عودة الظواهري بعد تغيُّر الزمان
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
د. رضوان السيد
عاد الدكتور أيمن الظواهري للظهور، كما يقال، وببياناتٍ لأربع مراتٍ خلال أسبوعين، اثنان عن فلسطين، واثنان عن لبنان، لهما علاقةٌ بفلسطين. في فلسطين حمل أولاً على "حماس" التي دخلت في العملية السياسية عبر دخولها في الانتخابات قبل عام، وكان ذلك إعراضاً منها عن التحرر والتحرير. وفي المرة الثانية حمل بالإضافة لـ"حماس" على الرئيس محمود عبّاس داعياً للتخلُّص منه، حتى لا يستمرَّ في خدمة أهداف الأميركيين والصهاينة. أمّا في لبنان، فقد حمل الرجل على مؤامرة الصهاينة والأميركيين عليه من أجل شرذمته، ثم انتهى إلى أنّ الاستعمار عاد إليه عبر العساكر الصليبية (القوات الدولية بالجنوب)، والتي رأى ضرورة مقاتلتها لتحرير الأرض التي تستعمرُها في مناطق انتشارها على الحدود مع فلسطين المحتلة!
واللافتُ في تحركات الظواهري الأخيرة أنه يقومُ بها بمفرده دونما مشاركةٍ من أيّ نوعٍ لأُسامة بن لادن، وأنها تتجرد من أي طابعٍ دينيٍ اعتدنا عليه في تصريحات ابن لادن، وفي تصريحاته هو أيام ابن لادن. بيد أنَّ الأهمَّ من ذلك في بيانات الظواهري تركيزُها على فلسطين وما يتصلُ بها، وليس على العراق والمدى الأَوسع، كما كان عليه الحالُ في السنوات التالية لأحداث عام 2001.
والذي أراهُ أنّ التركيز على فلسطين وفي هذه اللحظة بالذات، دون العراق له أسبابُهُ المُوجبة، والمتصلة بمتغيرات السياسات الأميركية والدولية في المنطقة، وبمتغيرات التحرك العربي باتجاه التصدي للمشكلات المشتعلة. وينبغي قبل معالجة مسائل المتغيرات أن نُلاحظ أنّ العراقَ ما عادت له أولويةٌ في خطط "القاعدة"، بعد مقتل أبي مصعب الزرقاوي، وبروز الأطراف العراقية المحلية في عمليات المقاومة ضد الأميركيين. فـ"القاعدةُ" بحكم طبيعتها وتنظيمها ليست جيشاً أو شبه جيش، بل قامت استراتيجيتُها دائماً على المجموعات الصغيرة التي لا تضربُ في المكان الواحد أكثر من مرةٍ واحدة، وتُفضِّل أن تكون الضربةُ هائلةً من الناحية الإعلامية إما من حيث فظاعة الطريقة، أو من حيث الخسائر. وكلُّ هذه أمورٌ ما توافرت بالعراق من قبل، واحتمال توافرها الآن أقلّ بكثير.
أما التركيز المستجدُّ على فلسطين ومن حولها فسببُهُ كما سبق القول متغيرات السياسات الأميركية والدولية، وظهور قيادةٍ عربيةٍ تتصدى للمشكلات بالحلّ. فعندما انطلقت "القاعدة" في عملياتها الهائلة بدءاً بـ11 سبتمبر 2001، كان الأميركيون يتجهون لخوض مواجهاتٍ عسكريةٍ في العالمين العربي والإسلامي، كما يتجهون لهدم كلّ شراكاتهم الدولية والإقليمية. الشراكاتُ الدوليةُ لأنها -في زعم "المحافظين الجدد"- تحولُ دون حفظهم للمصالح الوطنية الأميركية. والشراكات الإقليمية لاعتبارهم أنّ الأنظمة العربية والإسلامية عاجزة عن مواجهة الإرهاب أو ضالعةٌ معه، ولأنها غير ديمقراطية، وهي بالتالي لا تستحقّ الدعمَ بل التغيير لإعادة "تحبيب" الناس بالمُثُل الأميركية. وإذا كانت الإدارةُ الأميركية البوشية قد اعتبرت أنّ الشعب الأميركيَّ سيسير معها ضد الحلفاء الأوروبيين وغيرهم، لأنّ في ذلك سيراً مع مصلحته؛ فإنّ تلك الإدارةَ ذاتها اعتقدت -واهمةً أو مضلَّلةً- أنّ الشعوب العربية والإسلامية ستقبلُ تدخُّلها العسكريَّ باعتبار ذلك جالباً للديمقراطية(!).
بيد أنّ الذي حدث أنّ غزوها لأفغانستان والعراق، أحدث ردَّةَ فعلٍ عارمة لدى الشعوب العربية والإسلامية والأوروبية على حدٍ سواء. وقد سمح ذلك لـ"القاعدة" باستقطاب عناصر فتية جديدة في ديار العرب والمسلمين، وبين الأجيال الشابة في الجاليات العربية والإسلامية في البلدان الأوروبية. وبذلك استطاعت "القاعدةُ" الردَّ على الهجمة الأميركية بهجماتٍ مدمِّرةٍ في سائر أنحاء العالم، وضدّ المدنيين بشكلٍ رئيسي، لإثارة الرُعْب، وزيادة الكراهية ضد الولايات المتحدة. أمّا في المشرق فقد أعطاها الأميركيون بغزوهم للعراق، وإسنادهم لشارون في حربه على الفلسطينيين، الفُرصة لصنع مواجهة تكسبُهُا كثيراً في بعض عوالم العرب والمسلمين، باعتبارها تقاتل: "عدوَّ هذه الأمة، والمجرم الصليبي الشرير". ولذلك فقد أقبل الشبان المتحمسون على المشاركة آتين من دول الجوار، فأسهموا في تحويل العراق على الأميركيين جحيماً لا يُطاق. وما قصَّر "القاعديون" في استغلال انشلال المشرق العربيّ على يد الأميركيين؛ فقاموا بعملياتٍ في بلدان المشرق والمغرب، باعتبار أنَّ الأنظمة خاضعةٌ للاعتبارات الأميركية، ولا تقوم بواجبها في الدفاع عن مصالح العرب والمسلمين. وهكذا فقد شكلت سنوات المواجهة القاسية أُفُقاً رحباً لـ"القاعديين" وأنصارهم تحركوا فيها وضربوا في كلّ مكان؛ بحجة مواجهة الخطط والممارسات الأميركية.
وجاء عام 2006 بمتغيراتٍ كبيرةٍ وكثيرة. فشل الأميركيون بالعراق، وتصاعدت المواجهات ضدهم في أفغانستان. فبدأوا يغيّرون من سياساتهم وتكتيكاتهم. في التكتيكات ازداد اعتمادُهم على القوى المحلية، بحيث صارت المواجهات في الأكثر بين عراقيين وعراقيين، وأفغانٍ وأفغان. وفي السياسات بدأوا يتحدثون عن حلولٍ سياسيةٍ ودبلوماسية للمشكلات في العراق وفي فلسطين؛ بدلاً من القول إنه لا مفاوضة مع أحد إلاّ بعد القضاء على الإرهاب.
بيد أنّ المتغيّر الرئيسيَّ كان عربياً، وليس أميركياً. إذ بدأ العربُ وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية -التي عانت كثيراً من الإرهاب "القاعدي"- بالتحرك لمواجهة المشكلات وعلاجها. احتضن العربُ لبنانَ في حرب تموز وحموه، وناصرتْهم في ذلك الدول الأوروبية.. وأخيراً الأميركيون. ثم دعا الملك عبدالله بن عبدالعزيز الفلسطينيين إلى مكة حيث جرى التوصُّل إلى إقامة حكومة وحدةٍ وطنية. ودعا الملك عبدالله أيضاً إلى مؤتمر قمةٍ عربي أواخر شهر مارس المقبل لمتابعة علاج المشكلات، والنهوض بالمبادرة العربية للسلام. وها هو اليوم (الخميس في 15/2) يدعو لمؤتمرٍ إسلاميٍ من أجل إنقاذ الأقصى والقدس، ينعقد بإسلام أباد في 25 من هذا الشهر. وتساوقت مع هذه الخطوات تحركاتٌ دبلوماسيةٌ مع الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وتركيا وإيران وروسيا، ليس من أجل فلسطين ولبنان والعراق فقط؛ بل ومن أجل الحيلولة دون انفجار الصراع بين الولايات المتحدة وإيران بشأن "النووي".
وبذلك فقد تبين أنّ محاصرة التطرف والإرهاب، لا تكونُ بالغزو ولا بالحروب الاستباقية، ولا بالدعم العالمي للسياسات الإسرائيلية؛ بل بالتصدي للمشكلات القائمة بالحلّ، والحيلولة دون انفجار نزاعات جديدة، وإعادة التوازن إلى العالمين العربي والإسلامي في العلاقات الدولية، وفي التشارُك مع العالم الأوسع من مواقع الندِّيّة وصَوْن المصالح، والاعتماد المتبادَل وليس التقوقع أو التسليم أو الهياج العشوائي.
إنّ التطورات الحاصلة في المشرق العربي والخليج، والمتمثلة في فشل الاستراتيجية الأميركية، وبروز قيادة عربية تتصدى للمشكلات بالمعالجة، وتضع حداً للانقسامات، هي التي أثارت قلق الظواهري و"القاعدة". بل إنّ الأمر يتجاوزُ ذلك إلى تهديد قاعدة "القاعدة"، أي صرف ذلك القطاع من الشباب المتديّن عن التحلُّق من حولها، اعتقاداً منهم أنه لا علاجَ للعلاقة الفاسدة بين المسلمين والعالم إلاّ بإعلان الجهاد الشامل على العالم كلّه مرةً واحدة!
إنّ الذي أراهُ الآن، وقد بدأت هجمات الولايات المتحدة، وهجمات "القاعدة"، بالانحسار، في الوقت نفسِه، أنه لابد من متابعة سياسات الممانعة والتصدي عربياً وإسلامياً في العراق وفلسطين وأفغانستان والصومال؛ بحيث يجلو الأميركيون و"القاعديون" وأشباحهم وأشباههم عن ديار العرب والمسلمين. كما لابد من سحب البساط من تحت أقدام التطرف الإسلامي، بسياسات وممارسات المصالحة في الدواخل العربية والإسلامية، بحيث تنتهي من خلالها المجابهة الناشبة بين السلطات وقطاعات معتبرة من مجتمعاتنا في المشارق والمغارب.
قد يكونُ هذا التفاؤل مبكّراً بعض الشيء. بيد أنّ الذي لاشكَّ فيه أنّ التفاتة الظواهري إلى فلسطين أخيراً جاءت في غير زمانها وفي غير مكانها، وهي تستدعي الحذر لأنّ مساراً واعداً قد بدأ. ولله الأمر من قبل ومن بعد.