جريدة الجرائد

تهمة الغزو المضاد بين معاقل الإخوان والسلفية

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك


علي سعد الموسى

على شاشة التلفزة البريطانية، وفي البرنامج الشهير، هارد توك، أو الكلام الصعب، وقف المفكر الليبرالي المصري بلغة حاسمة يدعمها جسد حماسي يتصبب منه العرق وهو يتحدث عن أسباب التطرف الديني الذي يكتسح شريحة واسعة من أوساط المجتمع المصري ويباشر في مبرراته التحولات التي طرأت على الأنساق الثقافية في بلد كان حتى قبل عقدين يشهد مناخا مداريا متسامحا، بل كان أقرب إلى ـ الليبرالية ـ في أدبياته حتى من بعض مجتمعات المدن الشمالية المقابلة على الضفة الأخرى للبحر المتوسط. أسوأ أنواع العلاج ليس إلا حينما تشخص العلة بطريقة خاطئة وأفضل ما لدى الفيروسات أن تذهب بمسبباتها إلى التهمة الخطأ.

يعتقد المفكر الليبرالي المصري أن علة مجتمعه اليوم نمت في الأصل حين حملها إليهم آلاف الإخوة المصريين الذين وفدوا إلى المملكة خلال العقود الأخيرة في عقود عمل لم تترك، بحسب قوله، منزلا مصريا واحدا أو قرية قصية دون أن تتأثر بهؤلاء المهاجرين الذين تشربوا أفكار المؤسسة الدينية الوهابية بكل ما فيها من ابتعاد عن طبيعة المصري المنفتحة.

هنا، بحسب قوله، تحول الاستثمار الاقتصادي لآلاف المئات من القوى العاملة التي ذهبت إلى المملكة إلى حالة جادة من الغزو الثقافي التي غيرت قواميس المجتمع المصري لأن معادل السلفية السعودية والوهابية كفيل بخلطة من التطرف الأيديولوجي، تلك التي غرستها وبثتها ثقافة تسويق شرهة مدعومة في الأصل بطفرة مادية في بلد يصرف بحسب قوله، ربع موازنته العامة على المؤسسات الدينية. يواصل المفكر المصري: تعتمد الوهابية في بث قبولها على الترويج لفكرة محورية تفترض في الإنسان بذرة الشر التي تتحكم في نوازعه وحينما يبدأ الفرد في اختبار نفسه على هذه المسطرة تستولي عليه عقدة الذنب والشعور بالخطأ والتقصير، ولهذا لا نستغرب أن ازدواج السلفية الوهابية يشعر أنه، كثقافة إملاء عليا، واحدة من أنقى الطوائف التي تنظر لمسالك الآخرين ومذاهبهم ومعتقداتهم نظرة دونية بعيدة عن الكمال الذي ينشده الدين. كل ما عدا السلفية الوهابية ليس إلا صوفياً مغرقا في الخرافة، أو جاهلا لا بد أن تصل إليه الصحوة أو زنديقا تغريبيا ناهيك عن نظرتها لكل من كان خارج مذاهب السنة الأربعة. تأثير الغزو الثقافي الوهابي هو السلطة الاجتماعية التي تلمحها اليوم في شارع قاهري ويستدل على هذا بمظهر الحجاب (غطاء الوجه) الذي أصبح عادة مألوفة في وسط شافعي بحت كانت له، ولمئات السنين، رؤيته الخاصة لحدود وشكل هذا الفرض الإسلامي بحد زعمه.

ينطلق من الحجاب، كمظهر مادي محسوس ملموس، إلى بناء الأفكار واعتناقها والانعتاق إليها، فالوهابية من وجهة نظره، فكرة جهادية صرفة وهي المسؤولة عن بواعث التطرف والعنف التي تسيطر على الصورة الإسلامية في نسختها الأخيرة. انتهى من كلام المفكر المصري ما استطعت هضمه والوصول إلى ترجمته. في كلامه المثير سوق لأمثلة تطبيقية. فيه شيء بسيط من الإقناع حتى ولو في أقل الأحوال فستبقى الحقيقة التي لن ينكرها أحد. هذا هو زمن المد السعودي بكل قوالبه الثقافية والسياسية والإعلامية والدينية.

