جريدة الجرائد

حرب العراق... لا رابح ولا منتصر !

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك


د. محمد السيد سعيد

النتيجة التى خلصت لها لجنة "بيكر- هاملتون"، والتي أكدها "الديمقراطيون" بعد أن فازوا في انتخابات التجديد النصفي بمجلسيى الكونجرس، واضطر وزير الدفاع الأميركي الجديد روبرت جيتس للتصريح بها أثناء جلسات الاستماع لتأكيده في منصبه أمام لجنة القوات المسلحة، هي أن الولايات المتحدة "لا تفوز في الحرب في العراق". ومن عندنا يمكن أن نقطع بأنها "لن تفوز بها مطلقاً". ولكن العرب- بدورهم- لا يفوزون بالحرب هناك.

ينبغي الاعتراف أن في الأمر مفارقة. فالحروب يتم كسبها أو خسارتها. وفي العادة هناك من يخسر الحرب وهناك من يكسبها. لكن بعض الحروب لا يكسبها أحد بل يخسرها الطرفان!
ربما تبدو النتيجة مفارقة للمنطق ولطبيعة الممارسة اللغوية. فاللغة تعرف الانتصار والهزيمة وتعرف الفوز والخسارة ولكنها لا تعرف خليطاً أو حالة وسطاً. ولكن في الحرب على العراق يبدو الطرفان خاسرين ومهزومين معاً.

قد يبدو الالتباس واضحاً في المنطق. ويزداد الالتباس المنطقي بسبب الغموض العملي في اللغة. إذ تفترض اللغة أن من يخوض الحروب فاعلون محددون على نحو قطعي. وفي العادة كان هؤلاء الفاعلون دولا أو إمبراطوريات: أي كيانات تتمتع بسلطات انفرادية في منطقة جغرافية أو ثقافية ما. واليوم دخلت "الشعوب" طرفاً إضافياً بالرغم من أن الشعوب لا تمارس سلطات ولا تملك صلاحيات. وهذا العامل يزيد الغموض.

ولعل تعبير الحرب في العراق هو ذاته غير دقيق، لأن ثمة حربا حول العراق في الولايات المتحدة. فالمناهضون للحرب في العراق لم يكفوا أبداً عن شن "حرب داخلية" في أميركا لوقفها. ورغم أن الحرب الداخلية هي حرب بالمعنى المجازي، فهي تؤثر بشدة على قدرة الدولة الأميركية على كسب الحرب في العراق.

ولكن الانقسام الداخلي في الولايات المتحدة لا يزال بسيطاً للغاية بالمقارنة مع الانقسامات الداخلية في العراق. إذ لا يكاد يعرف أحد خريطة المشاركين على الجانب العراقي في هذه الحرب. في البداية كان من الشائع القول بأن الانقسام يدور بين أنصار الغزو الأميركي ومعارضيه من العراقيين. وكنا نظن أن أنصار الغزو أقلية ضئيلة جاءوا من الخارج. وسريعاً ما تغيرت فكرتنا عن الانقسام الداخلي: إذ ظهرت "أغلبية" كانت تدفن مشاعرها تحت جلودها، بل وفي أعمق أعماقها كرهت نظام صدام حسين إلى درجة أنها "تفاعلت" مع الاحتلال بقدر من الإيجابية. ولم يكن هناك أدنى شك في أن غالبية هذه الغالبية كانت من الشيعة والأكراد. ولكن كانت هناك أقليات نشطة تعارض بل وتحارب الاحتلال منذ اليوم الأول من بين هاتين الجماعتين. بدت جماعة "مقتدى الصدر" منذ البداية في صفوف المعارضة للاحتلال، كما حاربت منظمة "أنصار الإسلام" السنية وذات الغالبية الكردية، الاحتلال الأميركي منذ اليوم الأول. وتغير المشهد تماماً بعد قليل. إذ بدأت جماعة "مقتدى الصدر" تمارس حربها الداخلية ضد السلطات الشيعية الأخرى، ويقال إنها قامت باغتيال عبدالمجيد الخوئي وكثير من أئمة الشيعة الآخرين، بل يشاع أيضاً أنها دمرت مواقع شيعية مقدسة. وما لبثت المقاومة السنية أن برزت. ولكن طبيعتها تغيرت مع الوقت. واليوم يكاد يختلط الأمر من حيث عدد وهوية التنظيمات المحاربة للاحتلال على الجانب السني. بل وليس من المعروف كيف تدير هذه التنظيمات أو "المقاومات" علاقاتها المتبادلة.

فهناك من يتحدث عن تناقضات بين "القاعدة" والعشائر السنية، بل عن حروب داخلية بينهما. وهناك بكل تأكيد تناقض كبير بين "القاعدة" والقيادات "البعثية" أو التي تحدرت من قوات الحرس الجمهوري أو الجيش العراقي السابق، رغم أنها فضلت أن تطلق على ذاتها تسميات إسلامية. ولا يبدو هذا التناقض نشطاً في الوقت الحالي، لكنه قد يتحول إلى أهم "حرب" في العراق خلال لحظة ما بعد نهاية الاحتلال. كما قد تنشب حروب داخل القطاع الشيعي عندما يبدأ ترتيب الساحة لحسم من يحكم العراق أو على الأصح من يحكم أشلاءه الممزقة.

ومن المحتمل للغاية أن تتغير طبيعة الصراع العسكري في كل حقبة من تطور الصراع السياسي، سواء في سياق الاحتلال أو بعد نهايته. وما يقوله البعض من تمييز بين التنظيمات السُنية والشيعية قد يتبدد تماماً في لحظات مفسحاً الطريق لفرز جديد كلية.

هذا كله عن طبيعة "الفاعلين"؛ فنحن ببساطة لا نعرف من يحارب من في العراق. كل ما نستطيع أن نستنتجه هو أن هناك "حرب تحرير" ضد الاحتلال, تشد إليها "حرباً أهلية" بين "أرخبيل" من القوى السنية و"أرخبيل" آخر من القوى الشيعية. وهناك أيضاً حروب ثانوية داخل كل أرخبيل، وفي لحظة معينة قد تختلط هذه القوى ببعضها البعض وتبرز تحالفات متبدلة وجديدة.
وهذا بذاته يعكس جانباً مهماً مما زعمناه في عنوان هذا المقال. فالعراق لا يخوض حرب تحرير وطنية بالطريقة التي عرفتها الحركات الوطنية التاريخية أو النموذجية في القرن العشرين، وخاصة في الجزائر وفيتنام، وذلك لأن الذاكرة الشعبية عموماً وذاكرة قطاعات كبيرة من الشيعة والأكراد بالذات حافلة بالآلام التي سببها حكم صدام حسين، والذي كان حكماً "وطنياً" لكنه يعكس بقسوة خاصة مأساة دولة ما بعد الاستعمار في العالم النامي عامة، وهي كونها تحولت بسرعة إلى "دولة غازية" للمجتمع ومدمرة له. وهناك سبب أكثر أهمية وهو أن الفكر لا يكاد يقوم بدور وأن رؤية المستقبل غائبة وغامضة ومتشطية وسوداوية عموماً.

العراق بمعنى عام انتصر على الأميركيين ولكنه انهزم من داخله. وحتى انتصاره على الأميركيين يعني بالأساس أنه أفقد مشروع الاحتلال الأميركي أية فرصة للاستقرار أو النجاح. لكنه انتصر لا بفضل الوحدة والاجماع الوطني وبفكر متقد وواعد بالتقدم، بل بفضل الفوضى والتشرذم والقسوة الخارقة وجنون القتل وعمليات الخطف والتعذيب وتشويه الجثث ومحاولات الاستئصال والتطهير ضد جماعات كاملة... ووسط هذا الاستهتار التام بالروح الإنسانية وبمعاني الأخوة الوطنية والدينية، تفتقر المنظمات العراقية المقاتلة إلى التوجه والرؤية الانسانية والسياسية الخلاقة والبناءة وإلى برامج عمل سياسية تعد العراق والعراقيين بنظام سياسي واجتماعي وثقافي أرقى يخاطب التوق الإنساني والشعبي البسيط للتقدم أو حتى يحترم الحق في الحياة.
بهذا المعنى لم ينتصر العراق... ولم ينتصر أي طرف فيه. وعندما يجر الأميركيون ذيول الخيبة وينسحبون من العراق، لن يقف العراق والعراقيون على قمة جبل ويشيرون بأصابعهم إلى شمس تشرق في الوادي الخصيب، بل قد يجدون أنفسهم يخوضون في مزيد من الدماء.

هل يمكن أن يتغير هذا المنحى المأسوي؟
الإجابة: نعم، لكن يجب أن نبدأ من الآن في انتاج معنى جديد للمقاومة العظيمة التي تجمع بين الوطنية ورؤية إنسانية وتقدمية وتحررية تعد الشعب العراقي العظيم بحالة وحدوية خلاقة تستجيب لقدراته الفذة وتصنع له مستقبلاً يخفف عنه آلامه الطويلة وتنهي مأساته التراجيدية الفريدة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف