اتفاق مكة وتغيرات النظام السياسي الفلسطيني
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الأثنين 12 فبراير 2007
خالد الحروب
اتفاق مكة بين "فتح" و"حماس" له أهمية استراتيجية وتاريخية متعددة الأبعاد: فلسطينياً, وإقليمياً, ودولياً. فلسطينياً أهميته السريعة والمباشرة تمثلت في قطع الطريق على الحرب الأهلية التي لم تتجمع نذرها وتتأكد احتمالاتها في أي مرحلة سابقة مثلما تجمعت وتأكدت قبيل توقيع الاتفاق. بيد أن أهمية الاتفاق غير المباشرة وطويلة الأمد هي أبعد من ذلك بكثير. اتفاق مكة هو الإعلان الإقليمي والدولي العلني عن قبول النتائج التي تمخضت عن الانتخابات الفلسطينية العام الماضي ووصول "حماس" إلى سدة القيادة الفلسطينية. احتاجت "فتح" ودول الإقليم ودول العالم إلى سنة كاملة مليئة بالتوتر والمعاناة الفلسطينية الشعبية ومختلف أنواع الضغوط والتمنيات بفشل حكومة تقودها "حماس" كي تستوعب عمق التغيير الذي حدث في النظام الفلسطيني ومدى جذريته. لأول مرة في تاريخ النضال الفلسطيني منذ ما يزيد على أربعين عاماً، يتم وقف استئثار "فتح" بقيادة دفة القرار الفلسطيني, الأمر الذي تمتعت به بشكل شبه حصري وأصبح من مسلَّمات السياسة الفلسطينية. اتفاق مكة يكرس هذه التنحية ويفرض على "فتح" مفهوم الشراكة في القيادة (مع أهم منافس سياسي لها في الساحة المحلية), وينهي التعلق بوهم العودة إلى مرحلة ما قبل الانتخابات واستئناف مسيرة الاستئثار بالسلطة والقرار الفلسطيني. ما يقوله اتفاق مكة هو أن "حماس", أيدها من أيدها وعارضها من عارضها, أصبحت جزءاً لا يتجزأ من القيادة الفلسطينية وصناعة القرار الفلسطيني, وليست فقط جزءاً من المشهد الفلسطيني. وهي أصبحت كذلك من دون أن تقدم تنازلات حقيقية في برنامجها السياسي.
فلسطينياً أيضاً, اتفاق مكة يدخل التسيس الفلسطيني في مرحلة أكثر نضجاً حيث يفرض على "حماس" وعلى "فتح" منافسة في البرامج وعلى قاعدة تحقيق المصالح الوطنية الفلسطينية. ستصبح الكفاءة السياسية عنصراً أكثر وضوحاً برسم الأخذ بالاعتبار عند الناخب الفلسطيني, في ضوء الخفوت المأمول للمشادات "الفتحاوية" -"الحمساوية" التي لم تتح للفلسطينيين إمكانية الحكم موضوعياً على أداء "حماس" تحديداً. "حماس" الحاكمة هي غير "حماس" المعارضة, لكن إلى حد الآن لم يتبدَّ الفارق جلياً خاصة في جانب تحقيق البرنامج الانتخابي الطموح الذي خاضت "حماس" الانتخابات على أساسه.
عربياً وإقليمياً, يشكل اتفاق مكة إنجازاً كبيراً للدبلوماسية السعودية وانهماكاً إيجابياً وإضافياً لها في الملف الفلسطيني في لحظة حساسة جداً. نجحت السعودية فيما فشلت فيه سوريا ومصر وهذا بحد ذاته أمر في غاية الإثارة. وأحد الأسباب الرئيسية وراء ذلك هو أن "حماس" و"فتح" ترتاحان للدور السعودي بشكل شبه متساوٍ. في دمشق تتردد "فتح" كثيراً في الوصول إلى اتفاق قد يكرس النفوذ السوري, ويدعم "حماس" المحسوبة على محور دمشق- إيران. وفي القاهرة تتردد "حماس" كثيراً في الوصول إلى اتفاق قد يكون مدفوعاً بهموم مصر الأمنية على حدودها مع قطاع غزة, ومنحازاً إلى "فتح". أي اتفاق في دمشق أو القاهرة قد تستسهل واشنطن معارضته علناً.
حساسية اللحظة التي تم فيها التوقيع على اتفاق مكة, إقليمياً, تتأتى من جانب تصاعد النفوذ الإيراني الإقليمي وفي أكثر الساحات والقضايا أهمية: العراق, لبنان وفلسطين. لكن النجاح في دفع "حماس" و"فتح" للوصول إلى اتفاق قد يستدرك ما ترتب على ذلك التأخير. ومن الواضح أن التحرك السعودي على الجبهة الفلسطينية هو جزء من دبلوماسية سعودية جديدة في الملفات الإقليمية الأكثر سخونة. وأن هذه الدبلوماسية الجديدة بوصلتها وقف النفوذ الإيراني في ساحات العراق ولبنان وفلسطين وإعادة قدر من التوازن المطلوب لأدوار الدول والأطراف المختلفة. ومن هنا فإن اتفاق مكة ليس اتفاقاً فلسطينيا بحتاً، ويجب ألا يتوقف عند ذلك: إنه جزء من دبلوماسية سعودية إقليمية, ولهذا، فإن التوقيع عليه لا يعني نهاية للدور السعودي الجديد في التوسط بين "فتح" و"حماس" أو في التدخل في الملف الفلسطيني بل بداية له, ويجب أن يكون كذلك. فإنجاح الاتفاق وتسويقه عالمياً وخاصة عند الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، يوازي أهمية التوقيع عليه. والسعودية بثقلها الدبلوماسي والسياسي والمعنوي هي أكثر طرف مؤهل لأن يقوم بإنجاح الاتفاق. ففلسطينياً هي الطرف الذي تحرص "فتح" و"حماس" على نسج علاقات متينة معه، وبالتالي فإن لها كلمة مسموعة عند الطرفين في حال بروز عقبات في المستقبل القريب في آلية تنفيذ بنود الاتفاقات المختلفة. ودولياً، هي الطرف المقبول عربياً وفلسطينياً، والذي تعتمد عليه الولايات المتحدة في معادلة التصاعد المستمر للنفوذ الإيراني.
في الجانب الدولي تتبدى أهمية اتفاق مكة الاستراتيجي بكونه يقدم حل حفظ ماء الوجه للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واللجنة الرباعية. فالسقف العالي الذي اشترطته هذه الأطراف على حكومة "حماس" نظير الاعتراف بها والتعامل معها، يصعب, إن لم يستحل, تحقيقه من جانب "حماس", كما يصعب النزول عنه من جانب تلك الأطراف. لذلك فإن التوافق على حكومة وحدة وطنية برنامجها يعيد تغليف أجندة "حماس" لكن بخطاب معتدل وإن بنفس الأجندة, سيساعد على الوصول إلى صيغة انفتاح على الحكومة من قبل المجتمع الدولي. والأهم من ذلك، فإن اتفاق مكة برعاية السعودية هو الضوء الأخضر لكسر الحصار عن الحكومة الفلسطينية عربياً وإسلامياً وأوروبياً على أقل تقدير. ليس من المتوقع أن تعلن واشنطن وبروكسل ترحيباً وقبولاً غير مشروطين بالحكومة الفلسطينية الجديدة, لكن ستخف حدة المعارضة لها ويخف الحديث عن الشروط الثلاثة الأولية: الاعتراف بإسرائيل, نبذ العنف, والالتزام بالاتفاقات السابقة مع إسرائيل.
علاوة على ما سبق تبقى ضرورة الإشارة إلى نقطتين: الأولى متعلقة بإسرائيل واستئناف المفاوضات, والثانية بالوضع الفلسطيني الداخلي. إسرائيل غير مستعدة، ولا تريد لا التعامل مع هذه الحكومة ولا غيرها. تعثر المفاوضات أو عدم الوصول إلى حل سياسي سواء منطلق من خريطة الطريق أو أية صيغة أخرى لا يرتبط بشكل وتكوين الحكومة الفلسطينية, يرتبط بعدم رغبة ولا جدية الإسرائيليين في ذلك. إسرائيل لم تعترف بـ"أبومازن" شريكاً في السلام بعد وفاة ياسر عرفات ناهيك عن الاعتراف بحكومة فيها "حماس". أما النقطة الثانية، فهي مسؤولية "فتح" و"حماس" في إنجاح اتفاق مكة. الطرفان يتحملان مسؤولية تاريخية في تثبيت الاتفاق وتنفيذه على الأرض, وبداية مرحلة جديدة. إذا فشل اتفاق مكة، فإن سيناريو الحرب الأهلية القبيح سيعود للظهور مرة أخرى وسيكون السيناريو الوحيد المطروح.