اتفاق مكة : محاولات لإجهاضه تحت ستار تأييده
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
بلال الحسن
نشهد في هذه الأيام خدعة سياسية كبيرة. خدعة تمارسها بعض الدول الكبرى، وتتجاوب معها بعض الأطراف العربية الرسمية والإعلامية. عنوان الخدعة إطلاق حملة تعلن الاعتراف باتفاق مكة، ثم يلي ذلك إطلاق جملة أخرى تطالب بالاعتراف بشروط اللجنة الرباعية، وأساسها الاعتراف بإسرائيل.
القارئ للتصريحات أو المستمع لها عبر التلفزيون لا يلتقط الخدعة بسرعة. يدركها بعد قليل من التأمل، وعندها يلحظ أن الهدف من تتالي هاتين الجملتين هو تحييد اتفاق مكة، واعتباره وكأنه لم يكن، والتركيز من جديد على شروط اللجنة الرباعية، وعلى شرط الاعتراف بإسرائيل.
لقد انعقد لقاء مكة ليعالج الاقتتال الفلسطيني وقد نجح في ذلك. وانعقد ليعالج قضية التشارك السياسي في العمل بين حركتي فتح وحماس ونجح في ذلك. وانعقد ليوسع في إطار المشاركة السياسية الفلسطينية لتشمل منظمة التحرير الفلسطينية ونجح في ذلك. ثم تولى اتفاق مكة المهمة الأصعب مهمة صياغة الموقف السياسي الفلسطيني الذي ستتبناه حكومة الوحدة الوطنية، حتى أنه صاغ كتاب التكليف الذي وجهه الرئيس محمود عباس إلى رئيس الحكومة المكلف إسماعيل هنية، وتضمن الاتفاق وكتاب التكليف صياغة الجواب حول قضية التسوية، وحول قضية "الاعتراف" و "الاحترام" لكل ما يتعلق بالقرارات الدولية، والقرارات العربية، والاتفاقات الفلسطينية المبرمة. ومثل كل ذلك صياغة توافقية فلسطينية تجيب على تساؤلات ومطالب الأطراف الدولية.
واعتبر كثيرون وفي مقدمتهم الفلسطينيون والعرب، ان اتفاق مكة حقق إنجازا كبيرا على هذا الصعيد، حتى أن الدول العربية كافة أعلنت ترحيبها باتفاق مكة وتأييدها له، ومن دون أن تربط التأييد بأي شيء آخر. ثم انطلقت في رام الله وغزة مسيرة العمل لوضع اتفاق مكة موضع التنفيذ، فتوقف الاقتتال، وتم التكليف رسميا، وبدأت مشاورات تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية. وحتى هذه اللحظة كان كل شيء يسير بانتظام، حتى أن السعودية بدأت تستعد لعقد القمة العربية في أواخر آذار/مارس الحالي، وفي تصورها أن اتفاق مكة يمكن أن يكون رافعة لموقف عربي "أقوى" يعزز الحضور الفلسطيني والعربي عند طاولة المفاوضات، ويسعى إلى تخفيف حملة الضغط الدولية على العرب والفلسطينيين، ويشجع على الانطلاق نحو التعامل مع القضايا الساخنة في العراق ولبنان والسودان والصومال.
هنا.... وهنا بالذات، بدأ بروز الخدعة السياسية، فإلى جانب الترحيب باتفاق مكة، حضرت من جديد شروط اللجنة الرباعية، وضرورة الاعتراف بها سلفا. وهي خدعة لا تعني إلا السعي لتحييد اتفاق مكة، وإلغاء تأثير اتفاق مكة، والعودة إلى شروط اللجنة الرباعية وكأن شيئا لم يكن. لقد قدم اتفاق مكة جوابا فلسطينيا توافقيا على شروط اللجنة الرباعية، وما يتم السعي إليه الآن هو إلغاء مفعول هذا الجواب الفلسطيني التوافقي، لتبقى شروط اللجنة الرباعية وحيدة في الميدان. وهو موقف لا بد أن يتجاوز محاولات إضعاف اتفاق مكة، نحو محاولات لإضعاف محادثات القمة العربية حين تنعقد.
ظهرت التعبيرات الأولى عن هذا الموقف في واشنطن ثم في تل أبيب، حين أعلن الطرفان انزعاجهما الشديد من تفاهم حركتي فتح وحماس، ورغبتهما في أن تبقى حركة حماس معزولة، وأن يتواصل العمل للقضاء عليها عبر الاقتتال الفلسطيني. وتبلورت الصورة أكثر عبر الاجتماع الثلاثي الذي ضم كونداليزا رايس ومحمود عباس وايهود اولمرت، والذي تجاهلت فيه رايس كليا اتفاق مكة، وبحثت الأمور من منظور لا يمت إلى هذا الاتفاق بصلة، وكان أن فشل الاجتماع وأظهر أن إسرائيل غير مستعدة للتفاوض، وأنها منشغلة مع واشنطن في التفكير بأمور أخرى، ربما يكون موضوع إيران أو لبنان أو السودان في المقدمة منها.
بسبب هذا كله، وبسبب الخدعة الجديدة التي يتم العمل لتمريرها نقول إن الأوان قد آن لأن تكون هناك وقفة فلسطينية وعربية جديدة في التعامل مع موضوع الاعتراف بإسرائيل. لقد تم إعلان الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل عام 1993، وعبر رسائل تم تبادلها بين الرئيس الراحل ياسر عرفات وبين رئيس وزراء إسرائيل الراحل إسحق رابين. وجاء في الاعتراف الإسرائيلي اعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثلة للشعب الفلسطيني. فهل لا تزال إسرائيل متمسكة بهذا الاعتراف أم لا؟ يمكن القول إنها تراجعت عن هذا الاعتراف، فإسرائيل تركز منذ الانتخابات الفلسطينية ونجاح حماس فيها أن على حماس أن تعترف بإسرائيل، مع أنها أقرت بوثيقة رسمية أنها تتعامل مع منظمة التحرير الفلسطينية كممثلة للشعب الفلسطيني، ولا تتعامل مع حركة فتح أو حماس أو أية حركة فلسطينية أخرى. وهذا تراجع إسرائيلي بارز. ثانيا: لقد أعلن أولمرت أثناء محادثاته مع الرئيس عباس بحضور رايس، أنه سيرفض التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية، وبمعنى أنه يتفاوض مع عباس بصفته رئيسا للسلطة الفلسطينية وليس بصفته رئيسا لمنظمة التحرير، وهذا تراجع إسرائيلي بارز في موضوع الاعتراف.
وهو أيضا تراجع ذو مضمون سياسي خطير، إذ أنه يعني أن إسرائيل ستتفاوض مع رئيس السلطة حول نطاق سلطته فقط، أي الضفة وغزة، وترفض التفاوض مع رئيس منظمة التحرير في نطاق سلطته، أي الشعب الفلسطيني كله. ورغم هذا التراجع الإسرائيلي الواضح والمعلن، ينسى العالم كله ذلك، وتنسى أطراف عربية رسمية ذلك، وتنسى أطراف إعلامية ذلك، وتنطلق كلها في جوقة واحدة، تطالب حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية بإعلان الاعتراف بإسرائيل، وتتجاهل أن حكومة إسرائيل قد سحبت اعترافها السابق من التداول، وهربت نحو عبارات: الاعتراف بالسلطة الفلسطينية، أو نحو الاعتراف بمبدأ قيام دولتين. ويستدعي هذا من الفلسطينيين والعرب، أن يتم عكس المطالب، فيتم التركيز على مطالبة إسرائيل بتجديد الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية والاعتراف بوجود الشعب الفلسطيني وحقوقه الطبيعية، والتوقف عن جلد الفلسطينيين ومطالبتهم بتجديد الاعتراف بإسرائيل، فصيلا فصيلا، أو فردا فردا.
وثمة جانب آخر لهذه المسألة. فإسرائيل أعلنت منذ آرييل شارون، واستمرارا مع ايهود اولمرت، أنها لا تريد التفاوض، وأنها تريد فرض الحل المنفرد كما فعلت في قطاع غزة. وأعلنت إسرائيل عشرات المرات أنها ترفض تطبيق القرار 242 الصادر عام 1967 عن مجلس الأمن والذي هو أساس مرجعية التفاوض، مع مبدأ الأرض مقابل السلام الذي انعقد على أساسه مؤتمر مدريد عام 1991. وذلك يعني أنها ترفض العودة إلى حدود 1967، لأنها تريد الاحتفاظ بالمستوطنات التي تم بناؤها في الضفة الغربية. كما ترفض الانسحاب من مدينة القدس، بل ترفض حتى أن تكون القدس بندا في المفاوضات المحتملة، حتى أن شمعون بيريس قال في قطر جوابا على سؤال أحد طلاب الجامعة إن القدس إسرائيلية وليست فلسطينية.
وترفض إسرائيل أيضا الانسحاب من منطقة الأغوار الفلسطينية المحاذية لنهر الأردن، وترفض إجلاء المستوطنات التي تم إنشاؤها هناك. ولذلك حين تطلب اللجنة الرباعية تجديد الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل، فإن من حق الفلسطينيين أن يرفعوا في وجهها سؤالا عن اي إسرائيل يتم الحديث؟ هل يتم الحديث عن إسرائيل في حدود 1967، أو أن الحديث يتم عن إسرائيل جديدة، بحدود جديدة، تستولي فيها على المزيد من الأراضي الفلسطينية؟ وحين تسعى إسرائيل لكي تخترع لنفسها حدودا جديدة، يصبح من حق الفلسطينيين أيضا أن يطالبوها بالأمر نفسه، فيقولون إن حدود إسرائيل هي في العرف الدولي حدود قرار التقسيم الصادر عام 1947.
إن هذا الوضع الإسرائيلي يقتضي أيضا أن يبادر الفلسطينيون والعرب إلى عكس المطالب، فيتم التركيز على مطالبة إسرائيل بوقف امتداداتها الجغرافية (امتدادات تستولي على نصف الضفة الغربية) بدل أن تتم مطالبة الفلسطينيين بالاعتراف بها.
وما نقوله هنا ليس فذلكات لغوية، بل هو قراءة في المواقف السياسية ودعوة لفهمها بعمق. وهي قراءة نتمنى أن تقف عندها القمة العربية المقبلة، وأن تحدد موقفا بشأنها.