ان ذلك لن يكون سهلا، فبعد احداث الشغب الاخيرة، تم إرسال عدة رسائل مزعجة الى الشيعة: منها ان الوصول الى بيروت من مراكز التجمع السكاني الشيعي في جنوب لبنان ووادي البقاع يمكن ان يوقف بسهولة، وان الشيعة داخل بيروت قد يصبحون عالقين بين الاحياء السنية، وان ضواحي بيروت الجنوبية ستجد نفسها في حال اندلاع حرب، تحت رحمة مدافع الاعداء. ويبدو أن هذا هو ما تتفكك اليه المدينة، إلى مجرد حديث حول مقارنة إمكانية التموضع العسكري.
يبدو كأن الفساد قد امتد ليحيط أيضاً باللغة. وبالنسبة لمكان طالما تفاخر في الماضي بانتاجه الادبي، فإن نظرة سريعة على الاخبار او الصحف تكشف عن ذلك الاستخدام المزمن للمصطلحات الزائفة والمقززة، حيث توصف المعارضة في وسائل الاعلام التي تسيطر عليها الاغلبية بانها "القوى الانقلابية"، بينما يشير حزب الله والعونيون الى احزاب الاغلبية على أنها "ميليشيات الدولة". وتحفل موجات الاثير والنشرات بالتهديدات اليومية. وقد أصبحت وسائل الاعلام ادوات للحرب والتعبئة ومصادر للتقسيم، حتى فيما يتعلق بالقنوات التي يختار أي شخص مشاهدتها ولماذا. وكل ذلك كثير على الطبيعة الموحدة لوسائل الاتصالات الحديثة، وهو كثير أيضاً على قدرة بيروت على حقن القيم الليبرالية، حتى في اكثر أبنائها مشاكسة.
ومع ذلك، تبقى الليبرالية بالضبط هي النقطة التي سيأتي منها خلاص بيروت، والتي ستتحقق عندما يتم قبول الشيعة بشكل حقيقي على انهم جزء من المدينة، ولكن ايضا عندما يقبلون هم بالمدينة بكل ما فيها من إرهاصات فوضوية، وليس على أنها تمثيل لخصم ينبغي إخضاعه. وحتى يكون لبيروت معنى، فإنها يجب ان تظل حرة وغير خاضعة وغير مطيعة، وقادرة على أخذ اي فكرة غريبة وطحنها وتحويلها الى غذاء تستطيع المدينة ان تهضمه. وربما، والاكثر اهمية، هو وجوب أن تبقى بيروت بعيدة عن التدخلات الإلهية، لان الدين الذي يبدو خانقاً جداً في تجلياته اللبنانية، لا يمكن سوى أن يخنق كل ما يجعل من بيروت مدينة مختلفة ومثيرة للاهتمام.
هناك الكثيرون في الشرق الاوسط ممن يفضلون رؤية بيروت مدمرة لا محررة. وعلى هؤلاء أن يحذروا. فبيروت ربما تكون فريسة صامتة، ولكنها، مثل اي مدينة يمكن ان تكون قوية، تنزع إلى إسقاط اولئك الذين اخذ منهم الغرور مأخذا بحيث تصوروا أن بوسعهم قتلها.