جريدة الجرائد

فتوى جريئة... في رنين ’’الجوّال’’

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك


خليل علي حيدر

عندما يرن هاتفك النقال بتلاوة بعض الآيات القرآنية أو الأذان أو الدعاء، فينبغي أن تدرك إلى أي درجة تحولتَ إلى ضحية تُضاف لملايين الضحايا، في شباك مستغلي الدين ومختطفي الشعائر والمشاعر الدينية!

قيل الكثير عن أن الدين الإسلامي مُختطف من قبل المتاجرين به والمتشددين والمتطرفين في الدعوة إليه، ولكن قلة قليلة من الناس تشعر بذلك، وقلة أقل بكثير تجرؤ على أن تشتكي أو تحتج أو تعترض بسبب تغلغل نفوذ ثقافة التشدد الديني، وهيمنة جماعات "الإسلام السياسي". وهكذا انفتح المجال واسعاً لتسويق الكثير من السلع والخدمات والمظاهر والمفاهيم والأدوية والأطعمة، بإضافة الصفة الإسلامية إليها، وتشجيع المستهلكين على استخدامها، من خلال الخطب والدروس والأشرطة الدينية، بل والدعايات التلفزيونية! وفي الكثير من الأحيان، ولدعم وترويج هذه البضائع والمفاهيم، تُلوى أعناق الحقائق، ويُعاد تفسير النصوص الدينية على نحو غريب، ويُبالغ في خواص بعض المواد الغذائية والفواكه والأعشاب المذكورة في النصوص الدينية وكتب التراث.

ومن سوء حظ العرب والمسلمين في هذه المرحلة، أن مجالات "الإعلام" قد اتسعت، ومحطات التلفاز "الإسلامية" قد تضاعفت، وتحولت الدعوة نفسها إلى تجارة، واصطبغت التجارة والمواد الإعلانية بملامح "الدعوة".

أجل، لم يعد الهاتف النقال الذي يرن بالآيات القرآنية والأدعية دليل تقوى ونضج حامله، فقد طفح الكيل برجال الدين ومؤسسات الإفتاء الإسلامية نفسها، وبادروا إلى نقد هذا الاستخدام بل وتحريمه بشكل قطعي!

ففي مصر، أفتى د. علي جمعة مفتي الديار المصرية بتحريم استخدام آيات القرآن الكريم في رنّات المحمول، معللاً ذلك بأنه "عبث بقدسية القرآن الكريم الذي أنزله الله للذكر والتعبد بتلاوته، وليس لاستخدامه في أمور تحط من شأن آيات القرآن الكريم وتخرجها من إطارها الشرعي".

كما أصدر مجلس الإفتاء الشرعي في الأردن فتوى شرعية تقضي بتحريم استخدام آيات القرآن في رنات الهاتف المحمول لتعارضه مع "قدسية الآيات ورفعة شأنها... ولما لها من إجلال وتعظيم في نفوس المسلمين".

وفي الكويت أكد عميد كلية الشريعة بجامعة الكويت، على عدم مشروعية استخدام الآيات القرآنية في رنات الهاتف النقال، ورأى أن هذا التصرف "يعرض القرآن الكريم للعبث والإهانة والامتهان". وأضاف أن مثل هذا الاستخدام لا يتناسب مع قدسية القرآن وتوقيره واحترامه، "فلربما جاء الاتصال وحدثت النغمات وصاحب المحمول في الحمام أو في موضع نجاسة، والقرآن الكريم يحتاج ممن يسمعه إلى تدبر آياته وفهم معانيه والتأثر بتلاوته والخشوع عند قراءته". (القبس، 16/2/2007).

جاءت هذه "الحملة الفقهية" ومجموعة من الفتاوى في وقتها بلاشك، وربما متأخرة في الواقع. ولكنني سألت نفسي: ماذا كان سيحدث لأي كاتب أو إعلامي، لو كان نطق بربع هذه الآراء أو أبدى استياءه من استخدام الرموز الدينية والشعائر والآيات في الهواتف النقالة؟ بل ماذا سيحدث لأي معارض اليوم إن انتقد مظاهر المبالغة والمتاجرة في المفاهيم الدينية لترويج هذا الكتاب أو ذلك المشروع التجاري أو تلك المحطة التلفزيونية أو بعض الأدوية والمأكولات وعشرات الأشياء الأخرى؟

وماذا لو استندت صحف العالم العربي وفعالياته الإعلامية إلى عقولها وإلى فتوى الأزهر التي لا تعتبر البنوك التقليدية بنوكاً ربوية، ولا تعتبر المصارف "اللاربوية" التي يديرها الإسلاميون مصارف إسلامية، فقامت بحملة توعية واسعة للناس... من المحيط إلى الخليج، وربما من نيويورك إلى الفلبين؟! ماذا لو طالبنا "المؤسسات الخيرية"، وكلها تقريباً بيد "الإسلام السياسي" وجماعاته سراً أو علناً، بأن يُخضغ الوارد والصادر فيها للشفافية ومكاتب المحاسبة؟!

ماذا لو طالبنا وزارات الإعلام والصحة في بلداننا بإرسال هذه الأدوية والوصفات الطبية التي يقال إنها تشفي من الإيدز والسل والسرطان، وتزيل العقم والصلع والأمراض الجلدية... إلى المختبرات الدولية في أوروبا والولايات المتحدة للتأكد من خواصها وقدرتها الشفائية؟

نحن نذكر كذلك الشيخ محمد الغزالي في بعض كتبه، عندما انتقد بمرارة، الشباب الذين تركوا دراستهم في مجال العلوم والطب والكيمياء والهندسة ليدرسوا الشريعة وينكبّوا على كتب الفقه والتفسير والحديث، لأن مجتمعات العالم العربي لديها كفايتها وزيادة من رجال الفقه والشريعة، بينما هناك طبيب واحد لكل خمسة آلاف مريض في اليمن، ولكل عشرة آلاف مريض في السودان، والعديد من أقطار العالم الإسلامي "مقر دائم" واحد للأمراض المستوطنة! ونحن نلاحظ كذلك أن بيد أحزاب ومؤسسات التيار ملايين لا تحصى من الدنانير والدراهم والدولارات والريالات، وأن العالم كله قد نصب شبكة ضخمة لمراقبة مساربها، ومع هذا كله لا تتجه هذه الأموال لبناء مؤسسات ترقى بالمجتمع، أو ترفع المستوى المعيشي في أحزمة الفقر العربية والإسلامية! لا يعقل بالطبع أن تكون كل مظاهر استغلال الدين على اتساعها وتنوعها اليوم، بيد جماعات "الإسلام السياسي" وحده، إذ أن هناك الكثير من المستفيدين والانتهازيين ممن لا علاقة لهم بأي جماعة أو مبدأ، وربما بدأ الإسلاميون فقط بإدارة العجلة الكبرى. وصارت المنفعة وسذاجة الجمهور بين دوافع الاستمرار! ولكن الأحزاب الإسلامية، التي تزعم أنها ظهرت للمساعدة في تقدم المسلمين و"محاربة البدع" وإيجاد نموذج حضاري منافس للحضارة الغربية، ونشر الوعي والإصلاح والصحوة الإسلامية، لا نراها تستهجن كل هذه المظاهر الاستغلالية للدين، بل نراها صامتة وربما فرحة جذلى بظهورها وانتشارها، حتى أن العديد من أتباع "الإخوان" في دول الخليج ومصر وبلاد الشام وشمال أفريقيا وباكستان وعموم آسيا وأفريقيا يمتلكون استثمارات صغيرة وكبيرة فيها!

ووجود هذا العدد الكبير من باعة الزيوت والرقى، ومن مفسري الأحلام ورواد "الطب البديل" وناشري الكتيبات التي لا تحمل للمسلمين أي فهم حقيقي للدين والدنيا... أفضل من أن يشن الإسلاميون حملة توعية ضد هذه "البدع التجارية"، فمثل هذه التوعية ستصب في طاحونة "الليبراليين"!

لنقارن هذه المداهنة السياسية، وهذه الصحوة المتأخرة حول استغلال القرآن في رنين الهاتف النقال، ببعض ما في كتب التاريخ من "سوابق"!

قرأت في كتاب "معجم المطبوعات العربية والمعربة" ليوسف سركيس الدمشقي، في سيرة الفقيه الحنفي المعروف "ابن عابدين"، المولود في دمشق عام 1198م، أنه حفظ القرآن عن ظهر قلب وهو صغير جداً، وجلس في محل تجارة والده ليألف التجارة، وجلس ذات مرة يقرأ القرآن، فمر رجل لا يعرفه، وسمعه وهو يقرأ، فزجره وأنكر قراءته، وقال له: لا يجوز لك أن تقرأ هذه القراءة، أولاً، لأن المحل محل تجارة والناس لا يستمعون قراءتك، فيرتكبون الإثم بسببك، وأنت أيضاً آثم معهم

وثانياً، قراءتك ملحونة!فكان هذا الزجر بداية اهتمام "ابن عابدين" بأحكام القراءة والتجويد، والتبحر في الفقه!

فمن منا يمتلك اليوم مثل هذه الجرأة في تنبيه من يقوم بعمل كهذا، مجرد تنبيهه بلطف. دع عنك الزجر والردع!

خذ مثلاً بعض سائقي سيارات الأجرة، ممن يفرضون على الركاب الأشرطة والخطب الدينية المفضلة لديهم، أو يرفعون درجة الصوت دون مراعاة لحال الركاب. أو خذ بعض الجمعيات التعاونية أو المحلات العامة التي تنقل برامج دينية يتحدث فيها المتحدث عن قضايا نسوية بحتة وأوضاع الحيض والطلاق والنكاح، بينما تتجول في أرجاء المكان برفقة زوجتك أو بناتك لشراء بعض الحاجيات.

لا أحد يعرف في الواقع إلى أين سينتهي الأمر بهذه الفئة التي تسخّر كل تقدم تكنولوجي لمآربها التجارية وربما الحزبية، ولا تتردد في أن تقحم الدين والشعائر أينما تجد متسعاً للربح أو لمدّ النفوذ. ولكن لعل فتاوى منع التلاوة وقراءة الأدعية مع رنين الهاتف النقال بداية تحول في هذا المجال.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف