جريدة الجرائد

الحل في العراق وليس في مؤتمر الجيران

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

غسان الإمام

أود أن أبدأ بالعودة الى حديثي في الثلاثاء الفائت عن العميد أحمد المير ملحم قائد جبهة الجولان السورية خلال الحرب الكارثية (1967). وقد رويت بمناسبة وفاته أخيرا ذكريات "شخصية" عنه يمتد عمرها الى أكثر من خمسين عاما.

وخدمة لأمانة الرواية الصحافية، فلعل عارفاً مطلعاً من الاسماعيليين السوريين يصحح أو يؤكد ما ورد في هذه الذكريات البعيدة، ولا سيما إذا كان العميد ملحم ولد ودفن في مدينة السلمية أو بلدة مصياف، وكذلك ما إذا كان نجل الآغا خان الأكبر قد دفن كما ذكرت في السلمية في أوائل الخمسينات.

على أن ذلك كله من هوامش التاريخ وحواشيه، ولا يلغي ما رويت وذكرت عن دور العميد ملحم ومسؤولية نظام اللواء صلاح جديد عن انهيار جبهة الجولان وكارثة الحرب التي ما زالت الأمة العربية تعاني من نتائجها السلبية الى الآن.

لست مجانباً للحقيقة وللواقع اذا قلت ان مأزق المشرق العربي الراهن، هو أيضا من تداعيات الهزيمة العربية في الحرب الحزيرانية. فقد نشأت فجأة على أبواب السبعينات أنظمة "حزيرانية" رفعت الشعارات القومية والوحدوية للنظام الناصري المنكسر في الحرب، فيما رَسَّخت عمليا خريطة التقسيمات الحدودية والانفصالية التي رسمها الاستعمار الغربي في المشرق بعد الحرب العالمية الأولى.

يكفي أن أذكر أن نظام صدام لو استجاب لدعوة الوحدة في المفاوضات مع سورية (1979/78) لما نُكب العرب اليوم باحتلال العراق، ونزع هويته العربية، ولما قام نظام فيه يحاول أن يوفق بين مسايرته لاميركا وحلفه المستور مع إيران.

ها نحن اليوم على عتبة مؤتمر دولي في بغداد (10 مارس الحالي) يشارك فيه جيران العراق والدول الكبرى. وأقول سلفا إن هذا المؤتمر محاولة لرمي الكرة العراقية الملتهبة في المرمى العربي والإقليمي، تنصلاً من مسؤولية النظام العراقي وإدارة بوش الراعية والداعية الحقيقية للمؤتمر، عما جرى ويجري في العراق، وعجزهما عن الحل والتسوية.

لا حل ولا تسوية لمأساة العراق إلا في داخل العراق ذاته. وما عدا ذلك هو تأخير للحل وإدامة للصراع، وتكاذب داخل المؤتمرات وخارجها. هذه المؤتمرات تنطوي على اعتراف بـ "حق" إيران في التدخل بأمن وسياسات العرب.

الحل يكمن في تغيير حقيقي لصيغة العراق، بمبادرة أميركية جريئة، لصرف حكومة الشيعة المدعومة إيرانياً، وإقامة حكومة انتقالية محترفة من الساسة أو حتى من العسكر المستقلين والمحايدين، حكومة تقدم على استدعاء الجيش العراقي المسرَّح القادر وحده على فرض الأمن والنظام، وغير المخترق بالميليشيات وقطاع الطرق. يتبع ذلك إلغاء الدستور التقسيمي للعراق على أساس الطوائف والمذاهب والأعراق، وصياغة مشروع دستور وحدوي حقيقي يعيد الاعتراف بهوية العراق العربية وانتمائه التاريخي القومي، ويؤكد سلامه واحترامه لجيرانه وأشقائه، ويضمن مساواة ديمقراطية حقيقية للعراقيين جميعا، ويؤكد مشاركتهم في حكمه وقراره، على قدم المساواة، على اختلاف انتماءاتهم الدينية والمذهبية والعرقية.

في تفاصيل التغيير، أقول إن مصارحة السنة العراقية واجب قومي وإسلامي. سنة العراق مدعوة إلى تنقية مقاومتها. مقاومة الاحتلال نبل وطني وانساني يجب أن لا ينحدر إلى درك الاقتتال الداخلي والحرب الأهلية. المقاومة الوطنية النبيلة لا تعتدي بالقنابل والمتفجرات على الشيعة المدنيين. إشكالية السنة العراقية في خوفها من نظام شيعي يلغيها مع إلغاء عروبة العراق، وفي خوفها من مقاومة إرهابية مستوردة، تروع السنة بإخضاعهم لـ "جهاديتها"، بقدر ما تروع الشيعة بإرهابها.

المقاومة الانتحارية المستوردة تقدم "أنموذجا" للعرب على كيفية تدمير سلامهم المدني، وترسيخ الغرائز الطائفية والمذهبية في المجتمع العربي. مسؤولية تحييد وإلغاء هذه المقاومة اللاوطنية واللانسانية تقع على كاهل الأحزاب والعشائر السنية المتعاونة معها أو الساكتة عنها، وفي مقدمتها الحزب الإخواني المشارك في الحكم المدعوم أميركياً.

من السخرية في أية ديمقراطية أن ترفع شعار الاجتثاث والاستئصال. لا يمكن إلغاء حزب تاريخي كالبعث في العراق بالقتل والإقصاء والتطهير، كما يظن أحمد الجلبي وأمثاله من الشيعة المتعصبين. لكن في المقابل، حان للبعثيين العراقيين التخلص من سيطرة الصدّاميين المتخلفين على الحزب، وتأسيس حزب قومي ديمقراطي مستقل في تنظيمه وممارسته عن الخضوع لأنظمة عربية أخرى.

أما حل الإشكالية الكردية في أي تغيير في العراق، فهو في ترك الحرية التامة للأكراد العراقيين في الاختيار بين الاندماج والحكم الذاتي والفيدرالي، وحتى في الانفصال وتشكيل دولة مستقلة. هذا هو الحل الحضاري والانساني الذي يجب أن يقدمه عراق قومي ديمقراطي لجالية عرقية ضخمة.

على قيادات هذه الجالية أن تتخذ قرارها بإدراك لظروف العراق، ومعرفة واعية لحقيقة جغرافية تتلخص في أن دولة كردية مستقلة سوف تبقى محاصرة بجيران أقوياء، يخشون منها على جالياتهم الكردية (في إيران وتركيا وسورية) التي لا تتمتع بما يتمتع به أكراد العراق. هذه الدول من حقها أن تخشى تقلب ولاءات الأكراد هنا وهناك، واستغلالهم للنزاعات بين دول المنطقة، أو الاضطرابات الداخلية، للانحياز إلى هذه الدولة أو تلك، أو للتحالف مع دول غريبة أو معادية للمنطقة.

إذا كان هذا هو الحل الحقيقي لمأساة العراق، فهل هو الحل الواقعي؟ أعترف بأن هذا الحل بات صعبا، إن لم يكن مستحيلا، بسبب ضعف أميركا عسكريا في العراق وأفغانستان. المدهش أن المعارضة الاميركية لسياسة بوش في العراق تقتصر على نقد عبثية الحرب وخسائرها الفادحة!

ليس هناك إدراك أميركي على مستوى القيادات السياسية المعارضة لخطأ إدارة بوش الاستراتيجي في اعتماد جناح شيعي حاكم مؤيد لإيران، ومدمر لعروبة العراق، وساعٍ لاسقاطه كجدار يحمي هوية المنطقة العربية، ويشكل عمقا استراتيجيا للعرب، في المواجهة مع اسرائيل محتلة ومستوطنة للارض العربية.

تجاهل إدارة بوش لعروبة العراق التاريخية هو الذي اوقعها فريسة سهلة لمقاومة سنية ناجحة، مقاومة على علاتها واخطائها، ترفض فصل العراق عن امتداده العربي. سنة العراق ليست اقلية. انها الحدود الاستعمارية التي فصلتها عن بحر الاغلبية السنية في العالم العربي، إذا اردنا استخدام المنطق الطائفي السائد حاليا.

إذا كان من الجائز التسليم بحق العرق الكردي في اقامة دولة مستقلة، فمن المستحيل قبول العرب بدولة شيعية في العراق مرتبطة بالطاعة لإيران، لسبب بسيط للغاية، وهو ان عروبة غالبية شيعة العراق لا تقل اصالة عن عروبة الاقلية السنية.

من هنا، يأتي افتراق رؤية السعودية للعراق وايران عن الرؤية الاميركية. ومن هنا ايضا تأتي نصيحة السعودية الهامسة في اذني الرئيس نجاد الضيف على مائدة العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز. هذه النصيحة ربما تكون الفرصة الاخيرة لإيران متدخلةَّ في شؤون وقضايا العرب، نصيحة قبل ان تحل الكارثة بتفجير لاهب ينزل بالمشرق، بما في ذلك ايران التي يراود خيالها مجددا حلم العظمة الشاهنشاهي في السيطرة، حلم يركبه هذه المرة كابوس نووي مزعج.

ربما تلقى نجاد ضربة على اليد من الملالي الخائفين من اميركا على نظامهم التيوقراطي غير الشعبي في ايران، هناك بوادر إيرانية توحي بسماع نصيحة السعودية، من خلال السماح لحماس بالمشاركة في حكومة وحدة وطنية تمهد لاستئناف المفاوضات مع اسرائيل على حل نهائي. يبقى لبنان المحك الحقيقي لادراك إيران استحالة اسقاط حكومة السنيورة في لبنان، من خلال حزب شيعي يدار بالـ "ريموت كونترول" من طهران.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف