خيار «هنية»: الخيار الذي لا خيار غيره
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
صالح القلاب
ما كان من الضروري وضع حجج ومبررات في أيدي الأميركيين، قبل الإسرائيليين، حتى يذهبوا الى اللجنة الرباعية المعنية بالسلام في الشرق الأوسط التي انعقدت في برلين قبل يومين بشروطهم المعروفة، ويؤجلوا مسألة فك الحصار المضروب على الشعب الفلسطيني منذ فوز حركة "حماس" بالانتخابات التشريعية الفلسطينية، وتشكيل الحكومة السابقة التي بقيت تتصرف بعقلية "الميليشيات" الحزبية ولم ترتق بأدائها الى المسؤولية الوطنية الشاملة. غير صحيح ان الدول العربية التي أبرمت اتفاقيات سلام مع إسرائيل لم تعترف بهذه الدولة وبوجودها، إلا بعد إبرام هذه الاتفاقيات. والمعروف أن كل الدول العربية التي ذهبت الى مؤتمر مدريد الشهير، وسوريا في مقدمة هذه الدول، كانت قبل أن تذهب قد وافقت على قرار مجلس الأمن الدولي المعروف رقم 242 الذي يتضمن نصاً صريحاً بضرورة الاعتراف بالدولة الإسرائيلية، وعدم المس بأمنها واستقرارها.
إنه غير مطلوب وغير ضروري أن تعترف حركة "حماس" كحركة، وكحزب سياسي، بالدولة الإسرائيلية، لكن على الحكومة الفلسطينية التي يجري تشكيلها بصفتها حكومة منظمة التحرير، وحكومة الشعب الفلسطيني كله، أن تعترف بقراري مجلس الأمن الدولي رقم 242 و 338، وبالمبادرة العربية، وبكل الاتفاقيات التي وُقّعت مع الإسرائيليين، وفي مقدمة ذلك اتفاقيات أوسلو، وكل ما ترتب عليها من تفاهمات رئيسية وثانوية.
كل الدول العربية، حتى غير المعنية مباشرة بالصراع مع إسرائيل، وافقت على المبادرة العربية، والآن فإن كل الجهود التي تبذل وكل التحركات التي تجري جميعها تدور حول هذه المبادرة التي هي السلاح الوحيد الذي يواجه به العرب في هذه المرحلة المجتمع الدولي واللجنة الرباعية والولايات المتحدة والغرب والشرق.
لقد فُهِمَ إحْلال كلمة "الاحترام" محل كلمة "الالتزام" وفقاً لاتفاقية مكة المكرمة التي إن هي فشلت، لا سمح الله، فإن السلاح سيظهر مجدداً في الضفة الغربية وقطاع غزة، وستشتعل الحرب الأهلية، المرفوضة والمحرمة، على أقسى وأعنف وأشد مما كانت عليه.. لقد فُهِمَ استبدال هذا الإصطلاح بذلك على أنه من قبيل التدرج نحو الهدف المطلوب وهو أن تعلن الحكومة الفلسطينية جهاراً ونهاراً وبدون أي لبس أو إلتواء بأنها تلتزم بكل ما تلتزم به منظمة التحرير، التي هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني كله بكل فصائله وأحزابه ونقاباته وهيئاته ومؤسساته. لا يجوز الاستمرار بالاختباء وراء الأصبع، فالمُواربة سياسة غير قابلة للاستمرار والمساحة الرمادية بالإمكان التوقف فيها لبعض الوقت، لكن في النهاية لا بد من مواجهة الشعب الفلسطيني، الحائر الآن بين قوتين تتجاذبانه، بحسم المواقف بكل وضوح وصراحة وبالاختيار بين الأسود والأبيض.
حتى لو تأخر تشكيل حكومة الوحدة الوطنية، التي تصطدم الآن بعقبة توزيع الغنائم على فصائل، بعضها لا يوجد منها على ساحة الواقع الفعلي إلا الأسماء والأمناء العامون، فإن أول عمل من المفترض ان تقوم به هو التوجه الى الشعب الفلسطيني والى العرب كلهم والى العالم كله بأنها تعترف بمبادرة السلام العربية وأنها ذاهبة الى العملية السلمية بدون إلتواء ولا مواربة.. وبعدها فإن عليها أن تقف للإسرائيليين في منتصف الطريق وتطالبهم بالانسحاب من آخر شبر من الأرض التي احتلت في حرب يونيو (حزيران) عام 1967، وبعودة اللاجئين وبكل ما نصت عليه القرارات الدولية.
أما أن تبقى الحكومة الفلسطينية التي يجري تشكيلها الآن تواجه شعبها والعالم بكلمة "لعم" وبصيغ حمالة أوجه وبمفردات غير قابلة للإعراب ولا للترجمة الى اللغات التي صدرت بها القرارات الدولية فإن هذا معناه وضع كل الحجج بأيدي الإسرائيليين، وبأيدي الأميركيين قبل الإسرائيليين، ليبقوا يتهربون من دفع الاستحقاقات التي يجب ان يدفعوها والتي يعتبر تأجيل دفعها تركاً للأبواب مفتوحة أمام الكوارث المقبلة. ربما يستطيع الرئيس محمود عباس (أبو مازن)، الذي يقوم برحلات كرحلات ابن بطوطة، تأجيل الرد الفلسطيني المطلوب من قبل العالم كله بحجة ان الحكومة الفلسطينية المطلوبة لم تتشكل بعد، أما بعد ذلك وبعد ان تتشكل هذه الحكومة، هذا إذا شُكلت، فإنه لن تعود هناك هذه المفردات حمالة الأوجه ولا سياسة الاختباء وراء الأصبع، فإما أبيض وإما أسود، والبضاعة الرمادية لن يكون بالإمكان تسويقها لفترة أخرى. كان الاعتقاد ان الرئيس محمود عباس قد حصل على تفويض صريح، بموجب اتفاق مكة المكرمة، بأن يتحرك بحرية كاملة وأن يفعل كل ما يتوافق مع الرغبة الدولية، وكان الاعتقاد أن التمسك بمفردة "الاحترام" بدلاً من "الالتزام" سيكون مرتبطاً بفترة انتقالية تنتهي مع انتهاء تشكيل الحكومة التي يجري تشكيلها حيث بعدها يتم الإعلان عن أن "الاحترام" يعني "الالتزام" وأن "خارطة الطريق" هي مبادرة السلام العربية.
إن "حماس" غير مُلزَمةٍ كحركة حزبية بأن تعترف بإسرائيل، لا الآن ولا بعد ألف عام، أما الحكومة الفلسطينية فإنها يجب أن تتخلى عن ترددها وأن تعترف مسبقاً، وحتى قبل استئناف العملية السلمية، بقراري مجلس الأمن الدولي رقم 242 و 388 وبخارطة الطريق وباتفاقيات أوسلو وبمبادرة السلام التي تبناها العرب في قمة بيروت وتبنتها كل القمم العربية اللاحقة.
هناك خيار واحد، ولا يوجد أي خيار غيره، هو التحلي بالشجاعة الواعية المطلوبة والاستجابة لرغبة الشعب الفلسطيني في الذهاب الى عملية السلام من الأبواب العريضة، فاستخدام المفردات المطاطة، إن كان ممكنا لبعض الوقت، الا انه غير ممكن للوقت كله، ولذلك فإن اول ما يجب ان تقوم به الحكومة الفلسطينية، هذا إن هي تشكلت بالفعل، هو الاعتراف بكل ما هي مطالبة بالاعتراف به بدون خجل ولا وجل ولا تردد.
لقد سقطت كل الرهانات السابقة التي كانت تنتظر التحرير الكامل من البحر الى النهر الذي وعدت الفلسطينيين به كل الانقلابات العسكرية وكل "الثورات" التي تحولت الى مصائب لشعوبها ولشعوب المنطقة كلها، ولذلك فإنه لم يعد أمام هذه الحكومة التي يجري تشكيلها سوى التعامل مع الواقع بكل مسؤولية، فسياسة "إما كله وإلا بلاش منه" سياسة عقيمة وبائسة لم تجر على الشعب الفلسطيني إلا الخراب والدمار والويلات.
لسنوات طويلة بقيت القضية الفلسطينية تَغْرق بالشعارات الطنانة، وكل الانقلابات العسكرية بدأت بياناتها التي حملت الرقم 1 بالتبشير بتحرير فلسطين من البحر الى النهر، وهكذا بقي الشعب الفلسطيني ينتظر تحقيق ما وعد به الانقلابيون العرب إلى أن خسر وطنه كله وألحق ما أُحتل منه في عام 1967 بما أُحتل منه عام 1948.
في سنوات عقد ستينات القرن الماضي رفع الحبيب بورقيبة، رحمه الله، شعار: "خذْ وطالب" ، وقد قيل فيه بسبب هذا من قبل تجار شعارات التحرير أكثر مما قاله مالك في الخمر، ولقد ثبت بالنتيجة أن ما قاله الرئيس التونسي السابق هو الحقيقة التي لا حقيقة غيرها ، وأن الواقعية تقتضي التعامل مع الواقع للحصول على ما يمكن الحصول عليه.