حيرة الشعب المصري بين حكامه المصريين والأمريكيين
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
محاولة لفهم ما يجري في مصر الآن
د. جلال أمين
لا يجب أن نشك في أن الإدارة الأمريكية تعرف بالضبط ما يدور بذهن هذه المجموعة من الممسكين بمقاليد السلطة في مصر، والذين سميتهم في مقالات سابقة "الوسطاء"، حيث إنهم يتلقون الأوامر الأمريكية ويترجمونها إلي لغة مصرية، ثم ينفذونها أو يكلفون الوزراء "ورئيس الوزراء" بتنفيذها.
الإدارة الأمريكية تعرف أهمية "التوريث" لهؤلاء الوسطاء، وتفهم بالضبط دوافعهم إليها، فهم صنيعة الإدارة الأمريكية علي أي حال، اختارتهم بعناية أو "باركت اختيارهم" منذ فترة تعود إلي السبعينيات أو حتي قبلها، وفرزتهم وامتحنتهم واستبعدت غير الصالح منهم، والتقارير لابد أنها تكتب يوميا أو شهريا إلي واشنطن عن تصرفاتهم وحجم ثرواتهم، وما يمكن استخدامه ضدهم لإذلالهم، إذا لزم الأمر.
إن أي تصوّر غير هذا لموقف الإدارة الأمريكية من هؤلاء الوسطاء المصريين، الذين يديرون دفة الحكم لصالح الأمريكيين أولا ولصالحهم هم شخصيا ثانيا، هو تصوَّر لا يليق بدولة عظمي تدير شؤون العالم بأسره، ولديها القدرة والرغبة في معرفة كل صغيرة وكبيرة مما يدور في العالم، إذا تعلق الأمر بمصالحها الرئيسية، نعم، الإدارة الأمريكية تخطئ أحيانًا بلا شك، إما بناء علي معلومات خاطئة، أو لتغلب بعض المصالح الصغيرة علي مصالح كبيرة، نتيجة خلاف بين أصحاب المصالح داخل الولايات المتحدة نفسها، ولكن المنطق السليم لابد أن يؤدي بنا إلي توقع تصحيح الخطأ بسرعة والعودة إلي القرار السديد. والسديد، فيما نحن بصدده الآن، هو بالطبع ما يحقق المصالح الكبري المسيطرة في الولايات المتحدة في أي وقت بعينه.
إني أتصور أن الذي يحكم الموقف الأمريكي من النظام "الحاكم" في مصر، في الوقت الحاضر، ومنذ اعتلي الرئيس بوش كرسي الرئاسة في ٢٠٠١ علي الأقل، هو ما يمكن أن تؤديه مصر من خدمات لتنفيذ المشروع الأمريكي الجديد للشرق الأوسط، الذي يستهدف أساسًا مصالح اقتصادية ومالية لكبري الشركات الأمريكية، ومصالح اقتصادية وسياسية لإسرائيل، مما سبق لي الإشارة إليه في مقال سابق.
كما سبق لي أن أشرت إلي أن حكومة من نوع حكومة د. أحمد نظيف تبدو ملائمة تمامًا، ولسنوات كثيرة قادمة، لتنفيذ هذا المخطط، بعكس حكومات من نوع حكومات الدكتور الجنزوري أو عاطف عبيد، فإذا انتقلنا إلي من هم فوق ذلك قليلاً،
وأقصد بهم "الوسطاء" الرئيسيين ممن يصدرون التوجيهات إلي رئيس الوزراء والوزراء "وهي توجيهات كثيرًا ما تصل إلي درجة الأوامر"، فيما يتعلق بالسياسة الخارجية والاقتصادية والأمن والإعلام والتعليم، فالأرجح أن الإدارة الأمريكية لا تجد الوقت مناسبًا لتغييرهم، علي الأقل حتي تنتهي أزمات العراق وإيران وسوريا ولبنان والسودان، والتي يبدو أن الإدارة الأمريكية لا تجد لها حلاً سهلاً،
وقد يطول الوقت قبل أن تلوح في الأفق فرصة الحل. طالما ظلت هذه الأزمات معلقة، فإن من الأفضل للإدارة الأمريكية، فيما يبدو، أن تبقي علي هذه المجموعة من الوسطاء المصريين، فالمرء، كما يقول المثل الإنجليزي، "لا يغير حصانه أثناء عبوره للنهر"، ومن ثم فلا بأس أن يبقي هؤلاء حتي يرفع الستار عن منظر جديد في مسرحية إعادة ترتيب الشرق الأوسط.
خلال هذه الفترة، التي يمكن وصفها بالانتقالية، ما هو الموقف الأمثل، من وجهة النظر الأمريكية، من قضية التوريث؟ من الملاحظ أنه يحدث بين الحين والآخر ما يوحي بأن الإدارة الأمريكية تنظر بعين الرضا إلي "جمال مبارك" وإلي توليه بعض المسؤوليات بل تعامله أحيانًا وكأنه الرئيس القادم،
ولكننا نري أحيانًا، أو نسمع من التصريحات ما يوحي بأن الإدارة الأمريكية تقف "علي الحياد" في هذا الأمر، وتعتبره أمرًا داخليا محضًا وكأنه لا يخصّها، ثم نري في أحيان أخري، أو نسمع، ما يفهم منه أن أمريكا مُصّرة علي الديمقراطية في اختيار الرئيس. نلاحظ أيضًا أن مجموعة الوسطاء هذه، والتي سبق أن قلت إنها تعتبر مسألة التوريث مسألة حياة أو موت بالنسبة لها، تتقلب طريقة تعاملها مع هذه القضية بين فترة وأخري، وربما كان أحد أسباب التقلب هو التقلب في الموقف الأمريكي نفسه.
ليس من الصعب أن نكتشف بقليل من التفكير، أن هذا "التقلب" هو أفضل موقف يمكن أن تتخذه الإدارة الأمريكية من مسألة التوريث، في الوقت الحاضر، من وجهة مصلحتها هي، الإدارة الأمريكية تعرف جيدًا، بلا شك، أن هناك مئات من الأشخاص ممن يمكن أن يحتلوا منصب الرئيس في مصر، ويحققوا لها أهدافها، كما تريد بالضبط، غير جمال مبارك. ولكن جمال مبارك يمكن أن يحقق هذه الأهداف أيضًا، وهو لا يخلو من مزايا من وجهة نظرها "سبق أن أشرت إليها،
ولابد أن الوسطاء لا يكفون عن ذكرها للأمريكيين". ولكن مجيء جمال مبارك لا يخلو من مشاكل أيضًا. الأهم من هذا كله السؤال الآتي: "ما الذي يمكن أن تجنيه الإدارة الأمريكية من الافصاح عن رأيها في قضية التوريث الآن، قبل انتهاء هذا الفصل من فصول إعادة ترتيب الشرق الأوسط؟"، إن العكس بالضبط يبدو هو الصحيح،
أي أن الأفضل هو ترك الموقف عائمًا وغيرمحدد مما تلائمه عبارات مثل "ننظر بعين العطف"، أو "نحن لا نجد سببًا قويا للاعتراض في الوقت الحاضر"، أو أن "الوقت غير مناسب لاتخاذ قرار نهائي في هذا الصدد"، أو "فلتستمروا فيما أنتم فيه ولن نقف عثرة في طريقكم، حتي نوفق إلي الحل المناسب عندما يحين الوقت"... وهكذا.
ذلك أنه من الملائم جدًا للإدارة الأمريكية، فيما يبدو لي، أن يظل أصحاب المصلحة في التوريث، في قلق مستمر مما يمكن أن يكون عليه الموقف الأمريكي في النهاية، فهذا أدعي إلي المزيد من الاستسلام والطاعة، وتنفيذ ما يطلب منهم بالضبط فيما يتعلق بهذه الأزمات الجارية كلها: العراق، إيران، لبنان، سوريا، السودان...إلخ، ناهيك عما يطلب منهم لصالح إسرائيل.
هذا الموقف الأمريكي الذي قد ينتهي، عندما يحين الوقت، برفض إحلال جمال مبارك مكان أبيه، هو بالطبع موقف لا يخلو من قسوة وخبث الطوية، ولكن متي امتنعت الإدارة الأمريكية عن اتخاذ موقف بالغ القسوة وفي منتهي الخبث إذا تطلب هذا تحقيق "مصالح أمريكية عليا"؟، كان مثل هذا بالضبط الموقف الأمريكي من ماركوس رئيس الفلبين، ومن شاه إيران، بل أيضًا من صدام حسين، فلماذا لا يعامل الرئيس المصري، الحالي أو المحتمل، معاملة مماثلة؟
إذا كانت الإدارة الأمريكية تفهم تمام الفهم دوافع الوسطاء المصريين، في قضية التوريث، فإن هؤلاء الوسطاء، فيما أظن، يفهمون أيضًا تمام الفهم لماذا تتخذ الإدارة الأمريكية هذا الموقف من هذه القضية؟!
وأنها يمكن في أي لحظة أن تقرر رفض التوريث من أساسه وتعمل علي مجيء شخص آخر كرئيس لمصر. كلا الطرفين يفهم أحدهما الآخر تمام الفهم، فإذا بهما يمارسان فيما بينهما لعبة يتبادلان فيها مختلف أساليب الهجوم والدفاع، من تحذير وتهديد تارة، إلي التراجع ومحاولة الترضية تارة أخري، ويجري كل هذا فوق رؤوس المصريين،
وكأن الشعب المصري ليس طرفًا أصلاً في هذه اللعبة الجهنمية، مما يذكر المرء بلعبة قديمة كنا نلعبها ونحن صبية صغار، هي لعبة "الكلب الحيران"، حيث يتناول لاعبان الكرة، ويبذلان جهدهما في ألا تصل إلي شخص ثالث مسكين يقف بينهما، ويحاول محاولة مستميتة أن يقطع الطريق علي الكرة وأن يمسك بها، ولكن هيهات!
