فرنسا حائرة بين رجل وامرأة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
غسان الإمام
بحكم عملي وإقامتي الطويلة، أتابع بدقة حركة أوروبا السياسية والاجتماعية، لكن نادراً ما أكتب عنها. اهتمامي الأول هو اهتمامات القارئ العربي. أكتب بقدر ما تسمح لي الحرية عن العالم العربي، بأحداثه الساخنة وزلازله الاجتماعية.
إذا كتبت اليوم عن الحملة الانتخابية الرئاسية في فرنسا، فلا أظن أني قد ابتعدت كثيراً عن اهتمامي الأول. فرنسا بلد مهم للعرب. رئيس فرنسا باعتباره "مايسترو" السياسة الخارجية له تأثير كبير على سياسة أوروبا، إذا كان صديقا للعرب.
كان الأحد الفائت يوما فرنسيا حافلاً بالحركة. سيغولين رويال مرشحة اليسار الاشتراكي تعلن عن برنامجها الانتخابي. منافسها على اليمين نيكولا ساركوزي يعقد مهرجانا لأنصاره للتغطية على برنامجها ووهجها. بل حتى جاك شيراك قرر الظهور على الشاشة مع زوجته برناديت لخطف الوهج من الثنائي المتنافس سيغور ساركو.
مع شيراك (74 سنة) مهلة الى شهر واحد لترشيح نفسه. عمره واستفتاءات الرأي ضده. في خروجه من قصر الإليزيه هذه السنة خسارة كبيرة للعرب. لم تعرف فرنسا منذ نابليون رئيسا مهتما بالعرب كجاك شيراك، متعاطفا مع مآسيهم، متفهما لقضاياهم، صديقا ومستشارا لزعمائهم. حتى في ماضي ديغول نقاط سوداء قبل أن يستيقظ ضميره "العربي" بعد هزيمة 1967 حاول عرقلة استقلال سورية ولبنان. اضطر الانجليز للتدخل مرتين في البلدين، مرة لإجلاء قوات فيشي الفاشية المتحالفة مع المانيا النازية، ومرة لإجلاء قوات ديغول بعد صدامها المسلح مع الحركتين الوطنيتين في البلدين التوأمين.
أبحث عن العرب في مرآة سيغولين وساركوزي، فلا أجدهم. كلاهما زار اسرائيل. كلاهما لم يزر العواصم التي تصنع القرار السياسي العربي كالرياض والقاهرة. في أوروبا، لا اهتمام بالسياسة الخارجية. قلوب الناخبين في جيوبهم وليست في عواطفهم. الاقتصاد. الأسعار. الأجور. السكن. الرفاهية. الضرائب هي القضايا التي تشغل البال. أي من المرشحين البارزين لا يعرف أن العرب مادة أساسية لقوة ونفوذ فرنسا في أوروبا والعالم.
على أية حال، إذا استقبل العرب ساركوزي، فقد يجدون حرجا في استقبال سيغولين! استقبلوا كوندوليزا من دون أن يعرفوا ما إذا كانت من العذارى أو من السيدات. سيغولين (53 سنة) أنجبت أربعة أبناء بلا زواج. هي رفيقة زعيم حزبها فرانسوا أولاند (52 سنة). هل يقبلها العرب رئيسة؟ مفتي الديار المصرية أفتى أخيرا بجواز ترئيس المرأة. مسلمو باكستان وبنغلادش واندونيسيا وتركيا أوصلوا نساء الى رئاسة الدولة والحكومة. الى الآن، لم يصدِّق العرب وجاهة الفتوى المصرية.
في عصر التزمت والحشمة، من الصعب على العرب استقبال أم غير متزوجة. العائلة هي الخلية الاجتماعية الأولى في الإسلام. الزواج هو المؤسسة الشرعية عند العرب. لكنه ليس بالمؤسسة المثالية عند الفرنسيين. نصف سكان باريس، متزوجون أو مطلقون أو عازبون، يعيشون منفصلين. الإنجاب بلا زواج لم يعد يرفع حاجب الدهشة في مجتمع كاثوليكي محافظ.
العرب فضوليون. لقد أطلت الحديث عن أسرة سياسية بلا عقد زواج. لا أحد في فرنسا يسألك عن حياتك العائلية. ساركوزي الذي يستنهض القيم الدينية في فرنسا العلمانية لم يكفر أو يزندق سيغولين وأولاند. يكتفي برميهما بالحجارة من النافذة الانتخابية، وليس من صحن الكنيسة. هو أيضا عانى من متاعب عائلية. عندما نشرت "باري ماتش" صورة لزوجته سيسيليا مع رجل آخر، غضب وتسبب بمشكلة لرئيس التحرير. عاد وصالح الزوجة، وحرص على الظهور معها كزوجين حميمين.
زعيم الحزب هو نقطة القوة ونقطة الضعف في سيغولين. أولاند سياسي ذكي. لامع. مثقف. متواضع. ما زال محبا عاشقا لرفيقة الحياة. ضحى أولاند بمستقبله الرئاسي من أجل ترشيحها وترئيسها. لو كنتُ مكانه لما فعلت. أخاف المرأة سلطانة. التركية تانسو جيلر والهندية إنديرا غاندي والاميركية هيلاري كلينتون نمور مخيفة. تانسو شاركت في افساد الحياة السياسية التركية. إنديرا ألغت الديمقراطية فترة، وَخَصَت الرجال للحد من التكاثر السكاني. هيلاري تريد أن تعلم الاميركيين كيف يصوتون لامرأة بيضاء ضد مرشح أسود.
لكن ما الفرق السياسي بين سيغولين وساركو؟ بعد سقوط بيارق الآيدولوجيا على اليمين واليسار، لا أجد فارقا مميزا بين الاثنين، سوى أن سيغولين امرأة جميلة، وساركو رجل جاد. كلاهما يتكلم لغة متقاربة، انما من موقعين متقابلين. اتفاق في الخطوط العامة واختلاف في التفاصيل. اللعبة الديمقراطية تفرض عليهما الاختلاف الظاهري لاضفاء الحرارة على المشهد الانتخابي، جذبا لأكبر عدد من الناخبين الى مراكز الاقتراع.
سيغولين وساركوزي جيل جديد من الساسة يختلف عن جيل عنكبوتي يعشش في المكاتب ويتصنع التجهم والهيبة. سيغولين في أناقتها تبدو أصغر من سنها. كلماتها بسيطة. هي أقرب الى رجل الشارع. ساركوزي رجل دولة شديد الحيوية. مبادر. مغامر. كلاهما يضع الفرنسيين في حيرة: يخافون رجل الدولة العارف بالأسرار، ورجل الأمن الحازم في تطبيق النظام والقانون. يثقون بامرأة اقرب الى قلوبهم، لكنها أقل خبرة وتجربة في مراكز الدولة العليا ودهاليز صنع القرار. يتساءلون عما ستفعل بأولاند الرجل والرفيق الذي أوصلها؟ هل توليه الوزارة أو رئاسة الحكومة؟ الفرنسيون شديدو الغيرة. لا يتصورون رئيسة الدولة تندس في المساء في فراش رئيس الحكومة.
كجيل سياسي جديد، تقدم سيغولين نفسها فوق حزبها الاشتراكي. اخضعت بارونات الحزب وأفياله. تركته مقوقعا في شرنقته القديمة. هي معجبة ببلير وكلينتون اللذين سارا باليسار الى الوسط. هي مع ساركوزي في التركيز على الأمن والنظام. معه في زيادة ساعات العمل التي خفضها حزبها عندما كان في الحكم. هي معه في "تأديب" مراهقي الضواحي من عرب وسود، هؤلاء المتمردين على الاندماج، اليائسين من مستقبل بلا عمل.
ساركوزي يقدم نفسه ليبراليا اصلاحيا وديغوليا جديدا يريد ان ينشر ثقافة العمل في مجتمع مرفه كسول. ليبراليته محاكية لليبرالية الآنجلوأميركية، في اشاعة قيم المشروع الحر والمبادرة الفردية. في محاولته دمج العرب في المجتمع، فهو ضد تعدد الزوجات وختان البنات. يدعوهم الى احترام القانون والتقاليد الفرنسية. يضرب المثل في الاندماج، بأبيه الهنغاري المهاجر مع امه اليهودية اليونانية.
الفرنسيون يدخنون اكثر مما يعملون. يتحدثون عن الحاجة الى الاصلاح مع وقف التنفيذ. يضربون عن العمل إذا مست الدولة مكاسبهم الاجتماعية وضماناتهم النقابية. عرفت فرنسا ازدهارا واسعا ونموا هائلا في الخمسينات والستينات. فرنسا اليوم ضرائب عالية. أسواق جامدة. بطالة مرتفعة. ضمانات اجتماعية مرهقة لخزينة الدولة.
الوصول الى الرئاسة طريق صعب وشاق في فرنسا: لا وراثة ولا توريث، إنما عمل مرهق من خلال صعود سلَّم المؤسسات الديمقراطية، كالحزب والنقابة والنيابة. قضى ميتران اربعين سنة لكي يصل. شيراك انفق ثلاثين سنة. اكتشف شيراك ساركوزي "فخانه" مؤيدا ترشيح رئيس وزرائه ادوار بالادور ضده (1995). عاقبه شيراك. امضى ساركوزي عشرين سنة كي يصل، منها ثماني سنوات في "صحراء الشوك"، رئيسا لبلدية نويي الضاحية الباريسية التي اشاركه في سكناها. أمر امام مبنى البلدية الجميل. أراه محاصرا بشرطة الحراسة. امضي متمهلا في شارع البلدية الانيق. انعم بهدوء وراحة انسان عادي لم يحترف قط اوجاع السياسة.