على الجانب النقيض، تبقى الرؤية الأشد تناقضا مع حديث المفكر المصري الذي كان مؤمنا بنظريته لحد رفعها عن دائرة الجدل. يظن عشرات المفكرين السعوديين الذين بحثوا في أسباب التطرف أن قولبة المجتمع السعودي التي أفرزت كل الحصاد المر في السنوات الأربع الأخيرة كانت، على العكس، تجربة إخوانية إسلامية زرعها هذا التنظيم السري في قلب جامعاتنا ومؤسساتنا التعليمية. ويجزم هؤلاء أن الحزم الأمني البوليسي مع حركة الإخوان المسلمين في بلدانها التي نشأت بها (مصر هي المنشأ والأصل والولادة) دفع هذه الحركة كالشجرة التي تبذر في أرض وتظهر ثمارها في أرض.

يرى المفكر السعودي أن حركة الإخوان المسلمين هي التي زرعت كل بذور العنف في المجتمع السعودي مستغلة هامش القبول الاستثنائي الذي يعطيه المجتمع السعودي لكل مظهر أو مخبر في فكرة دينية أو في شخص ملتزم. فوق هذا استغلت حركة الإخوان المسلمين حاجة البلد وعطشه إلى بناء المؤسسات الدينية والتعليمية ولهذا وجدت رموز الحركة المؤثرة في مثل هذه البيئة فرصة استثنائية خصبة لم تجدها في بلدانها الأصل ولا غرو إن قلنا إن أبرز رموز الحركة ألفت وكتبت وحاضرت بيننا ما قد يشكل الصلب والقوام في حراك وأدبيات هذه الحركة. يعتقد المفكر السعودي أن السلفية والوهابية وإن كانت حازمة في التعليمات وفي تفسيرها وفي فهمها للنصوص إلا أنها وفي نهاية الأمر حركة أخلاقية تقف عند هذا الحد ولا تحتمل مدرستها أجندة سياسية. الإخوان المسلمون على النقيض، نشأت كفكرة سياسية خالصة ثم لا ننسى أن للعنف هدفا سياسيا بل لا يوجد له هدف غير هذا الهدف. السلفية تعتمد على الوعظ الفقهي لأنها تفتقر في الأساس للمفكر الفلسفي، والمفلسف المتدين لا ثوب يتدثر به إلا الغطاء السياسي وكم هي حركة الإخوان غارقة في وهم رموزها الفلسفية.

يبرز هذا الجدل، نهاية، حقيقة جدلية، فيما يثبت التاريخ حقيقة ملموسة. أما الحقيقة الجدلية فهي أن القادم من الزمن سيغير مسار التهمة لأن ثورة الاتصال جعلت من تأثير المدارس المختلفة على المجتمعات ممارسة مكشوفة. أدبيات السلفية أو الإخوان أو غيرها صارت تسبح إلكترونيا وفضائيا وزعماء الإرهاب يصلون من الكهوف لمن أرادوا في أجزاء من الثانية. أما الحقيقة التاريخية الملموسة فإن كل مجتمع يصنع له من التكييف الديني ما يناسبه من هيئة ونوع الغطاء الديني. أي محاولة لتصدير هذا الغطاء التكييفي تنتج خللا اجتماعيا باهظ التكلفة. ستظل مصر إخوانية صرفة فيما لا يصلح لنا من لبوس غير السلفية. حدود المذاهب والمعتقدات مثل حدود الدول والأعراق وأي محاولة للقفز فوق هذه الحدود هي محاولة لتصدير ثورة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف