جريدة الجرائد

حوارات مكة: من رفع الحصار إلى إنشاء «منظمة التحرير الثالثة»

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك



بلال الحسن

أكتب هذا المقال قبل أن تنتهي الحوارات الفلسطينية في مكة. وقبل أن نعرف ما إذا كان الطرفان قد اتفقا أم اختلفا. ويتيح لي هذا الوضع التركيز على أبعاد أخرى في قضايا الاتفاق والاختلاف، نشأت قبل حوار مكة وستبقى قائمة بعد انتهاء الحوار.

نبدأ بموضوع رفع الحصار المالي المضروب حول الحكومة وحول الشعب الفلسطيني، وباعتبار أن هذا الحصار كان منبع الخلاف بين الرئاسة الفلسطينية وحركة فتح وبين الحكومة الفلسطينية وحركة حماس، وباعتبار أن الرئيس محمود عباس ذكر في كلمته الافتتاحية في حوار مكة أنه يريد اتفاقا ينهي الحصار. وقد بات معروفا الآن أن رفع الحصار (الأميركي ـ الأوروبي ـ الإسرائيلي) مرهون بإعلان قبول الحكومة الفلسطينية بالشروط الثلاثة للجنة الرباعية الدولية وهي: الاعتراف بإسرائيل. والاعتراف بالاتفاقات الموقعة سابقا. وقف العنف. وهي شروط ثلاثة لا تستطيع حركة حماس الاعتراف بها. ولكن هل إن حركة فتح تعترف بهذه البنود الثلاثة؟

لقد اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية (ونظريا حركة فتح) بهذه الشروط الثلاثة عند توقيع اتفاق اوسلو كضرورة من ضرورات التفاوض حول تطبيق هذا الاتفاق، وعلى أمل الوصول إلى إنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة. أما بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد 2000 حول قضايا الحل النهائي، فقد بادرت حركة فتح إلى العودة إلى المقاومة المسلحة للاحتلال (العنف)، من خلال بروز كتائب الأقصى وإسهامها في الانتفاضة الفلسطينية الثانية. وشكل هذا الموقف على الأرض إعلانا بفشل اتفاق اوسلو. وحين ردت إسرائيل على ذلك بإعلان اجتياح الضفة الغربية (حملة حكومة شارون)، أصبح اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل، وتمسك فتح بالاتفاقات السابقة، مسألة نظرية، أو مسألة تمسك باتفاقات ميتة لم تطبق، وأصبح اتفاق اوسلو قضية لا وجود لها على الأرض. ولكن مسألة واحدة بقيت قائمة من تلك الاتفاقات، وهي مسؤولية الفلسطينيين عن إدارة شؤونهم الحياتية، مع ما يحتاجه ذلك من أموال، في نطاق أراضي الحكم الذاتي. كانت الأموال قبل اوسلو تأتي من حكومة الاحتلال (إسرائيل) بحكم مسؤولياتها القانونية دوليا عن هذه المسألة. وأصبحت الأموال بعد اوسلو تأتي من تبرعات الدول المانحة (أميركا وأوروبا والعرب) بحكم رغبتها في المساعدة في إنجاح اتفاق اوسلو.

الآن ... يتركز النقاش، حسب قول الرئيس محمود عباس، حول برنامج سياسي لحكومة فلسطينية يتيح الفرصة لعودة مساعدات الدول المانحة حتى يمكن المضي في تسيير الشؤون الحياتية اليومية للفلسطينيين. ولكن ماذا عن اتفاق اوسلو؟ ماذا عن انسحاب الاحتلال الإسرائيلي؟ ماذا عن الدولة الفلسطينية؟ لا أحد يجيب. تنشغل حركة فتح بضرورة وصول الأموال، بينما تنشغل حركة حماس بالسؤال: وماذا بعد؟ ماذا عن الأهداف السياسية التي لم يمكن الاتفاق بشأنها مع إسرائيل؟

طرحت هذه المسألة نفسها قبل حوارات مكة، وستبقى مطروحة بعد حوارات مكة، وهي شأن فلسطيني عربي ـ دولي من طبيعة استراتيجية.

ثم نأتي إلى مسألة إعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية، وهي قضية كانت لها لجنة خاصة في حوارات مكة. هناك تصور مبسط حول هذا الموضوع يركز على: دخول حركة حماس إلى منظمة التحرير الفلسطينية بعد اتفاق حول نسبة عضويتها في المجلس الوطني الفلسطيني الجديد. ثم اجتماع موسع للفصائل الفدائية في القاهرة أو دمشق يتم الاتفاق فيه على "كوتا" الفصائل الأخرى. يلي ذلك تسمية أعضاء المجلس الوطني الجديد وموعد ومكان اجتماعه، ويكون قد تم بذلك تفعيل منظمة التحرير وإعادة بنائها. وهناك تصور آخر مضاد، يرى أن هذه الصيغة المقترحة صيغة قديمة تجاوزها الزمن، ويرفضها الشارع الفلسطيني حيثما وجد. هذا التصور المضاد يرفض صيغة "كوتا" الفصائل حتى لو قبلت بها حركة حماس، ويرى أن "كوتا" الفصائل تنتمي إلى مرحلة العمل الفدائي القادم عبر الحدود. أما وقد أصبح هناك سلطة فلسطينية، ومجلس تشريعي منتخب في الضفة الغربية وقطاع غزة، فإن الوضع الجديد يقتضي أن يعمم على الساحات الفلسطينية كلها، فتكون هناك انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني الجديد، تشارك بها القوى الاجتماعية الفلسطينية، وهي التي ستقرر إذا كانت ستنتخب ممثلي الفصائل الفدائية أو أنها ستنتخب ممثلين آخرين لها.

ويقف وراء هذا التوجه، التحرك الاجتماعي الفلسطيني الذي تم بعد اتفاق اوسلو، وعبر عن نفسه في الشتات بإنشاء (لجان حق العودة) في كل مكان يتواجد فيه لاجئون فلسطينيون، وأبرز هذا التحرك فعالية شعبية فلسطينية امتدت من أميركا اللاتينية إلى مخيمات قطاع غزة، ومن الولايات المتحدة الأميركية إلى مخيمات لبنان، ومن كامل العواصم والمدن الأوروبية إلى مخيمات سوريا والأردن. لقد شكل الحراك الاجتماعي والفلسطيني محاولة تكامل مع انتخابات المجلس التشريعي فوق أرض الوطن، كما شكل محاولة تكميل لما اعتبره الشارع الفلسطيني نواقص، أو مخاوف من النواقص، في اتفاق اوسلو، تمس موضوع حق العودة للاجئين الفلسطينيين، ثم ثبت أن المخاوف الشعبية كانت في محلها، وبخاصة بعدما برز الإصرار الإسرائيلي على رفض مناقشة هذه القضية. ويرى أصحاب هذا التصور (الانتخابات وإشراك القوى الاجتماعية) أن هذه هي الطريقة الفعالة لإعادة بناء منظمة التحرير بأفق جديد، يعبر عن المرحلة، ولا يكون مجرد تكرار لصيغ قديمة انتهت فعاليتها، عبر ما يعرف بالتعيين بدل الانتخاب، وبكوتا الفصائل بدل القوى الاجتماعية.

وقد طرحت هذه القضية نفسها قبل حوارات مكة، وستبقى مطروحة بعد حوارات مكة، وسط موقف دولي وإسرائيلي معارض لذلك، يريد تضخيم دور السلطة، وتذويب دور منظمة التحرير. فالسلطة تخص سكان المناطق المحتلة، ومنظمة التحرير تخص الشعب الفلسطيني كله.

ونأتي ثالثا إلى كيفية التعامل مع المشاريع المطروحة من أجل التفاوض. لقد جرى العرف حتى الآن أن يعلن المجتمع الدولي ما هو مطلوب من الفلسطينيين والعرب من أجل التفاوض مع إسرائيل. في مرحلة سابقة كان المطلوب هو الاعتراف بالقرار 242. وفي مرحلة اوسلو أصبح المطلوب هو الاعتراف بإسرائيل. وفي المرحلة الراهنة فإن المطلوب هو وقف مقاومة الاحتلال (ما يسمى الإرهاب أو العنف). ولكن في ظل التغيرات الاجتماعية (والسياسية) الفلسطينية، والتي عبرت عن نفسها ببروز حركة حماس إلى جانب حركة فتح، فثمة من يرى أنه آن الأوان لرفض هذا النهج الدولي في تحديد المطالب المسبقة. إن النهج الدولي يميل إلى طلب الشروط من الفلسطينيين، بينما تبرز حاجة واقعية ملحة إلى ضرورة طلب الشروط من الإسرائيليين. مثلا: أن يعلن الإسرائيليون أنهم يعترفون بالشعب الفلسطيني وبحقوقه الطبيعية.

أن يعلن الإسرائيليون استعدادهم للانسحاب من الأراضي المحتلة عام 1967. أن يعلن الإسرائيليون استعدادهم لإزالة المستوطنات التي يتناقض وجودها مع القانون الدولي للاحتلال. أن يعلن الإسرائيليون أنهم مستعدون للانسحاب من القدس التي احتلت عام 1967. أن يعلن الإسرائيليون أنهم يوافقون على إنشاء دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة كاملة. إن الجواب الإسرائيلي سيكون لا ولا ولا على كل هذه القضايا، فلماذا إذا ينشغل الفلسطينيون والعرب في بحث الشروط المطلوبة منهم، ولا ينشغلون بتحديد ما يطلبونه هم من إسرائيل؟ إن التركيز على هذه النقطة، إضافة إلى منطقيته وصوابيته، يمكن أن يشكل مدخلا متينا لإيجاد توافق فلسطيني بين فتح وحماس على منهج التفاوض وخطته، بينما تؤدي الإملاءات المسبقة (الاعتراف بإسرائيل ـ وقف مقاومة الاحتلال) إلى تباعد يبدو عسيرا على الحل.

وربما تكون هذه القضايا قد طرحت في حوارات مكة، ولكنها بالتأكيد ستطرح نفسها بعد حوارات مكة.

أخيرا نقول. إن كل هذه القضايا المطروحة لنقاش متواصل، لا تبرر ولا تغطي الاقتتال الداخلي. لا تبرر اللجوء إلى العنف الأهلي. ولا بد أن يبقى الاقتتال مرفوضا ومدانا، ومن أجل أن نتيح الفرصة لحوار فلسطيني يذهب إلى العمق، ويؤسس لإنشاء (منظمة التحرير الثالثة)، التي تتصدى لمهمات المرحلة النضالية الجديدة. منظمة التحرير الفلسطينية الأولى كانت مع أحمد الشقيري وهي التي بلورت الكيانية الفلسطينية. والثانية كانت مع العمل الفدائي الذي وضع القضية على جدول الأعمال الدولي. ومنظمة التحرير الثالثة هي المنشودة الآن من أجل بلورة شيء ما على الأرض. شيء ما يحقق الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية، ولكنه يبقى مفتوحا على المستقبل. المستقبل الذي يرى أرض فلسطين أرضا واحدة موحدة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف