هل صحيح ان لبنان لم يتغير منذ سنة 1870؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
سليم نصار
عقب الاشتباكات التي جرت بين الجيش اللبناني بقيادة العماد ميشال عون والقوات اللبنانية بقيادة الدكتور سمير جعجع (شباط - فبراير - 1989)، بدأت الصحف الأجنبية تكتب عن موت الوطن الصغير.
وقالت ما خلاصته ان تمزق خيوط اللحمة الوطنية بين الجيش وشريحة من المجتمع المسيحي، سيسرع عملية الوفاة بعد نزاعات دموية طالت كل الطوائف وكل الأحزاب.
طغى ذلك الحدث على المناقشات التي افتتحها الدكتور كلوفيس مقصود حول مائدة جمعت السفراء العرب في واشنطن، اضافة الى بعض أبناء الجالية اللبنانية.
واغتنم سفير اليمن محسن العيني تلك المناسبة ليوجه سؤالاً الى الحاضرين عبر فيه عن ألمه لما يجري في لبنان، البلد الذي وصفه بأنه "منارة للديموقراطية لا يجوز إطفاء أنوارها". وبعد ان أثنى على أجواء الوفاق التي ميزت بيروت القديمة عن سائر عواصم المنطقة، طلب من الحاضرين تفسيراً دقيقاً للأسباب التي قادت الى الانقسام والتدمير.
وكان من الطبيعي ان يثير هذا السؤال جدلاً حاداً بين اللبنانيين الذين اختلفوا على تحليل دوافع الخصام وعلى وسائل الحل. وعندما تطور النقاش الى ضجيج ومهاترات، تدخل السفير العيني ليهدئ الخواطر ويحول الاهتمام الى حادثة جرت له عندما كان رئيساً للوزراء. روى ان الرئيس جمال عبد الناصر طلب مرة لقاء مجموعة من زعماء اليمن بهدف التشاور معهم حول اصلاح الأخطاء التي قادت الى تعثر الثورة.
وفي القاهرة واجه عبد الناصر القادمين من اليمن بسؤال يتعلق بضرورة الكشف عن العوامل الكامنة وراء الخلل السياسي. وبعد مرور ساعة من التنظير والتبرير عجز عبد الناصر عن فهم أسباب التعثر الذي تعرضت له ثورة 1962، لذلك اختصر النقاش بإطلاق عبارة لخص فيها الالتباس الذي زاده التفسير غموضاً، وقال بلهجة ساخرة: "يظهر ان الثورة دي، عملت نصفكم حكام... ونصفكم فلاسفة!".
ثم انتقل السفير العيني من تلك الحادثة ليقارن نتائجها بالغموض الذي اكتنفته تفسيرات اللبنانيين بالنسبة الى دوافع النزاع الداخلي. واستعار عبارة عبد الناصر ليؤكد ان حرب 1975 عملت نصف اللبنانيين حكاماً والنصف الآخر فلاسفة!
يجمع المراقبون في بيروت على القول إن حالات اليأس والضياع والإرباك، بدأت تستنفر المشاعر المذهبية لتكوين حالات جديدة تنطبق عليها نظريات كتاب الحرب الأخيرة. اي الكتاب الذين تصوروا لبنان "قبائل لها رايات" أو "بيتاً من منازل عدة"، حسبما جاء في مؤلفات كمال الصليبي وتشارلز غلاس وروبرت فيسك وديفيد اغناطيوس. والثابت ان البلبلة التي تحدثها تعليقات السياسيين والمنظرين عبر شاشات القنوات الارضية والفضائية، ساهمت في نشر ثقافة اليأس والإحباط. وهذا يعني ان لبنان أصبح أسير الصراع الاقليمي والدولي، وانه لا يملك من أمره أي خيار غير القبول بشروط ايران وسورية أو الولايات المتحدة وأوروبا. والمؤسف ان هذه الثقافة وجدت من يروج لها عن طريق استلهام تاريخ الحقبة التي أعقبت نزاعات الجبل سنة 1840 و1860. وقد تلقيت هذا الاسبوع بالفاكس نسخة من رسالة عممت على آلاف اللبنانيين، كأن استعارتها تساعد على تصوير لبنان حالاً مرضية مستحيلة الشفاء، والرسالة منقولة عن نص كتبه قس بروتستانتي يدعى طومسون، نشر سنة 1870 مؤلفاً بعنوان "الأرض والكتاب"، وجاء في الكتاب وصف لصورة المجتمع اللبناني خلال تلك الحقبة، هذا ملخصها:
"يسكن في لبنان 400 ألف نسمة موزعين على ستمئة مدينة وقرية ودسكرة، ومع ان الطوائف المتنوعة تتعايش معاً، ويمارس معتنقوها خرافاتهم المتعارضة في أماكن مغلقة، ولكن الشعب لم ينصهر في مجتمع متجانس، كما ان واحدهم لا ينظر الى الآخر نظرة أخوية ذات غرض مشترك، فالسنة يحرمون الشيعة. والإثنان يكرهان الدروز. والثلاثة يبغضون النصيرية (أي العلويين). وليست للموارنة محبة خاصة لأي من الآخرين، علماً بأن الجماعات الأخرى تبادلهم الكراهية. والأرثوذكس لا يطيقون الروم الكاثوليك. والكل بالطبع يكره اليهود.
ومثل هذه الملاحظات يمكن تطبيقها على فئات الأقلية. ولا يوجد رابط مشترك يعزز الوحدة. المجتمع خال من كل تواصل لطبقة تحتية يمكن ان تعمل من أجل خير الجميع. وحلت مكانها أجزاء متناثرة، وخنادق، وحواجز، الامر الذي جعل الجماهير تميل الى معالجة الحيرة اليائسة بالاعتماد على الكراهية. وهكذا تصبح الروح الحاضنة لهذه الفوضى البدائية قادرة على استخراج النظام من لجة اليأس والحيرة، كما أنها قادرة أيضاً على تخفيض عناصر التناحر بحيث تتحسن فرص السلام. أعتقد انه ليست هناك بلاد في العالم لديها هذه الكمية من الأجناس المتباغضة. وهنا تكمن العوائق الأساسية التي تحول دون تحسن الأوضاع وتطويرها نحو الأفضل. ومعنى هذا انه لا يمكن لهذا الشعب ان يتحد، أو يتجمع حول قضية سياسية أو دينية، والنتيجة أنه سيظل ضعيفاً، غير مؤهل لحكم نفسه، ومعرضاً للغزو أو للاحتلال الخارجي. وهكذا كتب عليه الآن، وفي المستقبل أن يبقى مشرذماً ومسحوقاً ومقسما".
عرضت هذه الرسالة كنموذج للأفكار السائدة التي تخيم بمزاجها على أجواء لبنان عقب الاعتصام الطويل الذي فجر خلافات تاريخية يزيد عمرها على مئتي سنة. وربما يستغل البعض رواسب تلك الكراهية للقول ان بناء وطن موحد من 18 طائفة، يصعب تحقيقه في ظل مختلف الظروف. اذن، الخيار ليس في إزالة الخصومة بل في البحث عن صيغة ملائمة تمنع تكرار المخاوف والمجازر. وبفعل تنامي مشاعر اليأس والاحباط لدى غالبية الشعب، اضافة الى ازدياد عمليات إقفال المؤسسات الصناعية والتجارية والسياحية، بدأت تخرج الى الملأ صيحات المطالبة بتحييد لبنان، أو تغيير نظام المحاصصة واستبداله بنظام علماني أو فيديرالي. ومثل هذا الطرح ليس جديداً على اللبنانيين الذين عرفوا هذه الخيارات في أوقات الشدة والمحن. ففي سنة 1968 - أي بعد حرب الهزائم 1967 - طلب الرئيس حلو من بعض اصدقائه المحامين إعداد دراسة عن الأنظمة المحايدة مثل سويسرا والنمسا بهدف طرح هذه الصيغة على الاستفتاء العام. وكان الرئيس حلو مقتنعاً بأن صيغة الوفاق ستسقط عند أول امتحان في حال ضعفت الرموز الوطنية التي تحميها. وخلال الثمانينات وبداية التسعينات، ارتفعت الصيحات التي تتحدث عن ضرورة تحييد لبنان، خصوصاً عندما انتقاه الوزير الأميركي جيمس بيكر ليكون "منطقة عازلة" بين اسرائيل وسورية. وبسبب هذا الدور الخطر دفع لبنان الثمن مضاعفاً، لأن اسرائيل لم ترحمه، ولأن سورية لم تشفق عليه.
يقول الديبلوماسيون في بيروت ان تصلب فريقي النزاع سيؤدي الى انهيار اقتصادي كامل، خصوصاً إذا قررت المعارضة امتشاق سلاح العصيان المدني لإجبار حكومة السنيورة على التراجع. والمؤسف ان هذا الخيار لم يعد مجدياً بعدما اثبتت أحداث الـ15 سنة حرب، ان لبنان لا يملك عصبا مركزياً يمكن استهدافه لاسقاط الدولة. والكل يذكر ان عصيان "ثكنة حمانا" وانشقاق جيش احمد الخطيب وانقلاب عزيز الاحدب، كل هذه التطورات ساهمت في خلق جيوش الميليشيات واقتصاد الكانتونات غير المعلنة. ومعنى هذا ان كل خطوة غير محسوبة العواقب قد تقوم بها المعارضة لإثبات موقفها، ستقود الى تعزيز فرص التسلح واحياء خطوط التماس وإقامة كانتونات مستقلة الادارة تكون نواة لمشروع فيديرالية حيادية مفروضة مثل سويسرا. ومثل هذه الصيغة تحتاج الى حرب أهلية يرى وليد جنبلاط انها قادمة حتماً لأن "حزب الله" يرفض الدخول في صلب النظام التوافقي الذي يمنع الأكثرية من الهيمنة والاقلية من التهميش. وهذه هي القاعدة الذهبية التي استعارتها بريطانيا من لبنان سنة 1974 بواسطة السفير نديم دمشقية كي تحل بها أزمة الكاثوليك والانجيليين في ايرلندا.
بقي السؤال المتعلق باستخدام وصف القس البروتستانتي للمجتمع اللبناني (1870) لاثبات هشاشة صيغة التعايش، وضرورة التخلي عنها من أجل صيغة بديلة!
ان مراجعة حقبة تكوين تاريخ لبنان الحديث (1860 - 1918) تثبت انه خلال هذه السنوات تكونت مؤسسات ذات خبرة، قادرة على ممارسة الحكم الذاتي، وبالتالي تأمين قيادة نجحت في التوفيق بين الأطراف المتنازعة وفي تمثيل مختلف المصالح. وكانت تلك القيادة قد وصلت الى الحكم بواسطة نظام انتخابي جعل سلطتها مقبولة ومعترفاً بها داخلياً وخارجياً. والمعروف ان مختلف المؤسسات الوطنية كالادارة والقضاء وقوات حفظ الأمن، أنشئت وتركزت خلال تلك الفترة. ويرى المؤرخون ان المؤسسات التي تكونت خلال فترة المتصرفية هي التي شكلت حجر الأساس لبناء الجمهورية اللبنانية.
أما بشأن الاهتزازات التي تعرض لها النظام اللبناني ما بين 1958 و1982 فكانت وليدة المتغيرات الاقليمية والدولية، الأمر الذي عكس الأوضاع المتدهورة في العالم العربي. وهذا ما يتعرض له لبنان حالياً في ظل الأزمة القائمة ما بين ايران وسورية من جهة، والولايات المتحدة وأوروبا وحلفائهما العرب من جهة أخرى.
وترى جماعة 14 آذار ان الوقت قد حان لقطع حبال الاستقواء بالخارج، مثلما فعل "ألوالون والفلامون" في بلجيكا، بحيث نعمت هذه الدولة باستقرار متواصل. علماً بأن أفراد الجاليتين لا يتجاوزون، وانما يعترفون بالمواطنية لعلم واحد، لا لعشرين علماً، كما هي الحال في لبنان!