رايس في القدس: وزيرة خارجية.. أم سيدة صالون سياسي؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
بلال الحسن
إنها حرب النساء ضد الرجال. هكذا يصف الإسرائيليون فشل اللقاء الثلاثي في القدس بين كونداليزا رايس ومحمود عباس وإيهود اولمرت. وهي حرب تخوضها تسيبي ليفني وزيرة الخارجية ضد اولمرت، بسبب طموحها للوصول إلى منصب رئيس الوزراء بدلا منه. وهي حرب تخوضها رايس ضد محمود عباس، الذي خرج عن نطاق الخطة الأميركية الداعية إلى قسمة حلف المعتدلين ضد حلف المتطرفين، نحو نطاق خطة عربية للمشاركة السياسية أطلقها اتفاق مكة.
لقد أسفرت هذه الحرب عن فشل اللقاء الثلاثي. وبدلا من أن يبدأ تفاهم أولي بين عباس واولمرت، تطور الأمر إلى خصومة معلنة بينهما. والجديد في هذه الخصومة تجاوز الخلاف في المواقف والرؤى بين الفلسطينيين والإسرائيليين حول آفاق وتفاصيل التسوية السياسية، إلى بداية تدخل إسرائيلي فج بمسيرة الوضع الفلسطيني الداخلي. فاولمرت يصرخ في الاجتماع معلنا رفضه لاتفاق مكة، ورفضه لتفاهم حركة فتح مع حركة حماس، حتى أنه وصف موقف الرئيس محمود عباس بأنه خيانة له. وهو موقف غريب من نوعه، يريد أن يضع الرئيس الفلسطيني في تحالف مع اولمرت ضد القوى الفلسطينية، وضد التحالفات الفلسطينية العربية. هنا يبيح اولمرت لنفسه أن يتحالف مع أقصى المتطرفين الإسرائيليين، ويضمهم إلى حكومته (ليبرمان)، ويرفض أن يقدم عباس على خطوة تفاهم وتحالف مع طرف فلسطيني أساسي (حماس) على خطة عمل، اعتبرت باتفاق الجميع، خطة منطقية ومعتدلة.
وهناك خلاف آخر في هذه الخصومة يتجاوز مسألة التحالف بين فتح وحماس، يتعلق بمنظمة التحرير الفلسطينية، فأولمرت يصعد من تدخله في الشأن الفلسطيني إلى حد الإعلان عن رفضه أن تكون منظمة التحرير الفلسطينية ممثلة لكل الفلسطينيين في أية مفاوضات مع إسرائيل. واللافت للنظر هنا أن إسرائيل كانت قبل أسابيع تقبل التفاوض مع عباس بصفته رئيسا لمنظمة التحرير، عندما كان في خلاف معلن مع حركة حماس، ولكنه الآن يرفض التفاوض معه بهذه الصفة بسبب اتفاق مكة، وبسبب تحالفه مع حماس في حكومة وحدة وطنية. كذلك فإن اولمرت يطلب باسم إسرائيل ضرورة اعتراف حكومة الوحدة الوطنية بإسرائيل، ولكنه يرفض التعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية، التي أعلنت وثيقة الاعتراف بإسرائيل عام 1993. إن التناقضات واضحة للغاية في مواقف اولمرت، وهذه المواقف كما يبدو ليست خطة سياسية بقدر ما هي عملية حشد لأية حجة ممكنة من أجل إفشال أية عملية للبدء بالحوار حول التسوية السياسية. إن إسرائيل هنا هي التي تبادر إلى ما يشبه إلغاء الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، التي وقعت الاتفاقات معها، بينما هي تدعو في الوقت نفسه إلى التزام الفلسطينيين جميعا بهذه الاتفاقيات.
إذاً ماذا تريد إسرائيل؟ إن الأمر يبدو مهزلة، أو مسرحية هزلية ثقيلة الظل، تشرف على إخراجها كونداليزا رايس، وتبدو المخرجة في هذه المسرحية فاشلة للغاية، ولا تملك من كفاءات المخرج سوى أنها تجلس على كرسيه. ولا يبدو بعيدا عن التصديق أن نقول إنها أوعزت لاولمرت بأن يفعل كل ما يستطيع لكي يفشل الاجتماع، لتعود هي وتطرح بنود السياسة الأميركية التي تريدها. وهي تريد فقط أن يتكرس الانطباع بأن الولايات المتحدة لا تزال مهتمة بعملية التسوية السياسية، وأنها تبذل الجهود من أجل ذلك، فقد جاءت لاجتماع مقرر من قبل، وستعود للمشاركة في اجتماع آخر بعد فترة، أما ما ستسفر عنه هذه الاجتماعات فهو أمر غير مهم في هذه المرحلة. هذا من حيث الشكل، أما من حيث جوهر الموقف الأميركي، فهو أيضا ضد اتفاق مكة، وضد كل ما يؤدي إلى وقف الاقتتال الفلسطيني، لأن ذلك يشكل مدخلا لنسف نظرية التحالف مع المعتدلين العرب ضد المتطرفين العرب، وهي تريد لهذه النظرية ان تستمر لكي تبقى حالة الاختلاف والتمزق قائمة في المنطقة العربية. وفي الحقيقة ان الإعلان عن فشل الاجتماع الثلاثي تم قبل أيام من انعقاده، وبمبادرة من الرئيس الأميركي جورج بوش، حين اتصل هاتفيا مع اولمرت وابلغه أنه يعارض اتفاق مكة، وشجعه على أن يعلن هو أيضا معارضته للاتفاق، ولذلك فإن رايس حين جاءت كانت تعرف سلفا أن اللقاء سيفشل، وهي تأمل في أن يؤدي فشل اللقاء إلى فشل اتفاق مكة، وإلى فشل اتفاق حكومة الوحدة الوطنية، وإلى عودة الاقتتال الفلسطيني، ولذلك حولت نفسها من وزيرة خارجية دولة عظمى إلى سيدة صالون سياسي، يجمع المتخاصمين من أجل أن يتعاتبوا حتى ينفض السامر.
المسألة إذاً ليست مسألة غضب انفجر به اولمرت أمام عباس، بل هي عملية منظمة متسلسلة تم إخراجها من دون اتقان، حتى أنها مكتوبة في النص المسرحي المعد سلفا.
إن الولايات المتحدة تريد إفشال اتفاق مكة لأسباب تتعدى اتفاق فتح مع حركة حماس، إنها تريد في العمق تحقيق أمرين:
الأمر الأول: إفشال التحرك السعودي، الذي هو في جوهره مسعى لبلورة موقف عربي أقوى من المواقف السائدة، يعلن عن دعم فكرة الشراكة السياسية الفلسطينية، مع الاستعداد لدعم هذه الشراكة، وتوفير المناخ العربي والدولي لفك الحصار المالي عن الشعب الفلسطيني.
الأمر الثاني: إن هذا الموقف السعودي يأتي قبل موعد انعقاد القمة العربية في أواخر شهر آذار/مارس المقبل في الرياض. وفي القمة هذه لا بد للموقف السعودي من أن يعبر عن نفسه، وأن يحاول بناء موقف عربي، يقف على مسافة من الخطط الأميركية الخاصة بالمنطقة العربية. إن الولايات المتحدة ترى في هذا التحرك خروجا عن إرادتها، ولذلك فإنها تعمل كل ما هو ممكن لإفشاله، ولكنها لا تستطيع أن تخوض هذه المعركة بشكل علني، لأنها لا تستطيع أن تغضب السعودية بشكل علني، لذلك فإنها تلجأ إلى سياسة التجاهل، كما فعلت رايس في اللقاء الثلاثي، وفي تصريحاتها بعد اللقاء الثلاثي.
وهنا تبرز مسؤولية فلسطينية كبيرة، عنوانها الأساسي العمل على إنجاح اتفاق مكة وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية. والسعي في هذا الاتجاه هو مصلحة فلسطينية بحد ذاته، مصلحة تقوم على وقف الاقتتال وتكريس الشراكة السياسية، وإحياء منظمة التحرير الفلسطينية. ولكن الأمر يتجاوز المصلحة الفلسطينية إلى المصلحة العربية، فالتزام الفلسطينيين بتنفيذ اتفاق مكة يوجد المناخ الذي يهيئ لالتزام عربي بموقف أقوى من الموقف الراهن حين تنعقد القمة العربية. ووجود السعودية على رأس هذا المسعى أمر له دلالته أيضا، هذه الدلالة التي لا تخفى على أحد، وهي تنطوي على توجه نحو سياسة عربية تنطلق من خدمة المصلحة العربية لا من العمل حسب المصلحة الأميركية.
وهنا يبرز موضوع فلسطيني آخر له تراثه المديد في النضال الفلسطيني المعاصر، وخلاصته أن الموضوع الفلسطيني لا بد أن يبقى موضوعا عربيا، وأن على أي مخطط فلسطيني أن يستند إلى قاعدة عربية ليتمكن من مواجهة الضغط الإسرائيلي ـ الأميركي، بعد أن تم تجريب التكتيك الآخر، الذي يعمل حسب منهج فلسطيني بحت، يقف منفردا أمام إسرائيل، ثم لا يجني سوى ما رأيناه من تعنت إسرائيلي. ولقد آن الأوان بعد كل التجارب المريرة، أن تدرك القيادات الفلسطينية حاجتها إلى رسم استراتيجية نضالية تقوم على أساس تحالف فلسطيني ـ عربي، إذ لا يكفي القول إن رايس ستعود إلى المنطقة من جديد، وإن لقاء جديدا سيتم مع اولمرت، ذلك أن المخطط الإسرائيلي واضح وضوح الشمس، وهو جزء من المخطط الذي يعمل على تفتيت المنطقة، والخروج من المأزق هو بقيام تحالف عربي ـ فلسطيني وليس بمواصلة مفاوضات عبثية لا تنتهي مع الجانب الإسرائيلي.
وإذا كان هذا هو رأينا، فلنسمع رأيا إسرائيليا أعلن عنه الكاتب ألوف بن (هآرتس 20/2/2007) قال فيه: إن اولمرت يريد بلورة موقف جديد، يريد أن يشرح لعباس ماذا سيخسر إذا ما طبق الاتفاق مع مشعل (اتفاق مكة)، سيخسر مكانته كشريك في المفاوضات، ومن الأفضل له أن يبقى في موقف المعتدل والضعيف الذي لا يقوى على فعل شيء سوى التفاوض الوهمي حول أفق سياسي غامض.
وهذا ما لا نريده للرئيس الفلسطيني، لأن التفاوض حول أفق سياسي واضح يحتاج الى سياسة ضاغطة غير قائمة الآن، ويحتاج إلى رافعة عربية غير موجودة الآن، ولعلها تولد في القمة العربية المقبلة.