هكذا فيما يبدو لعبة التوريث بين الوسطاء المصريين، أصحاب المصلحة في هذا التوريث وبين الإدارة الأمريكية التي تفكر في أشياء أخري وتستهدف مصالح مختلفة تمامًا، بينما يقف الشعب المصري المسكين متفرجًا، وقد كاد يفقد الأمل في أن تعود الكرة إليه، وهو صاحبها الحقيقي، وهو الذي يجري كل شيء وتتخذ كل القرارات باسمه.
***
إذا صح هذا التحليل لدوافع ومصالح أطراف اللعبة السياسية في مصر، فإنه قد يكون من الممكن فهم الكثير مما يجري في مصر الآن مما يبدو أحيانًا كالألغاز، وتفسير التصرفات المتناقضة، أو التي تبدو وكأنها متناقضة، ففي لعبة "الكلب الحيران" يتظاهر أحد اللاعبين اللذين يتبادلان الإمساك بالكرة، بأنه سوف يلقي بالكرة إلي المسكين الواقف في الوسط، ثم سرعان ما يتبين أنه إنما يلقيها إلي زميله الآخر، ثم يسترسل اللاعبان الشيطانيان في الضحك- إن كثيرًا مما يبدو وكأنه خطاب من النظام المصري للمصريين، أو خطاب من الإدارة الأمريكية للمصريين، ليس إلا استمرارًا لتلك اللعبة الشيطانية بين النظام المصري والأمريكيين .
الأمريكيون يقولون: "فلتكن هناك ديمقراطية، حتي لو أتت بالإخوان المسلمين" فيرد النظام المصري "بالطبع يا سادة، هذا هو بالضبط ما نفعله"، ثم يفتح النظام الباب ليمر بعض الإخوان ثم يغلقه في وجه الباقين ويشبعهم ضربًا وسجنًا. يقول الأمريكيون "فلتكن هناك حرية صحافة"، فيرد النظام المصري: "بالطبع،
انظروا كيف سمحنا بمهاجمة صحف المعارضة للرئيس وأسرته"، ثم يفاجأ المصريون بضرب رئيس تحرير إحدي الصحف المعارضة وإلقائه في الصحراء، ويقدم صحفيون آخرون، واحدًا بعد آخر، للمحاكمة، ولا تحرك الإدارة الأمريكية ساكنًا وكأن الأمر لايعنيها. يقول الأمريكيون: "ليكن هناك انتخاب حر بين أكثر من مرشح لرئاسة الحكومة"، فيقول النظام المصري "طبعًا طبعًا..
هاهم نعمان جمعة، وأيمن نور وآخرون، يتقدمون علي قدم المساواة للتنافس علي منصب الرئيس"، فلا تنتهي عملية الانتخاب حتي تدبر مكيدة في غاية الخبث لأحدهما وتنتهي بانسحابه التام من الحياة السياسية، ويودع الثاني السجن، مع أنه كان الطفل المدلل للأمريكيين منذ شهور قليلة، وهنا أيضًا يتظاهر الأمريكيون بالاحتجاج دون أن يبذلوا أي جهد لانقاذ الرجل.
أما كل هذا الحديث الممل، والذي لا طائل من ورائه، عن تعديل هذه المادة أو تلك من الدستور، ثم إعادة تعديلها، فالمقصود به فقط العبث بعقول المصريين، مع التظاهر في نفس الوقت أمام الأمريكيين، بأن هناك شيئًا شبيهًا بالديمقراطية.
أثناء ذلك تظهر صور جمال مبارك تارة وتختفي تارة، ينصح تارة بلقاء الأبطال من لاعبي الكرة العائدين من الخارج، بعد انتصار عظيم يرجي أن ينال جمال مبارك منه نصيبًا، ويجري تصويره معهم من كل زاوية، ثم ينصح تارة أخري بالاختفاء، وتُحجب صوره عن الصحف انتظارًا للحظة أخري مناسبة.
وخلال هذا كله، يستمر الضعف الشديد في المواقف التي يتخذها النظام إزاء الأزمات المتتالية في العراق وإيران ولبنان وسوريا والسودان، تبعًا لمشيئة الإدارة الأمريكية بالضبط، ففي واشنطن يتقرر ما إذا كان النظام المصري مع السنة أو الشيعة، مع الاستقرار في لبنان أم مع عدم الاستقرار، يتهم إيران بقتل السفير المصري في بغداد أو لا يتهمها...الخ.
الرسائل لا يتوقف تبادلها بين الإدارة الأمريكية والوسطاء المصريين. رسائل تحمل منتهي المودة أحيانًا، ومنتهي الخبث والخداع أحياناً أخري، ولكن يظل الشعب المصري في وسط هذا كله متفرجًا، تتراوح مشاعره بين عدم التصديق والقلق والاكتئاب.