جريدة الجرائد

السودان: الجبهة وتقلباتها

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك


هل تحالفات حزب المؤتمر الوطني استدراج للقوى السياسية لتذوب فيه مقابل حصولها على أي شيء.. إلا السلطة؟


الخرطوم -اسماعيل ادم


برأي الصحافي السوداني المقيم في الولايات المتحدة فتحي الضو، في كتابه "محنة النخبة السودانية"، المتداول وسط النخبة السودانية، ان الزعيمين الدكتور حسن عبد الله الترابي، الأب الروحي للحركة الإسلامية السودانية، الممسكة، بشكل او اخر، بزمام السلطة في السودان، وخصمه التاريخي الصادق المهدي رئيس حزب الامة يتفقان في "الطموح وحب السلطة". غير أن الضو يعتقد أن المهدي تحققت له السلطة بالوسائل المشروعة، عبر الشورى، والديمقراطية، وقبول الآخر طوعاً لطرحه، او هي جاءت طوعا اليه، أما الترابي فإنه ظل يقفز الى مواقع السلطة "بميكافيلية متجددة"، آخرها عندما دبر الانقلاب العسكري في يونيو (حزيران) 1989، فيما يعرف بثورة الإنقاذ الوطني، وهو الانقلاب الذى برر الترابي حدوثه بأنه "خطوة لإقامة الدولة الإسلامية في السودان.. وفرصة لتعزيز فكرة تديين السياسة فى البلاد"، التي ظل يروج لها لعقود. بينما يرى خصوم الترابي بأن الانقلاب ما هو "إلا خطوة غير مشروعة سعى إليها الترابي لبلوغ السلطة". ويتفق مع الضو في اتهام الترابي بالضلوع في ميكافيلية متجددة، في تعاطيه مع القضايا العامة، ومن أجل الوصول الى السلطة، أغلب خصوم الترابي ومعارضيه. ومن نافذة الميكافيلية تلك، تنطلق تفسيرات أغلب المحللين، لأية خطوة سياسية، استراتيجية كانت أو تكتيكية، يخطوها الإسلاميون في السودان، المنضوون تحت مظلة الحركة الإسلامية، باعتبار أن أغلبهم، أي "الإسلاميين" تربوا، منذ نعومة أظافرهم، في كنف، وتحت عباءة الترابي. يقلدونه في كل شيء حتى في إيماءاته وابتسامته.

فيما يستدرك المحلل السياسي موسى يعقوب، المحسوب على حزب المؤتمر الوطني" لـ"الشرق الأوسط" حول الموضوع، بنفي تهمة الميكافيلية عن الحركة الإسلامية، ويرى أن الحركة تقوم أصلاً على التجدد والحركة والانفتاح، منذ تكوينها الأول باسم "جبهة الميثاق" في الستينات، ثم انتقالها الى "الجبهة الإسلامية القومية" في الثمانيات، وصولاً الى حزب المؤتمر الوطني كوعاء جامع يضم: الإسلاميين وغير الإسلاميين، فضلا عن "المتمردين على أحزابهم"، على حد تعبير ناشط في حزب المؤتمر الوطني طلب عدم ذكر اسمه، الذي قال إن التحالفات يمليها "فقه الضرورة" وهو الفقه الذي يضعه المعارضون في نطاق الميكافيلية عند الإسلاميين.

وتأسيساً على ما سبق، ينظر المعارضون لحزب المؤتمر الوطني الحاكم الى الإعلان المفاجئ للحزب، الأسبوع لماضي، على لسان أمينه السياسي الدكتور مصطفى عثمان اسماعيل بأن حزبه يسعى الى خوض الانتخابات المقبلة عبر "جبهة" تضم أحزابا أخرى ببرنامج موحد، ينظرون الى الإعلان من ذات النافذة التكتيكية الموروثة المندسة في جينات الاسلاميين يسعون عبرها لبلوغ الهدف أو الغاية بوسائل عديدة تساق لها تبريرات، قد لا تتقيد بضوابط ، وانها "خط وهمي قد يعين الحزب على عبور مرحلة مقبلة قد تشتد على الوطني المنافسة من القوى السياسية الأخرى، حسب الدكتور ابراهيم الأمين القيادي البارز في حزب الأمة المعارض، وقال الامين لـ "الشرق الأوسط" في هذا الخصوص إن حزب المؤتمر الوطني "كل تحالفاته مجرد استدراج للقوى السياسية ليذوبوا فيه مقابل حصولها على أي شيء إلا السلطة التي يعمل الإسلاميون بكل الوسائل على الاحتفاظ بها على انفراد دون غيرهم".

بينما يرى الدكتور الطيب زين العابدين القيادي الإسلامي البارز أن التحالفات التي يسعى الوطني الى خلقها في مقبل الأيام في شكل "جبهة"، هي ضرورة تمليها مرحلة أوجدت بعد تنزيل اتفاق السلام منافسين جددا أقوياء مثل الحركة الشعبية، ويعتقد زين العابدين في حديث لـ"الشرق الأوسط" أنها تكتيكية لعبور مرحلة، دون الابتعاد على مدار السلطة، الذي ظل الوطني يدور في فلكه طوال السنوات الماضية، بينما يستحسن موسى يعقوب فكرة التحالفات "باعتبارها تتسق مع فكرة الانفتاح على كل القوى السياسية الاخرى.. وهي فكرة نشأ عليها حزب المؤتمر الوطني"، ويضيف "وهذا من ميزاته الانفتاح على الجميع". ومهما يكن، فإن نجاح طرح حزب البشير فكرة خوض الانتخابات عبر جبهة، رهن بمدى قدرة الحزب على تبني برامج جديرة باستقطاب واستمالة القوى السياسية في الساحة فى اتجاه "الجبهة"، خاصة أن الحزب "لا يتمتع بسيرة جيدة في تحالفاته السابقة مع القوى السياسية"، طبقاً للدكتور ابراهيم الأمين، ونوه الامين فى الشان الى "إن الوطنى فقد ثقة الآخرين فيه بقدرته الفائقة على التنصل من الاتفاقات والتحالفات". غير أن المراقبين يرجحون بأن التوجه الأخير للحزب الحاكم في السودان نحو التحالفات، رغم ان صيغته لم تتحدد معالمها بعد، فانه لا ينفصل عن سلسلة تحولات كبيرة وصغيرة مر بها الحزب، منذ تكوينه، بل منذ أن كان أمشاجاً اخذت تتشكل، بعد أشهر قليلة، من الإنقلاب في العام 1989، تحت مسمى اللجنة السياسية.

ويرجح المتابعون، عن كثب، للتحولات في الحزب الحاكم في السودان ان اللجان التي تشكلت من اعضاء مجلس قيادة الثورة بعد الانقلاب، مباشرة، هي النواة الأولى لحزب المؤتمر الوطني، ثم تكونت النواة، وبدأت تتشكل، بعد قيام ما عرف بمؤتمرات "الحوار الوطني" في شتى المجالات. ابرزها مؤتمرات "الحوار السياسي والنقابي والاقتصادي والإعلامي، والدبلوماسي، والقانوني، وغيرها"، وقد اوحت تلك المؤتمرات، من خلال مقرراتها، وتوصياتها، وتنوع وحجم المشاركة في اعمالها للقيادة السياسية في ذلك الوقت، على رأسهم الترابي، بتاسيس كيان سياسي يوفر قدراً من المشاركة السياسية والانفتاح على الاخرين من غير الاسلاميين، ودونما المرور بمداخل الاحزاب والتحزب"، طبقاً لناشط اسلامي عمل في اللجنة السياسية بثورة الانقاذ الوطني، الذى اضاف: "كان الترابي يتحدث باستمرار عن كيان سياسي يستوعب المرحلة وعليه تمت الدعوة لقيام مؤتمر الوطني، السياسي، الذي شاركت فيه كل أو اغلب الوجوه التي شاركت في مؤتمرات الحوار"، وكانوا: "خليطا من الاسلاميين والمايويين وحزبيين وشخصيات مستقلة ورجال الاديان و القبائل" انتهت بمقررات مهدت السبيل الى اقامة "نظام المؤتمرات"، كشكل متدرج يبدأ من الحي الى المدينة إلى المحافظة الى الولاية ينتهي بالمؤتمر العام، من خلاله تتم عمليات الحكم والمشاركة في الحكم، وهو شكل زاوج بين نظام المؤتمرات الشعبية السائد في ليبيا، ونظام الاتحاد الاشتراكي الذي حكم السودان في عهد الرئيس السابق جعفر نميري "1969 ـ 1985م"، "وقد مهدت تلك المؤتمرات السبيل لقيام حزب المؤتمر الوطني، فيما بعد"، طبقا لمقربين من الوطني. ويقول ماجد يوسف العضو السابق في سكرتارية اللجنة السياسية لثورة الانقاذ، والامين العام للمفوضية القومية الدستورية حالياً انه "بالإضافة الى توصيات مؤتمرات الحوار وتجرية المؤتمرات المتدرجة هناك ظروف ومستجدات خارجية وداخلية حتمت تأسيس حزب المؤتمر الوطني مثل المطالبة الخارجية بضرورة والانفتاح من الشرعية الفورية الى الشرعية الدستورية".

ويعتقد يوسف في حديث لـ"الشرق الأوسط" ان المؤتمر الوطني تطور طبيعي للاوضاع ما بعد الانقلاب"، فيما يرى اسلاميون آخرون، ومن بينهم الدكتور عبد الرحيم عمر محيى الدين مؤلف كتاب "الترابي والانقاذ.. صراع الهوية والهوى"، يرون فكرة تكوين المؤتمر الوطني تتسق مع فلسفة الترابي منذ ثورة اكتوبر (تشرين الاول) عام 1964، والتي تقوم على ضرورة توسيع مواعين الحركة الاسلامية واستقطاب اكبر كم ممكن من قيادات وافراد المجتمع السوداني، والهدف من ذلك خلق حركة اصلاح كبيرة وقوية وفاعلة"، وهي الفكرة التي اطلق عليها محيي الدين "نظرية انعقاد أو الذوبان عند الترابي". وعليه، تم في النصف الاول من التسعينات من القرن الماضي تأسيس كيان المؤتمر الوطني، ويضم الاسلاميين والمسيحيين والجنوبيين ورجال الدين الاسلامي والطرق الصوفية والقبلية وشخصيات قومية وعددا مقدرا من المايويين "انصار حكم نميري"، وشدد المؤتمر الوطني في ديباجته بأنه ليس حزباً سياسياً وإنما وعاء جامعاً لكل أهل السودان، وجاء في قسم البيعة له على الآتي: "القيام بنشر الدعوة، والسعي والجهاد، لتمكين الدين في الحياة كافة، والتجرد من العصبيات الأهلية، ومن الحزبيات السياسية، ومن التشيعات الطائفية".

وضم الحزب الذي تولى فيه منصب الامين العام في "الكيان الجامع" العميد انذاك حسن حمدين، مجموعة من الاسماء اللامعة فى المجموعة التي نفذت الانقلاب، فضلا عن وجوه اخرى غير اسلامية مثل الخبير في نظام اللجان عوض الكريم موسى، وبعد عام ونصف العام نظم المؤتمر الوطني مؤتمرا عاما لعضويته على مستوى السودان، فانتخب الدكتور غازي صلاح الدين امينا عاما له، بعد منافسة مع الشفيع احمد محمد، فى عملية انتخابية تشكك في صحتها الكثيرون من اعضاء المؤتمر نفسه.

ويقول الناشط الاسلامي الدكتور عبد الرحيم محيي الدين لـ"الشرق الاوسط" تعليقا على هذه المرحلة ان فكرة "الكيان الجامع" هذه ابعدت قيادات الحركة الاسلامية عن الفعل السياسى، حيث تم حل مجلس شورى الحركة الاسلامية كمؤسسة وتنظيم" ودعا اعضاؤها الابكار الى حفل وداع وزعت لهم فيه المصاحف اعترافا بدورهم في ماضي الحركة وايذانا بانزالهم الى المعاش الاجباري".

ويضيف محيي الدين فى كتابه "صراع الهوية والهوى" انه بعد حل الحركة الاسلامية "صار البعض يحكم باسم الحركة حيث ذهبت المؤسسة وبقي الافراد يجتهدون حسب هواهم ومزاجهم ولا رادع ولا رقيب او حسيب عليهم بعد ذهاب المؤسسة الشورية"، ويقول "ورغم ان الشخص الذي اشرف على حل مجلس شورى الحركة الاسلامية ليس هو الشيخ حسن الترابي وانما هو الشيخ ابراهيم احمد عمر رئيس مجلس شورى الحركة الاسلامية يومئذ"، ويعتقد محى الدين ان" الترابي اخطأ وتعجل في حل الحركة الاسلامية بحجة توسيع المواعين وقيام جسم كبير لها هو المؤتمر الوطني.. هو المسؤول الاول عن كل ذلك لأنه الامين الذي اخذ الامانة".

وينبه الدكتور الطيب زين العابدين الى انه فى هذه الفترة بدا صوت الخلافات بين المدنيين والعسكريين، حيث يرى العسكريون بقيادة البشير ضرورة استمرار الحكم عسكريا يستند الى الشرعية الثورية، فيما يرى الترابي ضرورة الاستمرار في عملية الانفتاح، واشار زين العبدين هنا الى ان "كل العسكريين عدا محمد الامين الخليفة صوتوا في اجتماع شهير للحركة الاسلامية عقد في ضاحية العيلفون شرق الخرطوم لصالح الخط العسكري في الحكم، ولكن نهج الانفتاح بقيادة الترابي انتصر في الاجتماع"، ليتنامى من بعد لدى العسكريين خاصة الرئيس عمر البشير الشعور بالخطر من قبل المدنيين فتمسكوا بعسكريتهم كخط دفاع". ويرى محيي الدين ان حل مجلس قيادة الثورة نبه البشير الى احتمالات خطر قادم عبر تلك التحولات لصالح المدنيين". وفي الدورة التالية، انتخب الحزب الترابي لمنصب الامين العام للحزب، وكان يتولى في ذات الوقت منصب رئيس البرلمان، ليتوجه الحزب صوب تحولات سريعة ودرامية نحو الانفتاح وفقا "لفقه الاستطاعة"، الذي يسعى للتزاوج بين التحالفات من اجل الانفتاح والتمسك بالمبادئ الاساسية، حسب رأي المحل السياسي موسى يعقوب، او"لخلق شكل تعددي فقط لمواكبة الظروف المحلية والمحيطة"، طبقا للدكتور زين العبدين. فجاء الترابي بالدستور الانتقالي الذي جاء بقانون التوالى السياسى الذى سمح بوجود احزاب فى البلاد لاول مرة منذ وقوع الانقلاب، ولكن عبر التسجيل لدى مسجل التوالي السياسي، وكان اول الاحزب المقدمة على التسجيل هو حزب المؤتمر الوطني بذات فكرته القائمة على انه الكيان الجامع، وتوالت احزب صغيرة فى عملية التسجيل من بينها الحزب الاتحادي الديمقراطي المعارض، وحزب الامة جناح احمد المهدي، وحزب الامة المنشق بزعامة النور جادين حيث اندمج في وقت لاحق في المؤتمر الوطني.

واستمرت بورصة التسجيل في تصاعد الى ان بلغ عدد الاحزاب المسجلة نحو 12 حزبا صغيرا، ولكن رفض القوى السياسية بالداخل للتجربة فضلا عن الضغوط الخارجية لم يمكنا التجربة من الاستمرار بشكلها الاول ما اضطر الحكومة الى احداث تعديلات في قانون تسجيل الاحزاب بما يسمح بـالاكتفاء بـ"الاخطار" لدى المسجل، وأول من استفاد من التجربة حزب الامة الاصلاح و التجديد بزعامة مبارك المهدى، والمنشق عن الامة بزعامة الصادق المهدي.

وفي خضم "التوالي السياسي"، شهد حزب المؤتمر الوطني حالة من الشد بسبب خروج صراع الاسلاميين الذين يشكلون "ثورة الانقاذ الوطني في السودان" الى السطح في عام 1998، وبدأت خطوات المفارقة بين المدنيين والعسكريين عمليا عندما تسرب ان الى صحافة الخرطوم بأن الترابي الذي كان يشغل منصب رئيس المجلس الوطني "البرلمان" سيستقيل من منصبه ليتولى أمانة حزب المؤتمر الوطني الحاكم "بمفهوم تحول الانقاذ من وضع حزب الحكومة الي حكومة الحزب" وفعلاً جرى انتخاب الترابي للمنصب الجديد في فبراير (شباط) 1998 وسط إشارات بتصدعات هنا وهناك في الجسم الحاكم في البلاد. وبعد ثلاثة أيام من هذه الخطوة لقي نائب الرئيس السوداني آنذاك الفريق الزبير محمد صالح مصرعه في حادث سقوط طائرة في جنوب البلاد ينشأ فراغ في المنصب، قرر الحزب الحاكم سده فدفع ثلاثة أسماء للبشير لاختيار واحد منهم للمنصب وهم: الدكتور الترابي، وعلي عثمان محمد طه، والدكتور علي الحاج محمد وذلك حسب الدستور، وقام البشير باختيار علي عثمان طه نائباً لمنصب النائب الأول، ولكن الترابي استقبل الخطوة في نطاق انها تشكل بداية رفض له بشكل أو آخر من قبل الرئيس البشير. واحترس زعيم الاسلاميين عن خطوة التخلي عن البرلمان والتفرع للأمانة العامة للحزب.. وبدأ يتحرك في اتجاهين لاعادة سطوته التي أشار عدم اختياره لمنصب النائب الأول الى أنها بدأت تخبو.

وفي العاشر من ديسمبر (كانون الاول) 1998م فاجأ عشرة من قيادات المؤتمر الوطني اجتماعاً لمجلس شوري الحزب بمذكرة تحدثت لأول مرة عن هيمنة الترابي على الأداء في الحزب بصورة تقدح في هيبة الدولة وطالبت بتقليص صلاحياته كأمين عام للحزب، وتخويل بعضه الى رئيس الجمهورية ورئيس الحزب البشير، ولقيت المذكرة هوى في نفوس المشاركين فمرروها وسط غضب الترابي وأعوانه، ومن ابرز الموقعين على المذكرة الدكتور ابراهيم احمد عمر والدكتور غازي صلاح الدين وسيد الخطيب وحامد علي تورين والدكتور نافع علي نافع، وبهاء الدين حنفي. ومن البرلمان بدأ الترابي يحضر نفسه لمعركة جديدة مع البشير عبر زيارات الى ولايات البلد خصصها لاستقطاب أنصار له في المعركة المقبلة قدر أن تكون ساحتها المؤتمر العام للحزب في اكتوبر 1999م، وفعلاً في هذا المؤتمر وجه ضربة قوية للرئيس البشير حيث اقصى انصاره من الموقعين على مذكرة العشرة حيث جرى إبعادهم عن المكتب القيادي وهيئة الشوري وعلى رأس الذين طالتهم الضربة البروفيسور إبراهيم أحمد عمر.

ولم يتوقف الترابي، الموصوف بالعناد، عند ذلك الحد إذ كثف من خلال البرلمان حملات استدعاء لوزراء حكومة البشير وفتح من خلالها ملفات ساخنة مثل ملف طريق الانقاذ الغربي وملف محاليل كور وأخرى. ونظم فيما بعد مؤتمرا للحكم الاتحادي أصدر توصية بانتخاب الولاة بدلاً عن الانتخاب عبر كليات بواسطة رئيس الجمهورية البشير، وألحق الترابي التوصية بمقترح للبرلمان بتعديلات دستورية تحمل الى جانب المقترح مقترحاً آخر باستحداث منصب لرئيس الوزراء وهو المنصب الذي يتولاه البشير، فاشتعلت المعركة بين الرجلين القويين في الانقاذ فتدخل البشير بقوة وأبطل مفعول مقترح التعديلات قبل أن يمر في البرلمان وذلك بأن أصدر قرارات في 12 ديسمبر (كانون الاول) 1999م عرفت باسم قرارات الرابع من رمضان، حل بموجبها البرلمان وبالتالي أقصى الترابي من منصبه وجمد مواد في الدستور تتعلق باختيار الولاة عبر كليات انتخابية مما يعني تعيينهم من قبل البشير. وانفتحت المعركة بين الطرفين على كل الابواب وصار اللعب على المكشوف بين الرجلين، و تجلى النبش في الملفات "المستورة"، وفي الخامس من مايو (ايار) 2000 دعا الرئيس البشير الى اجتماع ضخم لأنصار حزب المؤتمر الوطني قصد أن يقام داخل دار الحزب وعبر الاجتماع الذي عرف بنفرة رمضان وجه البشير هجوماً عنيفاً الى الترابي واتهمه لأول مرة صراحة بالعمل على إسقاط نظام الانقاذ.

وأصدر البشير صباح اليوم التالي قراراً بحل الأمانة العامة لحزب المؤتمر الوطني التي يرأسها الترابي وقبل أن تطوق مجموعة من الأمن دار الحزب وتفرض عليه حظر الدخول. ليفقد الأخير آخر مناصبه ومعاقله الرسمية، واستمر البشير في خطه التصعيدي ضد الترابي فدعا الى اجتماع لمجلس شورى الحزب الحاكم في 26 يوليو 2000م انتهى باعتماد قرارات إقصاء الترابي من الأمانة وأعاد وانتخب البروفيسور إبراهيم أحمد عمر رئيساً لمجلس الشورى بصفة مؤقتة، ليعلن الترابي على الاثر المفاصلة النهائية مع خصمه بتشكيل حزب مواز باسم "حزب المؤتمر الشعبي". ووقعت من بعد "الردة فى عمل الحزب"، حسب المعارضين، وطبقا للدكتور محيي الدين الذي رأى "ان كل الحزب الان صار يجري بسرعة فائقة للوصول بالرئيس"، ويقول "عندما يقسم الرئيس في لقاء حاشد يبدأ الحزب في عمل منهمك لتكييف الاشياء وفقا للقسم"، وفي الصدد يقول الطيب زين العابدين "ان كل شيء من بعد داخل الحزب الوطني صار في يد الرئيس البشير".

ومع ذلك يعتقد المحللون ان الوطني نجح لحد كبير في تمرير سياسة تبديل الاوراق لوقت طويل مع القوى السياسية ومع الضغوط الخارجية الضالعة في ملفي الجنوب ودارفور على وجه الخصوص، وهذا ما يرفع الامل عنده بالمواصلة، وفقا لتصريحات مصطفى عثمان إسماعيل بان "الأداء المهني والسياسي البحت لحزبه يتفوق على أحزاب المعارضة التي ليس لها من برامج سياسية واضحة، اللهم إلا بحساب أن الهجوم على المؤتمر الوطني يمكن له أن يعتبر برنامجا سياسيا". ويسند تصريحات اسماعيل محللون يرون ان التحالفات التى يسعى الحزب لتشكيلها مع آخرين لخوض الانتخابات ستنجح لحد ما تكتيكيا في اطالة قبضة الانقاذ بالسلطة، وستكون القبضة " قوية وفاعلة" في حال افلح الحزب في جذب حزب من احزاب المعارضة التقليدية الى هذه "الخانة"، خاصة الحزب الاتحادي الديمقراطي بزعامة محمد عثمان الميرغني، ولكن بين الحزبين الان "ما صنع الحداد".

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف