تنبؤات هنتينغتون: ثقافة الكراهية وإنتاج الفتنة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
د. عبدالحميد الأنصاري
منذ أن نشر الكاتب الأميركي الشهير صمويل هنتينجتون فكرته في مقال عن "صدام الحضارات" عام 1993 في مجلة "شؤون دولية"، ثم بلورها لاحقاً في كتابه الشهير أيضاً "صدام الحضارات" عام 1996، والكتابات المحللة لمضامين ما جاء في كتابه- نقداً أو تأييداً- لا تكاد تنقطع حتى الآن. ولعل أكثر المواقف الناقدة بشدة لأفكار هنتينجتون، إلى درجة الهجوم والتجريح الشخصي، هي ما جاء على أقلام وألسنة الكتّاب العرب، سواء عبر مقالات أو من خلال بحوث أو ندوات ومؤتمرات فكرية.
ومع أن المؤلف الأميركي حاول أن يدافع عن طروحته الأساسية، موضحاً أن العالم الإسلامي أساء فهم مضامين كتابه وأفكاره قائلاً: "أنا لم أتحدث عن صدام بين الإسلام والغرب، ولا عن صدام بين المسلمين والغرب، لقد تحدثت عن عنف المسلمين الذين لا يصادمون الغرب فقط، بل يصادمون إخوانهم المسلمين أيضاً. وقلت: إن هذا العنف عبر التاريخ شوّه صورة المسلمين في أذهان غير المسلمين. وهناك عاملان آخران؛ الأول: هو التطرف في تطبيق الإسلام، كما هو واضح مع بعض الجماعات التي تقول إنها إسلامية. والثاني: شكاوى الأقليات غير الإسلامية من سوء معاملة الأغلبيات الإسلامية لها. لقد ركزت على العنف والتطرف والمبالغة في تطبيق أحكام الإسلام وتشريعاته، وبالطبع قارنت بين هذا المسلك ومبادئ الحضارة الغربية التي تحترم حقوق الأقليات وتتسامح مع العقائد عامة (بما فيها الإسلام)، كما أنها أكثر اعتدالاً في الجدال الديني والسياسي والثقافي".
إلا أن ذلك الدفاع لم يشفع لهنتينجتون، واستمر الهجوم عليه من جانب خصومه من الكتاب العرب والمسلمين.
لقد تنبأ هنتينجتون بالصراعات الدموية بين المسلمين أنفسهم وتجاه غيرهم أيضاً، بما يؤدي إلى مزيد من تشويه صورتهم وتشويه صورة الإسلام، وذلك قبل أحداث سبتمبر 2001!
دعونا- بعد مرور 15 عاماً- على تلك النبوءة الهنتينجتونية، كي نتأمل الساحة الدولية والإسلامية والعربية؛ فماذا نسمع وماذا نشاهد؟ وماذا نقرأ؟
لا يكاد يمر يوم الآن إلا وتطالعنا القنوات الفضائية والصحف السيارة ووكالات الأنباء، بمشاهد التفجيرات والمجازر الدموية في العراق وفي الجزائر وفي اليمن وفي الصومال... وفي العديد من الدول العربية، رغم كل الاستحكامات الأمنية والمطاردات المستمرة لخلايا وفلول الجماعات الإرهابية التي تتفنن في التمويه والخداع وتُبدع في وسائلها الإجرامية ولا تتورّع عن القتل من غير تفرقة بين مدني وعسكري أو رجل وامرأة وطفل. ولعلنا جميعاً تألمنا للهجوم الإرهابي الذي استهدف أربعة من الفرنسيين- بعضهم مسلمون كانوا ينوون التوجه لأداء العمرة- قتلوا أمام أطفالهم وزوجاتهم شمال المدينة المنورة من غير أي ذنب!
لقد بلغت الخسّة والجبن بالإرهابيين في العراق، أنهم يختارون ضحاياهم ممن لا حول لهم ولا قوة، يفجرون في وسط العمال والطلاب، وداخل الأسواق وفي الجامعات وعلى أبواب الجوامع والحسينيات، وما مذبحة الجامعة المستنصرية، والتي قال عنها "رشيد الخيون": إن أعتى الغزاة لم يجرؤ على مدرسة المستنصر- عنا ببعيد! ونحن نضيف هنا: إن ألدّ الأعداء لم يجرؤ على ضرب الكعبة بالمنجنيق ويصلب ابن الزبير وينبش قبور خلفاء بني أمية لينتقم منهم أمواتاً، ولكن أحدنا فعل ذلك!
وإذا كان ضحايا الإرهاب في العراق يقدّرون بأكثر من (50) ألف مدني- وهناك تقديرات أعلى من ذلك- فإن الضحايا في الجزائر يتجاوز عددهم 100 ألف شخص، عدا عن الآلاف الذين سقطوا وجرحوا على أيدي الجماعات الجهادية في مصر والسعودية والمغرب والأردن واليمن وباكستان وأندونيسيا وإيران وأفغانستان والشيشان والصومال... وكل أولئك مسلمون سقطوا على أيدي مسلمين، وهذا دليل آخر يؤكد صحة وسلامة نبوءات هنتينجتون!
لقد أصبح واضحاً جلياً، أن الجهاد المزعوم لجماعات العنف إنما هو موجه-أساساً- ضد المسلمين، ضد الضعفاء والبسطاء منهم خاصة، ضد مجتمعاتهم وأوطانهم وبني قومهم، وكل هدفها الانتقام والثأر، أما دافعها الأساسي فهو "الكراهية"... لقد رضع أولئك القوم ثقافة "الكراهية"- حتى الثمالة- عبر المناهج الدراسية والمنابر الدينية... والتي زرعت التعصب في نفوسهم، وإلا فهل يُعقل أن تنشر بعض الصحف سؤالاً يقول: هل الأشاعرة من أهل السنة والجماعة؟ فيجيب المفتي مستنكراً هذا السؤال على طالب العلم؛ إذ كيف لا يستطيع التمييز ليدرك أن الأشاعرة ليسوا من أهل السنة والجماعة!
ويسوق (8) أصول عقدية تخرج الأشاعرة من مفهوم أهل السنة والجماعة لتلحقهم بأهل البدع والأهواء والضلال! إذا كان هذا المفتي يقصي الأشاعرة، فكيف إذا سئل عن الشيعة؟ يأتي هذا الكلام في وقت يحذر فيه عقلاؤنا من (الطائفية) ونتهم (أعداء الأمة) بأنهم وراءها! وننسى أننا (الأشداء) بعضنا على بعض- ماضياً وحاضراً- بأكثر من (أعداء الأمة) المزعومين الذين نستسهل أن نرمي على عاتقهم أوزار تخلفنا وعنفنا، ونتهمهم بالإساءة إلى الإسلام وتشويهه مع أننا المسيئون- حقيقة- إلى لإسلام ومفاهيمه، حين شرّعنا لجهاد (الطلب) وحين وصفنا الذين يفجرون أنفسهم في المدنيين (شهداء) وحين سمحنا بإشاعة خطابي (التكفير والتخوين) عبر منابرنا، ولم نتورع عن توزيع صكوك (الشهادة) على الطغاة المقبورين أصحاب المقابر الجماعية!
إنها- إذن- ثقافة (الكراهية) التي تدفع الخطيب ليجأر بالدعوى إلى الله بأن يهلك الأعداء- اليهود والنصارى- ومن تعاون معهم من المسلمين. ولو استجاب الله وأهلك (العدو) المزعوم ما هنأ هذا الخطيب (العدواني) بشربة ماء نقية!
إنها ثقافة (الكراهية) التي أنتجت تلك الفتية الذين فجّروا أنفسهم في برجي نيويورك ومترو أنفاق لندن ومدريد وغيرها، لا (مظالم) الغرب ولا (هيمنة) أميركا كما يرددها ويتغنى بها بعض رموز وأساطين وديناصورات الفكرين القومي والديني، كتبرير ساذج للعمل الإرهابي يتملقون به غرائز الجماهير!
ولن نستطيع تفكيك (الفكر الإرهابي) إلا بتجاوز ثقافة (الكراهية) والتخلي عن ثقافة (المكابرة والغرور والاستعلاء) وتبني (الفكر الناقد) لمجمل الأوضاع والأنظمة والخطاب الديني والتربوي والإعلامي والتشريعي.