البصرة: معركة الهزيمة لإمبراطور داوننغ ستريت
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
سيمون جنكنز - صنداي تايمز
الخروج بشرف باتت مهمة الجيش البريطاني في العراق، والتي ما فتئ يعمل من أجل إنجازها لبعض الوقت. ربما كان ليغمغم بهذه العبارة السير "مايك جاكسون" رئيس هيئة الاركان البريطاني السابق بينما يتناول قدحا من الويسكي في ساعة متأخرة من الليل خلال زياراته المنتظمة للبصرة. وهنا تسود مجدداً تلك الفوضى العارمة التي اغرق فيها الساسة البلهاء جنوده، والتي ينبغي عليهم تدبر أمر الخروج منها بسمعة متماسكة.
تبينت صحة التقرير الذي صدر في الأسبوع الثاني من شباط الماضي، والذي تحدث عن خفض اعلنه توني بلير في عديد القوات البريطانية في العراق، ذلك الإعلان الذي جاء في أعقاب إنذار نهائي من الجيش بأن ما يحدث في البصرة قد زاد عن الحد. وعندما زرت البصرة للمرة الأولى قبل ثلاث سنوات، كان ذاك وقتاً متسماً بالكثير من الأمل. لقد كان "الحكم البريطاني" يعمل وكان موضع ترحيب بكل بوضوح. وتسجل جداريات فندق شط العرب أيام المجد عندما كان المكان نقطة توقف لشركة "امبريال ايرويز"، وكان بوسع جورج اورويل أن يتخيل البصرة موئلاً لنظام عالمي جديد محلق في الفضاء. كانت القوات تسير دورياتها بالقبّعات الخفيفة، فيما استطاع الزوار التجوال بحرية. وحتى الخدمات العامة كانت تتحسن. ولم تكن هناك أية إشارة الى جيش المهدي الشمالي.
كل هذا النجاح نُسف وذهب أدراج الرياح في غضون ثلاث سنوات من انصياع بلير المذل لسياسة البنتاغون في بغداد. وحتى الامدادات كان يترتب شراؤها من "هاليبرتون" بدلا من المقاولين المحليين. كما تم إجهاض عملية تسليم السيطرة لمليشيات بدر، والتي كان يمكن لها ان تعزل الجنوب عن تسلل اتباع جيش المهدي، نتيجة لمحاولة واشنطن التي ما تزال عقيمة لاختراع قوات جيش وشرطة عراقيين جديدين. ترك "الإيرانيون الجيدون" مكانهم للإيرانيين السيئين، وأصبح النظام المدني محض ذكرى عزيزة. وغدت شوارع البصرة شديدة الخطر، حتى ان البريطانيين تكبدوا سبعين قتيلا وجريحا فيها في الاشهر الثلاثة الماضية خلال "عملية السندباد" وحدها. وقد ارتد الجيش على الأثر الى قواعده وبات عليه ان يهدم مراكز الشرطة كافة لكبح جماح الإرهاب الشُرَطي.
لم يعد من الممكن الآن، سوى في عالم الخيال الذي يقطنه بلير ووزير دفاعه ديس براون الزعم بأن الاحتلال البريطاني للبصرة الذي مضى عليه اربع سنوات يمكن ان يعتبر نجاحا. ذلك أن بلداً لا يمكن تسيير دوريات فيه الا جوا او في طوابير مدرعة لا يمكن أن يكون خاضعاً للسيطرة، ناهيك عن أن يكون محكوما. وكان بلير قد وعد في إعلانه ذاك عن سحب الجيش "بنشر خطة لتطوير ميناء البصرة في وقت لاحق هذه السنة"، وهو ما يبدو أمراً لا يطاق. فاين كانت تلك الخطة قبل الغزو؟ أما الملاحظة السعيدة الوحيدة، فهي أن البريطانيين عندما يغادرون الجنوب الشيعي، فانه سيكون على الأقل سالماً من تبعات النزاع الشيعي-السني المستعر في الشمال. ولن يكون هناك سوى حرب بين عصابات.
أما التهديد الأخطر، وهو حبة الدواء المسمومة التي سيورثها بلير لغوردون براون، فهو ما سيحدث عندما يقرر احد فصائل الميليشيات التي تنافس على السلطة في الجنوب اجلاء الفرقة العراقية العاشرة سيئة الطالع من القواعد البريطانية التي يجري اخلاؤها والاستيلاء على مدرعاتها. فهل ستسارع بريطانيا إلى العودة إلى هناك ثانية؟ ام ستنضم إلى "النزعة التدخلية الفعلية" التي تعتنقها معظم دول الناتو في كابول وتلتزم بالمكوث في الثكنات؟ إن هذه ورطة كأداء يتم اقحام الجنود فيها. ويجب ان يكون الانسحاب السريع من البصرة معقولا بحيث يستطيع الجيش التركيز على الانسحاب من أفغانستان أيضاً "بشرف".
لقد اعطى قرار بلير الأخير بخصوص سحب القوات زخماً جديدا للعبة اللوم في العراق. إذ يتنافس المنتقدون على إجراء مقارنات مع أحداث الدردنيل وكريت والخرطوم او افغانستان. ولعل ما توضحه هذه الجهود يظهر فقط أن الساسة لا يعودون يتذكرون شيئاً في شؤون الحرب، كما انهم لا يتعلمون اي شيء. أما الأمر غير العادي فهو رؤية الأخطاء التي ترتكب في العراق - وخاصة تنفيذ الإملاءات السياسية من واشنطن- بينما يجري تكرارها نفسها في صحراء هيلماند (أفغانستان)، حيث يداوم براون ووزارة دفاعه على التعبير عن الثقة في نشراتهم الصحافية في وقت يصرخ فيه القادة طلباً لامدادهم بتعزيزات. ويمكن أن ينطوي توقع أن تتذكر الحكومة البريطانية تجارب كريت او الدردنيل على طلب الكثير، وهي التي لا تبدو قادرة على تذكر ما حدث يوم أول من أمس.
مع انهيار الرقابة البرلمانية، بات رئيس الوزراء يضطر للإجابة عن الأسئلة حول أفعاله في مقابلات صحافية فقط. وكانت مقابلة الشهر الماضي مع جون همفريز في "البي.بي.سي" رحلة مخيفة اخرى في كوكب بلير، حيث كان رده على اي انباء سيئة: "حسناً، صدام كان طاغية قاتلاً ودموياً". و كان الرد على اي انتقاد: "حسناً.. إنني لا أتفق مع ذلك". ويعتبر بلير ان قوانين السببية والأثر غير قابلة للتطبيق في هذه الحالة. أزلْ اطار عمل الحكومة من اي دولة، وتكون النتيجة: "إن ذلك ليس خطئي". واذا ما افضى الحريق الى سقوط عشرات آلاف القتلى، فإن الجوب يكون أيضاً: انه "ليس خطئي".
إنه اذا ما أرسلت وحدات قليلة لاستعادة النظام وقتلت آلاف اخرى فإنه يتم التنصل من المسؤولية. ويبدو ان بلير لم يعد يعتقد بان الغزو، في حربه على الارهاب، إنما يدور حول الحكم، على الأقل عندما تكون الاخبار سيئة. فالمسؤولية هي إرادة الأنجلو-ساكسون البيض التي ينبغي القبض عليها من أجل خلق عنوان قصة جذاب ثم يتم إطلاقها. أما النقد، فهي مهمة يعهد بها الى التاريخ.
اما الآخرون فهم اقل صبراً. وقد كانت آخر محاولة لنصب مصيدة لرئيس الوزراء بخصوص العراق هي المطالبة باجراء تحقيق، والتي أطلقها كل من وزيري الخارجية السابقين دوغلاس هيرد ومالكولم ريفكند. لكن، وفي حين ان هذه التحقيقات قد تنطوي على صلة معينة، على سبيل المثال، بالمعدات أو مستويات القوة، فإنها تظل غير مناسبة لتحديد المسؤولية السياسية. وهي بالتأكيد لن تقود الى خداع الوزراء للوقوع في مصيدة حلم الشخص الذي يجري المقابلة، وهي "تقديم الاعتذار".
كان بلير قد أجرى من قبل ثلاثة تحقيقات حول المقدمات التي أفضت الى غزو العراق في عام 2003: تحقيق هاتون، وتحقيق بتلر، وتمثيلية نظمتها اللجنة الامنية البرلمانية، وقد كسبها جميعاً بمساعدة صديقته عضو البرلمان آن تيلر التي أصبحت رفيقة حياة. لكنه كسب لسبب وجيه، ذلك أن وسائل الاعلام نظرت الى التحقيقات على انها لجان للشنق، وذلك ما لا تجري التحقيقات العامة بهدف إنجازه.
سبق أن اعتبر تقرير اللورد فرانكس عن حرب جزر فوكلاند وعلى نطاق واسع بأنه تبييض لصفحة فشل حكومة ثاتشر في ردع غزو الارجنتين في عام 1982. وقد كان ذلك الفشل قميناً باللوم بما لا يدعو للشك، ولو لم تتم استعادة الجزر لكان سبباً في استقالة مارغريت ثاتشر. لكن فرانكس برأها. وعندما سألته لاحقاً عن السبب، قال انها ليست مهمة المسؤولين العموميين أن يؤدوا الدور المناط بالديمقراطية. إن مهمتهم هي كشف الحقائق وأن يترك للجمهور أمر الخلوص الى استنتاجاته الخاصة. (وقد فشل هذا الطرح في تفسير تبرئته لتاتشر).
إنني أعتقد بأن فرانكس محق. اذ إن من الصعب تخيل ان يفضي استجواب الى حمل بلير على تقديم استقالته بسبب العراق. ولو ان هاتون وبتلر استنتجا ان داوننغ ستريت قد "طبخ" استخبارات ما قبل الحرب وحاول اشاعة الخوف في صفوف الشعب البريطاني لتبرير الذهاب الى الحرب، لكان بلير قد جبن وقال "اعتقد انك لا تستطيع ان تمنع فلاناً من ان يكون فلاناً نفسه". وكما كان، فقد تصرف هاتون وبتلر مثل فرانكس، كمرافقين ينفذان الواجب. ويجب على الدستور ان يوجد طرقاً اخرى لدعوة الحكومة الى تحمل المسؤولة.
كان أقل الكلاب نباحاً بشأن العراق هو المجلس الوزاري. وكان نظراء بلير السابقون كافة قد اعتبروا انفسهم عرضة للاختراق أمام مجالسهم الوزارية. وفي لحظات الازمات، فان هذا هو الجسم الذي اما يدعم رئيس الوزراء أو يسقطه. انه المؤسسة المركزية للحكومة المؤلفة من اصدقاء القائد ومنافسيه وخلفائه المحتملين. ويستمد الحزب ريادته في البرلمان من هذه الاوليغاركية كما يفعل الحزب في البلد. وقد بقي المجلس الوزاري مشدودا كثيرا في ظل بلير إلى درجة بقائه حزب عمال عدائي النزعة مخلصاً لسياسته ازاء العراق. وهذه الظاهرة، بلا شك، هي التي غذت احساس بلير بالشمولية.
وفي حين انه يمكن استنتاج الكثير من تأثير بلير على الدستور (او تأثير اي رئيس للوزراء) الا ان تفوقه الانتخابي قد غير بلا شك ديناميات المسؤولية. فبدعم من الوزراء واعضاء البرلمان، جاء التحدي الوحيد الذي واجهه من براون. وهو تحد لم يكن قابلا للتعامل معه. ولم يسبق ان كان اي رئيس وزراء، ربما منذ زمن وول بول خاليا كذلك من اي مؤامرات وتهديدات لمنصبه مثل بلير. ولذلك كان باستطاعته أن يفعل ما يشاء.
وهكذا، فإنه ليس هناك "لوم بخصوص العراق" للتحقيق فيه، اذ يعزو بلير الفضل لنفسه في الوقت نفسه الذي يقبل فيه اللوم. لقد انتخبت بريطانيا رئيس وزراء له اغلبية قوية تمكنه من التغلب على الاختبارات العادية المفروضة على مكتبه. وهو ليس لديه في الوطن شيء اكثر الحاحا من الضغط على التوجهات التاتشرية في قطاع الخدمات العامة. لكن توقه الى لعب دور عالمي قاده للسقوط ضحية للايديولوجية الغامضة والاغوائية لتوجهات نزعة المحافظين الجدد العالمية. وقد كانت تلك هي الايديولوجية نفسها التي سيطرت على المكتب الذي طالما اعجب به بلير، الا وهو الرئاسة الاميركية في ظل جورج دبليو بوش. ومذ ذلك الوقت، ظل تحت رحمة القرارات التي اتخذت في واشنطن. وقد أدهشت عدم قدرته على التأثير في تلك القرارات كل المحيطين به. ولا يستحق بلير وبريطانيا ان يكونا اكثر من مَراجع عابرة في اي من الكتب العشرين عن العراق الموضوعة في مكتبتي.
منذ المرحلة المبكرة لمحاولة بلير الارتقاء الى زعامة حزب العمال، كان هدفه تكريس السيطرة المطلقة من خلال مكتب زعيم الحزب. وكانت القيادة والتنفيذ وتحديد الهدف والنزعة "النابليونية" هي هوية الحراك اليومي. وكان الوسط دائما محقا. وساد ما يريده توني دائما.
لكن المفارقة الكبرى ربما تكون ان السياسة الواحدة التي دمرت إرثه هي نفس تلك التي ضحى من اجلها بتلك السيطرة .. إنها سياسته تجاه العراق.