مقومات القيادة في الإسلام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
جمال البنـّا
لسنا في حاجة للإشارة إلي أهمية القيادة،ففي كل المجتمعات إذا كانت القيادة حسنة تقدم المجتمع،وإذا كانت سيئة تأخر المجتمع، ويصدق هذا في كل المجالات،ويقدم لنا القرآن المباديء الرئيسية للقيادة في الإسلام، هذه المباديء التي استوعبها تماماً وآمن بها الرسول وطبقها باعتباره قائد الأمة الإسلامية، وانتقلت منه إلي النواة المحدودة التي صاحبته صحبة طويلة، وبوجه خاص وزيريه أبو بكر وعمر وهما اللذان وضعا الأسس التي تقوم عليها الدولة الإسلامية وفي صدارتها دور القائد، رئيس الدولة الذي حمل اسم خليفة رسول الله ثم أمير المؤمنين.
وهناك مصدر آخر لم يكن من صميم الإسلام، ولكن الإسلام تبناه لأنه لم يكن غريباً عليه أو بعيداً عنه، ذلك هو بعض الصفات التي ارتأي العرب قبل الإسلام أنها مؤهلات القيادة، وكان هؤلاء العرب مثل "الفيكنج" في الشجاعة والقوة وتحمل شظف العيش وقسوة الحياة ولئن كان "الفيكنج" يعيشون علي شاطئ المحيط الأطلسي فإن العرب كانوا يعيشون وسط محيط الرمال التي لا يوجد فيها زرع أو غابات أو جبال وإنما هو السطح الممتد آلاف الأميال شأنه شأن سطح المحيط، وقد أعطت هذه الصحراء الإسلام بعض خصائصه، ولا يري المسلمون حرجاً في ذلك لأن إرادة الله تعالي أن يظهر الإسلام في هذه الأرض لا يخلو من دلالة ومن ارتباط، وقد قال الرسول رغم مهاجمته القوية "للجاهلية" أي ما قبل الإسلام إن خيار الناس في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا.
ويماثل هذا أن البيئة العربية الشحيحة الموارد فرضت علي العرب نوعاً من التقشف، وقد يكفي العربي عند الضرورة بعض تمرات وقليل من اللبن، وهذه الصفة التي كانت بنت الضرورة أصبحت خليقة بل وفضيلة، فلم تعرف القيادة في الدولة الإسلامية حتي وصلت إلي مستوي الإمبراطورية من مظاهر البذخ والسرف التي عرفت في الإمبراطورية الرومانية والفارسية، ولم يختف هذا التقليد إلا في النصف الثاني من الدولة العباسية عندما سيطر الفارسيون والترك علي الخلافة .
فلننظر الآن إلي أبرز توجيهات القرآن للرسول، وأهمها الالتزام والموضوعية، فالقيادة في الإسلام رسالة، وفي اصطلاحاتنا الحديثة يقابل ذلك "الدستور"، وبقدر الالتزام الدقيق من القائد لمبادئ الرسالة بقدر ما يطبق المبادئ القرآنية، ويحذر القرآن القائد بنوع خاص من الطموح لأنه وإن كان جزءًا من مكونات القيادة فإنه ما لم يقترن بالحكمة والحذر والشوري ومقاومة الإغراء، والحذر من تجاوز إطار الرسالة، وملاحظة العديد من الاعتبارات بحيث يقف القائد عند نقطة معينة لا يتعداها، فإنه يمكن أن يؤدي إلي عكس ما استهدفه ففي الطموح طبيعة المقامرة والمغامرة، والمقامر الحكيم وحده إذا وجد هو الذي يستطيع مقاومة الإغراء الذي يمكن أن يودي بكل ما ربحه !!
ويتعرض القائد لعملية نفسية جماعية دقيقة يتداخل فيها الطموح الذاتي بالهدف العام ويتمازجان حتي يصبحا شيئاً واحداً وقد يمثل ذلك قولة لويس الرابع عشر ( أنا الدولة )، أو انحراف لينين عن الخط الموضوعي والأصيل لكل أدبيات الاشتراكية وتداعياتها من حرية ومساواة وجماهيرية وعدالة إلي سياسة المركزية الديموقراطية في السياسة والأخذ بالتيلورية في العمل، وقمع المعارضة العمالية .. الخ .. وإذا كانت هذه الاتجاهات التي نبعت من الإيمان الشخصي للينين قد قهرت روح الاشتراكية وطبيعتها، فهذا ما يعطينا مثالاً حيا عن قوة الطموح وكيف يجعل القائد يري نفسه ممثل الدعوة ؟ وكيف يدفعه للسير قدماً حتي يوقفه علي حافة الهاوية، وفي معظم الحالات يوقعه فيها.
وقد لا نجد كتاباًَ عُنِّي بمثل هذه النقطة وفصل فيها ونبه عليها مثل القرآن الكريم، فالقرآن يسلم بالضرورة وجود القائد ولكنه يجعله "رسولاً "، ومعني هذا أن يستبعد كل المعاني الذاتية لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (آل عمران 128)، وهو يؤكد أن دور الرسول هو البلاغ، ويسوقه في صيغة الحصر (إن أنت إلا نذير)، " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً " (القصص 56)، وأنه ليس جباراً ولا حفيظاً، ولا حتي وكيلاً عن الناس، وهو يوجهه لكي لا تستبد به الرغبة في الهداية إلي الدرجة التي قد يغلب فيها المعني الخاص المعني العام، رغم أن دور الرسول أن يهدي الناس وبقدر ما ينجح في هداية أكبر عدد بقدر ما يُعد مؤدياً لرسالته، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة لاحتمال تداخل المعني الخاص في المعني العام، ولأن هناك أناساً لا يمكن هدايتهم لأسباب عديدة، فليس من دور الرسول أن يهديهم قسراً ومَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّي (عبس 7)، فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَي آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ( الكهف 6 ) ، إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ( القصص 56 ). وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَي الْهُدَي فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ (الأنعام 35)، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (هود 118 : 119)، إِنْ تَحْرِصْ عَلَي هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ . (النحل 37) .
وإلحاح القرآن الكريم علي هذه النقطة ومعالجته لها من كافة نواحيها وما يتسم حديثه عنها بحسم وقوة، يوضح خطورتها، وإذا كانت بمثل هذه الخطورة، حتي علي الأنبياء والمرسلين الذين تحوطهم هداية الله ورحمته، ويتنزل عليهم الوحي من السماء، فما بالك بخطورتها علي القادة العاديين؟.. إن سجلات التاريخ حافلة بمصارع الطامحين والويلات التي ألحقوها بشعوبهم.
وهذه التوجيهات هي في تعبيراتنا الالتزام بالدستور والقانون وعدم تماثل الانحراف عنهما أو التمرد عليهما.
وهناك أيضاً نصوص كثيرة توجه الرسول للابتعاد عن زينة الحياة الدنيا وإغراء الأموال والشهوات، وأن يحذر من أن تكون القيادة مغنماً، بل وأن لا يطلب أجراً، وأن لا يشغل قصراً ولا يحتجب عن الناس، ولكن يمشي في الأسواق، يأكل مما يأكله عامة الناس، ويلبس مما يلبسون، ويبعد تماماً عن كافة مظاهر السلطة، وأن يكرر للناس أنه واحد منهم، وكان لهذه التوجيهات أثرها في أن الدولة الإسلامية فلم تعرف الأرستقراطيات المتميزة ولا الألقاب الوراثية، ولم تتغير هذه السمة إلا بعد أن بُعد العهد بالإسلام وتغيرت معالمه، خاصة بعد أن هجم عليه الفرس والترك والديلم .. الخ .. ممن كان لهم حضارات طبقية عريقة .
وهناك نصان علي أعظم جانب من الأهمية :
الأول: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَي اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (آل عمران 159)، وقد جاء النص في أعقاب موقعة أحد التي هزم فيه المسلمون لأن الرماة خالفوا أوامر الرسول، فإن يأتي نص يوجب عليه أن "يشاورهم" له دلالة، وكأن القرآن خشي أن تدفع هذه المخافة الرسول لأن يقلع عن الشوري .
والثاني : وَأَمْرُهُمْ شُورَي بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (الشوري38) وهو نص عام يجعل الشوري صفة من صفات الممارسة الإسلامية وأقرب تأويل لكلمة شوري هو الديموقراطية .
ومن نافلة القول إن الرسول طبق التوجيهات القرآنية تماماً، وهذا أمر ما كان هو نفسه ليستطيع مخالفته، لأنه جاء في آيات قرآنية يقرأها جميع المسلمين فلم تكن أوامر سرية لا يعلم بها أحد، كما لم تكن مضمرة أو رقيقة، فقد كان بعضها صريحاً عنيفاً مثل وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً . وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً . إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً (الإسراء 73، 74، 75)، كما كان من شأن هذه العلنية وأنها تأتي من القرآن أن يتعمق الإحساس بها .
لهذا ليس عجباً أن نجد ظاهرة من أكثر الظواهر إثارة للدهشة أن يسلك الخليفتان اللذان وليا بعد وفاة الرسول مسلكاً نموذجياً، وأن يقدما إضافة وضعت أساس الدولة الإسلامية، وكان يمكن أن تستفيد منها كل الدول لولا أن الغرب أسدل ستاراً كثيفاً عليها بتأثير الحروب الصليبية فلم يعلم عنها شيئاً .
لقد ظهر أن أبا بكر وعمر بن الخطاب من أعظم رجال الدولة في العالم ومما يشهد بأصالتهما أن عملهما لم يكن مسبوقاً باستثناء الرسول، ولكن الرسول نبي يوحي إليه، وكان من البعيد أن يصل بشريان عاديان إلي الدرجة التي وصلا إليها، وقد جمعت الخطبة التي استهل بها أبو بكر عهده فذكر : "أنه انتخب منهم، وإنه لم يكن بالضرورة أفضلهم، فإذا أحسن فعليهم إعانته، وإذا أخطأ فعليهم تقويمه، وأنه إنما جاء ليحكم بما أنزل الله فإذا خالف ذلك فلا طاعة له.
لقد وضعت هذه الخطبة في اختصار ووضوح أفضل مبادئ الديموقراطية لأنها قررت الانتخابات طريقة للتوصل للحاكم، وأنه إذا أحسن فعليهم تأييده، وإذا أساء فمن حقهم أو من واجبهم معارضته وأنه إنما يحكم بدستور معين فإذا خالفه فلا طاعة له.
هذه خطبة تكاد تكون اليوم منسية، وكان يجب أن تكتب بالذهب وأن تكون محل دراسة لكل من يتصدي للرئاسة، وأن تجعلها الجماهير والهيئات الشعبية دستوراً مقدساً يلزم القيادات ويحدد العلاقات ما بين الحاكم والمحكوم.
وجاء عمر بن الخطاب فأعاد في خطبته الأولي هذه المبادئ تقريباً، وطبقها علي نفسه وعلي المسئولين بالدولة، وتقبل كل المعارضات له، وكان في تقشفه وصلابته وأمانته مثلاً اضطر الولاة الذين عينهم للإقتداء به .
أعتقد أن الإسلام قدم شيئاً قيماً ومحدداً عما يجب أن يلتزم به القادة فإذا كانت هذه قد أهملت، فليس هذا ذنب الإسلام وإنما هو ذنب الجماهير والقادة الذين لم يلتزموا بها، ولعل القيادات اليوم في أشد الحاجة لأن يستلهموها من جديد، ولعل الغرب أيضاً في حاجة إليها ليوجد نوعاً من التوازن ما بين الحرية المطلقة والدرجة المطلوبة من الإلتزام.