في رثاء جوزيف سماحة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
موتٌ كموتكَ قَتْل
أنسي الحاج
كنتَ كثيراً على قلب الظلام المحيط. الجوقات الموحَّدة تضيق بالمنفردين. البيئة تعاقِب، يعاونها الموت المستهزئ. صنوان. الموت ضَحْل ومملّ كالبيئة، كالسلطة. يتكافل وإيّاهما في القتل. موتٌ كموتكَ قَتْل. ليس لك وحدك بل لصحافة، لقارئ، لصديق، لأمل.
كثيرون مثلي يقولون الآن: ليتنا لم نعرفه.
***
الصحافي اللاشخصي أصبح شأناً شخصيّاً لكل قارئ. أنجح محامي القضايا المظلومة. مطالعاته اجتهادات أمام جمهور متناقض في مسائل تمشي معظم التيارات عكسها، وتنتهي المطالعة بإقناع "الأعداء"، أو على الأقل برمي الشكّ في نفوسهم. شرط أن يتوافر لهم حد أدنى من الشفافية. ذَكَرَ مرّة في إشارة إلى صديق له "من الفريق الآخر": "قلت له: أنت وأميركا غلبتمونا في كل شيء.
تغصّون بهذه المساحة الصغيرة الباقية لنا ننتقدكم فيها؟". جوزف سماحة هو الصحافي الآخر، نقيض ما اعتادته الصحافة العربية. هو صحافي التحليل والمعلومات وهي صحافة التوجيه الوعظي المباشر. لم يكن يختلف في شيء عن معلّقي كبريات الصحف الأوروبية والأميركية غير كونه يكتب بالعربيّة. هو صحافي الثقافة الشاملة والعرب صحافة الأيديولوجيا والخطابة. بقعة ليّنة في مساحة متحجّرة.
شمولية متواضعة كشمولية المعلّمين. سخرية نبيلة، مترفّعة، عفويّة، مفاجئة وسط رصانته كمفاجأة طفولة تَخْرج فجأة من كهولة. رأسُ جيل من الصحافيين اللبنانيين غيّروا وجه الصحافة العربيّة وخرّجوا تلامذة لا يزالون يغيّرونها نحو الأحدث.
منتهى اللاقمع في ممارسته رئاسة التحرير. الأكثر ديموقراطية بين جميع من عَرَفت. كان يقول لمن يستشيره في ما يكتب: "اكتب ما تريد، حتّى لو كان ضدّ سياسة الجريدة". حين تفرغ من قراءة مقاله يُخيّل إليك، لكثافة ما فيه من علم ومعلومات ولقوّة التركيز وبراعة الحجّة وابتكار المعادلات التعبيرية، أنه سيمرّ وقت قبل أن يستجمع قواه ويكتب المقال التالي. ولا يكاد الصباح يطلع حتى يأتيك باللاحق أدسم من السابق.
"أكثر ما أُدْهَش هو حين أقبض راتبي آخر الشهر. أقول في نفسي: "يا رجل، لماذا يدفعون لك؟"، فليس عندي أمتع ممّا أعمل في الجريدة. أنا من يجب أن يدفع لهم".
أو يقول، هو الذي يصل مع الصباح وينصرف مع الفجر: "كلّما ذهبتُ إلى البيت شعرتُ بالذنب".
أيّها الراهب العلماني البريء من أيّ تعصّب، أيّها الرقيق المعتذر من ظلّه، السخيّ بصداقة لا يضاهي صمتَها إلاّ فاعليّتُها، تكدّستْ فيك الوحدة حتّى فاضت. تكدَّس فيك حزن الأرض تحت نقاب الابتسامة. ليس الجهلُ ما يَقْتل بل المعرفة. المعرفة، الوعي، حدّة وعيك، كلّها تَنْقل الموت. موت المرهَفين. كل شيء يَقْتل المرهفين، وأنت من سادتهم.
والفراغ الذي تتركه لن يملأه إلاّ الشعور أكثر فأكثر بفراغك.
رحيــل "القـلـم الأخضــر" فـي صحافــة لبــنان: جــوزف سـماحــة
طلال سلمان
"بهدوء"، كما تعوّد أن يكتب "القلم الأخضر"، رحل جوزف سماحة..
"بهدوء" وكما عوّد أهله وأصدقاءه، المعجبين بكتاباته والمنزعجين من موقفه المعزز باتساع معرفته، رحل جوزف سماحة، بغير وداع، هو الذي قصد لندن ليكون إلى جانب رفيق عمره و"منافسه" حازم صاغية فيودع معه صديقة عمريهما المبدعة مي غصوب.
"بهدوء" أخلى مكتبه وبيته و"الافتتاحية" التي طالما شكّلت علامة فارقة في الصحافة في لبنان خاصة وفي الصحافة العربية عموماً، وهي التي كان يجد فيها القارئ ما يساعده على أن يفهم كيف يصنع "القرار"، وأين يصنع، وبمن، ليكون من ثم قدرنا إذا ما عجزنا عن مقاومته وإفشاله.
لقد انكسر واحد من الأقلام هي بين الأغنى ثقافة، والأصلب في مقارعة الغلط، والأكثر استنارة، والأقدر على استيلاد الأفكار البكر والمؤهلة لأن تجدد في نمط الإنتاج الصحافي بحيث يغدو أقرب إلى العصر.
"بهدوء" غادر جوزف سماحة المشروع الصحافي الجديد الذي يحمل الكثير من بصماته، الزميلة "الأخبار"، وقد وضع له أسس انطلاقته مع الزميل إبراهيم الأمين ومجموعة من أبناء المهنة وأهل الرأي، ولكننا في "السفير" نستشعر الفقد بقدر ما يعيشونه وأكثر، لأنه في "السفير" نشأ ومعها كبر، وإليها أضاف بعض ما نعتز به فيها.
لقد استحق جوزف سماحة، وبجدارة، أن يحتل موقع الرأي في "السفير"، وأن يكتب افتتاحيتها لسنوات طويلة، ومن حقه اليوم أن يحتل بخبر غيابه المفجع رأس "السفير" التي فيها خطا خطواته الأولى في الصحافة، وفيها تعلم وأخذ من أساتذة كبار في هذه المهنة ـ الرسالة، بينهم من قضى نحبه اغتيالاً أمثال الراحلين إبراهيم عامر وناجي العلي، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً مثل بلال الحسن ومحمد مشموشي وميشال حلوه وغيرهم كثير..
ولقد جاء جوزف سماحة ومعه رفيق عمره حازم صاغية، أعانه الله على مصابيه، إلى "السفير" وهي مشروع ـ جنين. كانا يحملان الحلم بالتغيير، والرغبة بأن يساهما في ولادة "جريدة مختلفة": صريحة في خطها وشعاراتها، شجاعة في فتح صفحاتها للمختلفين معها، ومؤهلة لأن تعطي أصحاب الأحلام موقعاً أو منبراً يسمح بتخطي المألوف والتبشير بإعلام أكثر حداثة.
ومنذ العدد الثاني كان جوزف سماحة قد احتل ـ بتعليقه اليومي ـ مساحة في صفحة الرأي... وفي حين اكتفى حازم صاغية بأن يحصر اهتمامه بالثقافة والرأي والنقاش المفتوح مع الذات ومع الآخر، فإن جوزف سماحة قرّر أن يكون "صحافياً"، فأفاد من "الكبار" لكي يعرف عن المهنة أكثر، كما أن إطلالته على الصحافة الغربية، والفرنسية تحديداً في البداية، ثم البريطانية والأميركية بعد ذلك، قد ساعدته على أن يقترب أكثر من مكمن السر في الصحافة الحديثة: أن تكون وسيلة للمعرفة، وأن "تصنِّع" الخبر، وأن تضيف إلى "الأخبار" التحقيق بحيث تزوّد القارئ بالوقائع الكاملة، والأرقام الدالة، والمصالح الكامنة خلف الظواهر..
بعد سنوات قليلة ولكنها حافلة بالتجربة، غادر جوزف سماحة "السفير" أول مرة ولفترة قصيرة... ثم عاد إليها وقد قرّر أن الحزبية لا تصنع صحافة.
وبعد الاجتياح الإسرائيلي غادرنا ـ بالاضطرار ـ بعض أركان "السفير"، وأولهم بلال الحسن الذي لم يلبث أن أنشأ مجلة "اليوم السابع" في باريس، فاستعان بجوزف سماحة كمدير للتحرير... وعندما أعجزت الظروف القاهرة بلال الحسن عن الاستمرار في إصدار مجلته، غادر جوزف سماحة إلى لندن ليلتقي ـ مجدداً ـ مع حازم صاغية في جريدة "الحياة".
ومؤكد أن جوزف سماحة كان واحداً من الزملاء الذين أفادوا من "زمن الغربة" ليقرأوا أكثر فيعرفوا أكثر عن "الغرب" والعلاقة الشوهاء بين هذا الغرب الفرنسي ـ البريطاني ثم الأميركي بالمطلق، مع العرب.
كان جوزف يقرأ كثيراً ويكتب قليلاً... ولكن في هذا القليل كل ما قرأ عنه في "الكتب السميكة" وفي التقارير الصادرة عن مراكز الدراسات وليس فقط في المطبوعات السيارة.
... وكنا في "السفير" نعرف أن جوزف سماحة عائد إلينا، بغير اتفاق، تماماً كما غادرنا بغير وداع... وهكذا فقد جاء إلى مكتبه وكأنه كان في إجازة قصيرة. وحاول أن يجدّد في "السفير" وأن يضيف، في ظروف مختلفة تماماً عن ظروف المؤسسات التي كان يريد ويتمنى ويعمل لأن نقترب من مثالها..
ومرة ثالثة غاب جوزف سماحة عن "السفير"، ومرة ثالثة عاد إليها رئيساً للتحرير... ومن جديد أضاف، بغنى التجربة والإصرار على التجدد، صفحات وأبواباً وزوايا تحمل قدراً من المعاصرة.
.. وحين غادرنا جوزف سماحة إلى تجربته الأخيرة في الزميلة "الأخبار" كان قد ترك خلفه مجموعة من "تلامذته" الذين ما زالوا يجهدون في تقديم الجديد والمختلف، أسلوباً وإخراجاً، في الجريدة التي أعطاها جوزف سماحة أكثر من ربع عمره.
٭ ٭ ٭
"بهدوء" غادرنا جوزف سماحة، الذي كان يكره الوداع..
ولأن جوزف سماحة قد تنكب قلمه الأخضر ومضى في الرحلة التي لا عودة منها، يمكنني الحديث عنه متخففاً من حرج الزمالة التي تضعني في موقع يضعفني أمامه، لأقول إن خسارة الصحافة في لبنان جسيمة.
لقد كان قلماً مضيئاً في زمن العتمة التي تكاد تسد علينا الطريق إلى الحقيقة، بل إلى معرفة الوقائع والتثبت من صحتها. إنه زمن الغلط، وأهل الغلط، في السياسة كما في الاقتصاد، في الثقافة كما في الاجتماع. ولذا ترانا على حافة الحرب الأهلية، ليس في لبنان فحسب، بل على امتداد هذا العالم العربي ـ الإسلامي.
وتفرض عليّ الأمانة بأن أشهد بأن جوزف سماحة كان من أوائل مَن تنبّهوا ونبّهوا إلى خطر الحرب الأهلية هذه، في لبنان وفي فلسطين وفي العراق ومن ثم في سائر الأرض العربية.
وفي لحظات اليأس من الواقع، كاد جوزف سماحة يفترض أن على القوى القادرة على الإنقاذ، بالأفكار كما بصلابة العقيدة، وأساساً بالتنظيم، أن تحضر نفسها لخوض هذه الحرب التي ستفرض عليها، لكي لا تباغت بها، وأن عليها بالتالي أن تنتصر فيها على دعاة الفتنة ممن يعملون للأجنبي ويخدمون المشروع الإسرائيلي ـ الأميركي الذي لا مكان فيه للعرب ـ كل العرب ـ في مستقبله القريب... بل هو يريدهم طوائف ومذاهب وعناصر وقبائل وعشائر مقتتلة في خدمة الغير، في دويلات ـ مزق، متهالكة ولا تعيش إلا في حضن الأجنبي وبإمرته، ضد أهلها وتاريخها ومستقبلها.
كان جوزف سماحة يرى أن على القوى المؤهلة لصناعة الغد أن تستبق دعاة الحرب الأهلية، فتفجّر الصراع ضد أهل الشر، والخاضعين ـ سلفاً ـ لأمر الأجنبي، المندفعين إلى الصلح مع إسرائيل بشروطها اللاغية لحاضرهم، والمسلِّمين بالهيمنة الأميركية على حساب أمتهم بشعوبها وثرواتها وحقها في الحياة.
... لكن النهاية جاءت أسرع ممّا نقدر، وأقسى مما نتوقع: لقد رحل جوزف سماحة، في الغربة، وهو يسعى لأن يكسر قسوتها على بعض رفاق العمر، فصارت الخسارة أثقل من أن نستطيع احتمالها، سواء في "المهجر" أو في "المقهر" على حد ما كان يقول كبيرنا الذي فقدناه المبدع بهجت عثمان.
"بهدوء" رحل جوزف سماحة، وسكت "القلم الأخضر" الذي طالما نبّهنا إلى ضرورة التصدي للغلط حتى لا يحكمنا أو يتحكّم فينا.
و"السفير" التي تستشعر مع الزميلة "الأخبار"، فداحة الخسارة، لا تجد ما يعوّض عن جوزف سماحة إلا في حماية ما جعله واحداً من مؤسسيها والذين وجدوا فيها منبراً للتبشير بضرورة العمل من أجل الغد الأفضل.
و"بهدوء" علينا تقبّل هذه الخسارة الجديدة في العصر الذي يحتاج الكثير من الأقلام الخضراء، مثل قلم جوزف سماحة، لكي نخترق الليل فيه أو نحدث فيه ثغرة لشمس الغد... أوليست "السفير" صوت من لا صوت لهم.
نرشقك بالحبر
غسان شربل
اتهمك بالغدر. وأعني ما أقول. أكرر التهمة لأعمّق العتاب. هذا ليس أسلوبك. هذه ليست طبائعك. من أجاز لك ارتكاب هذا الإثم؟ من أعطاك حق الاستقالة المفاجئة المفجعة؟ يقولون غلبك النعاس المديد واستسلم النبض لوحش الليل. يقولون غدرك قلبك فغدرت.
انها أيامنا تجتازنا حبراً حبراً. نعيش لنودع أصدقاءنا. لنرثيهم. نعيش بين جنازتين. لا نخفي المناديل إلا نستعيدها. يطوقنا الموت ويطبق علينا. برهبة الأساور ووفاء الخواتم.
جوزف سماحة
أرشقك بالحبر. بأسلحتهم يودَّع الفرسان. بالحبر لأنه حزبنا. الغيمة التي تسهر علينا. السم الجميل الذي نتعاطاه. ونزداد ادمانا. الحبر المشتعل بالأخبار والمقالات والعناوين. لا داعي لتقرير الأطباء. ارتفع منسوب الحبر في دمه فغدر القراء والأصدقاء.
قبل أيام وفدت الى لندن تغالب حزن عينيك. تحلقنا حول حازم صاغية. قلنا نشاطره آلامه على مي غصوب. زوجته وحبيبته التي توارت فجأة كنهر يختنق ويغيب. توهمنا اننا نحتضنه ونخفض آلامه. وبالأمس ذهبنا الى حازم الذي جئت تواسيه بغيابها ووجدنا أنفسنا نواسيه بغيابك. وجدناه مثقلاً بجرحين. وجدناه محتضنا طعنتين.
أتهمك بالغدر. ثمة مقالات تعاتبك لأنك لم تكتبها. بالعين النفاذة. بالأسلوب الرشيق. بالقراءة الدقيقة. بالاستنتاجات المثيرة. بالموقف الجريء. بهدوء الواثق. بألم العارف. برحابة تتسع للرأي المناقض. بصدر يتسع للسهام. ثمة كتب تعاتبك لأنك لم تقرأها. بلسعة النهم. بعطش الباحث عن الحقيقة. بعطش المنخرط في معارك اليوم. ومعارك المستقبل. ثمة أصدقاء يغلي العتب في عروقهم. متعة النقاش في رحاب الأسئلة العميقة. متعة الاختلاف معك على الاجابات. متعة التصادم بين الأحلام على مائدة الصداقة.
بالأمس تسللت الى كل قاعات التحرير في الصحف القريبة والبعيدة. "الأخبار" التي كنت مهندس ولادتها وانطلاقتها آلمها أن تحمل اليوم خبر رحيل رئيس تحريرها وصديق محرريها. و "السفير" التي استقبلتك فتى حالماً وودعتك كاتباً لامعاً طفحت ألما. اما "الحياة" التي انضممت الى عائلتها في لندن وبيروت تودعك اليوم زميلاً عزيزاً وقلماً مضيئاً. وكان البارحة يوماً مؤلماً للأصدقاء الذين جمعتهم بك "اليوم السابع".
أسرعت وتسرّعت. ما هذه الخطوة الواسعة؟ ستفتقد بيروت المصابة مقالاً كان يصيب. ستفتقد صوتاً صافياً اتفق معه القارئ أو اختلف. هل تراك يئست فجمعت ركام الأحلام وهربت؟ أم تراك أدركت أن الاقامة في تراب الوطن أفضل من الاقامة في يومياته؟ وان حاضر المنطقة أفضل من غدها؟
أسرعت وتسرّعت. غدرت بأصدقائك ومحبيك وقرائك. نرشقك بالحبر الذي اشعلت. نرشقك بأزهار الود والحب.
كنبة جوزف
نهاد المشنوق
في "الأخبار" أمس. في أروقتها. في غرفها. في الذهول في أعين الرجال. في دموع الصبايا. في صباح التي لا أراها متقدة إلا وصورة جوزف على جبينها. في إبراهيم الأمين السيد الصديق اللصيق لكل من يحب ويرعى.
كذلك في "السفير" حيث الهدوء الغائب لجوزف موجود على كل الطاولات وفي كل الأذهان.
في كل هؤلاء حضر جوزف سماحة بالأمس، كما لم يفعل في حياته. كيف يحضر إنسان بهذا العنف يوم غيابه عن الدنيا؟
جوزف سماحة اليساري العارف بدقائق الصيغة اللبنانية. اللبناني المعني جملة وتفصيلا بالقضية الفلسطينية. الفلسطيني القادر على متابعة التفاصيل الغائبة عن أذهاننا جميعا في المجتمع الإسرائيلي. الحديث الى درجة أنك حين تدخل الى مكتبه تجد نفسك محادثاً للغرب. عصري الى درجة الإحاطة بكل ما في العالم من جديد.
مكتبه؟
ليس هناك في حياة جوزف غير مكتبه في السنوات القليلة التي عرفته فيها. يعيش فيه كأنه يخاف لو غادره أن يفقد خبراً أو سطراً أو كلمة.
يكون في أول المواقع فلا يعرف عنها إلا جهده في سبيل "نجاحها". هاء التأنيث هنا تعني المهمة المكلّف بها. لا الراحة بعد سنوات طويلة من التعب.
كأنه شيخ طريقة. تمتزج فيها كاثوليكيته الخجولة. بلبنانيته الخاصة. بيساريته المتطورة. بعروبته الدائمة. فيصير له مريدين أكثر مما له من الزملاء وله من الأصدقاء أقل بكثير مما له من زملاء.
في حلقته الصلبة الضيقة تجده كالكتاب المفتوحة صفحاته. لكل صفحة من عقله لون. ولكل لون بريق المعرفة. وللمعرفة معه تواضع العالِم المدقق فيما يقرأ وفيما يقول. يعرض أمامك ما يعرفه على صيغة سؤال. ويترك لك الإجابة فكأنك أنت السائل وأنت المجيب.
في أسطره الكثير من الاشتباكات. وفي أحرفه الأكثر من الارتباكات. لكنه بداية ونهاية ليبرالي حتى النصر. صحيح أن جوزف هادئ الأطباع الى حد أنك لا تشعر بوجوده لساعات وأيام لو كنت مجاورا له في المكان. لكنه حاد كالسكين في الدفاع عما يعتقده صواباً في المسألة العامة.
جوزف المستلقي على الكنبة في مكتبه. القارئ لكل ما يرد ليده من أوراق تلمّها "صباح" له من عواصم العالم. القادر من بين قلائل على رؤية الصغائر التي ستتحول الى كبائر في المستقبل الأقرب من طرفة العين. من النوادر القادرين على أن يكونوا على الكنبة نفسها في مكتب باريسي أو في لندن أو في بيروت أو في القاهرة.
لا تتغير موهبته في استشراف الآتي من الأحداث ولا تتبدل هواجسه مما يرفضه من الوقائع أو الأشخاص. فالحديث الهادئ معه فيه من الاستقرار ما لا تراه في دعوته الدائمة الى التغيير حينما يكتب وأينما كتب.
حين قابلته في المرة الأولى قبل 14 سنة، كان يريد الانكباب على معرفة المجتمع الإسرائيلي حتى الوصول الى التأثير عليه من باريس. حين زاملته منذ سنتين في "السفير" غمرني بخجل معرفته وحداثة إطلاعه. لكنه اعتمد هذه المرة على إعلانه الأكيد وشبه اليومي على تغيير الصيغة اللبنانية.
حين قابلتة في "الأخبار" بدا الانقلاب في كلماته على ما تقدم وما تأخر.
خجله وهو ينظر في عينيّ، جعلني أرى فيه محاولة حلم. لا تستطيع رفضه حتى لو لم تكن قادراً على قبول سياسته.
أمسك بالبندقية في آخر العمر حتى ولو يكن قادرا على رفعها. ترك للسيد إبراهيم الصديق اللصيق الحلم والوهم. اختار الغياب الهادئ. حتى لا يحاول أحد مساعدته.
غرفة في لندن التي زارها دعماً لصديق ومواساة لزوج. ربما رأى فيها ما يشبه مكتبه الذي اشتاق إليه. كنبة أو أوراقا أو قلم حبر. قرر "الآن هنا" أن يغيب مخبّئاً هدوءه تاركاً لنا حضوره حيثما هناك قلم وورقة وكاتب اعتبر طوال حياته رأيه هو الزمان والمكان.
جوزيف سماحة
سعد محيو
حين تعرفت إليه للمرة الأولى قبل نيف و32 سنة، كان جوزيف سماحة شخصاً انطوائياً نادر الكلام إلى درجة التلعثم؛ شخصية ودودة، محبة، عاطفية إلى درجة البكاء.
التقينا على درب العمل لـ ldquo;تحرير العالمrdquo; من الرأسمالية، قبل أن نصبح زملاء تحرير في جريدة ldquo;السفيرrdquo; الجديدة. جوزيف في كلا الحالين كان الأكثر تألقاً وذكاء وطموحاً من كل سربنا الشاب. كان دائم المطالعة، دائم الاطلاع على الصحافة والدراسات الغربية برغم انغماسه في السياسات المحلية اللبنانية، دائم التمسك بالأمل برغم سوداوية المرحلة التي عشناها منذ 1975 وما بعدها.
الكثيرون لا يعلمون أن هذا الكاتب الشاب الذي رحل شاباً، ولد فقيراً، وعاش فقيراً، مات فقيراً. وحتى حين استلم في سنواته الأخيرة رئاسة تحرير ldquo;السفيرrdquo; وrdquo;الأخبارrdquo;، كان راتبه المرتفع يوزع طالع كل شهر على عدد كبير من أقربائه عانوا هم أيضاً من شظف العيش.
قال لي مرة، بظرفه الهادئ المعروف، ldquo;حين كان ينظر إليّ طلال سلمان (صاحب جريدة ldquo;السفيرrdquo;) نظرة غير باسمة، كنت أشعر أن جناحين نبتا على راتبي وأنه على وشك أن يطيرrdquo;. وقلت له مرة: ldquo;متى ستعيد لي ديني عليكrdquo;؟ فأجاب بسرعة: ldquo;حين تصبح التزاماتك الشهرية بحجم التزاماتيrdquo;.
فقر جوزيف كان من الثوابت في حياته. لكنه كان فقراً مشرفاً. فلم يستطع أحد أن يتهمه بأنه ldquo;يقبضrdquo; من سفارة، أو دولة، أو جهاز استخبار. وحين عرض عليه رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري منصباً رفيعاً في مؤسساته الإعلامية براتب شاهق، كان شرطه الوحيد أنه يريد تأسيس مركز أبحاث لمتابعة مسار دولة ldquo;إسرائيلrdquo; ومصيرها.
وهذا، على أي حال، ما فعله لاحقاً وإن بوسائل أخرى. فهو كان في كل الصحف التي عمل بها سيفاً دائماً، موضوعياً، مصلتاً على رأس الدولة العبرية، ونفيراً دائماً يذَكر من يريد أن ينسى بأن فلسطين عربية ويجب أن تبقى عربية.
إبان سنوات الهجرة في باريس، تقدم جوزيف بأفكار كبرى حول كيفية تفكيك الكيان الصهيوني من داخل وخارج. وهو من أجل ذلك نفض الغبار عن الفكرة القومية العربية وأعاد الاعتبار لمفهوم الوحدة العربية، ليسبح بذلك في عكس كل التيارات التفكيكية والتقسيمية في العالم العربي.
كتابه الثاني عن لبنان، لم يكن في مستوى كتابه الأول. لكنه كان صرخة مدوية في وجه الطائفية والفساد والصفقات اللاأخلاقية، مما أثار ضده الكثير من حملات التجني والتشهير.
جوزيف الشاب، القلم، المفكر، الباحث، كان نقطة مضيئة في العتمة اللبنانية والعربية، وملجأ شخصياً آمناً لكل من يؤمن بالصداقة الطاهرة والمبادئ النقية.
صديقي جوزيف. لا أقول لك وداعاً، بل إلى لقاء.